الحركة العمالية بعد 30 يونيو: مخاطر وآفاق
مصطفى بسيوني مصطفى بسيوني

الحركة العمالية بعد 30 يونيو: مخاطر وآفاق

في تقريره الصادر عن الحركة العمالية عام 2012 يشير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أن الاحتجاجات العمالية في هذا العام وحده فاقت مجموع الاحتجاجات في الأعوام العشرة السابقة على ثورة يناير، وأن النصف الثاني من هذا العام كان الأكبر من حيق عدد الاحتجاجات الاجتماعية أي فترة حكم محمد مرسي.

 

هذا الإحصاء يدعمه بقوة إحصاء مؤشر الديموقراطية الصادر عن المركز التنموي الدولي، والذي يشير إلى أن الشهور الخمسة الأولى في عام 2013 والتي سبقت مباشرة انتفاضة 30 يونيو كانت الأكبر على الإطلاق من حيث عدد الاحتجاجات العمالية وفاق عدد الاحتجاجات في الشهور الخمسة مجموع الاحتجاجات التي وقعت في عام 2012 بالكامل.

هذا الصعود الهائل في الحركة العمالية والنضال الاجتماعي قبيل انتفاضة 30 يونيو كان يعبر عن حجم الغضب في الأوساط العمالية بعد مرور عامين ونصف على ثورة يناير 2011 والتي سبقها أيضا موجة عارمة من النضال العمال، وبلو خلالها العمال مطالب رئيسية أصبحت ملازمة للحركة العمالية مثل، رفع الحد الأدنى للأجور وحماية الحق في العمل ضد الفصل والبطالة والحق في التنظيم العمالي المستقل عن الدولة وأجهزتها. عامان ونصف بعد الثورة كانت كافية جدا بالنسبة للعمال لإدراك أن الحكومات والحكام الذين جاءوا بعد الثورة لا يمتلكوا لا الرغبة ولا الإرادة لتلبية مطالب العمال وتحسين أوضاعهم بعد الدور الذي لعبته الحركة العمالية قبل وأثناء الثورة. لقد كانت السياسات المعادية للطبقة العاملة واضحة منذ اللحظة الأولى. فعقب الثورة مباشرة أصدر المجلس العسكري تشريعا يحظر الإضرابات ويتيح تحويل العمال المضربين للمحاكم العسكرية. كما تعرضت الإضرابات العمالية في عهد مرسي لأساليب جديدة من القمع مثل استخدام الكلاب البوليسية في فض الإضراب، واستدعاء العمال المضربين للخدمة العسكرية كما حدث في إضراب السكة الحديد في أبريل 2013. في الوقت نفسه لم يحدث أي تقدم على صعيد الاستجابة للمطالب الرئيسية للعمال ولم يطرأ تحسن على أوضاعهم بل على العكس ساءت أوضاع العمال أكثر بعد الثورة. إستمرار تصاعد الاحتجاجات العمالية عقب الثورة واتساع نطاقها كان مبررا بالفعل بتجاهل مطالب العمال والاتجاه لقمع الحركة العمالية.

عقب انتفاضة 30 يونيو طرأ تغيرا هاما في الخطاب الرسمي تجاه الحركة العمالية. فقد حاول الخطاب الحكومي إقناع الطبقة العاملة بجديته في الاهتمام بأوضاع العمال ومطالبهم. بدا ذلك من تكليف كمال ابو عيطة القيادي العمالي ومؤسس أول نقابة مستقلة والذي اشتهر بهتافاته من أجل الحد الأدنى للأجور وزيرا للقوى العاملة. وطرح المطالب الرئيسية للعمال على بساط البحث مثل إصدار قانون الحريات النقابية المعطل منذ سنوات وإصدار قرار برفع الحد الأدنى لإجمالي الدخل النقدي إلى 1200 للعاملين بالحكومة والقطاع العام ومناقشة إعادة تشغيل الشركات المتعطلة. بدت الدولة عقب 30 يونيو أكثر استيعابا للدرس الذي مرت به الحكومات المتتالية.

فالغليان الذي عم الحركة العمالية قبل 30 يونيو ما كان ليهدأ دون إبداء الحكومة نوايا حسنة تجاه مطالب العمال. ولكن الإشارات الجيدة التي أرسلتها الدولة للحركة العمالية اقترنت بإشارات أخرى تحمل معنى مختلف تماما. فقيام قوات الجيش بفض اعتصام عمال السويس للصلب بالقوة وإلقاء القبض على عدد من العمال. ودخول الدبابات إلى ساحة شركة غزل المحلة أثناء الإضراب لإرهاب العمال. والخطاب الإعلامي الموجه ضد أي احتجاجات عمالية واعتبارها جزء من محاولة الإخوان المسلمين لإرباك الدولة. كلها أمور تعني أن المرونة التي تبديها الدولة في هذه المرحلة تجاه مطالب العمال لا تمثل تحول جوهري في موقف الدولة من العمال. وإنما تذكر بنفس المرونة التي أبدتها حكومات وأنظمة متعاقبة تجاه مطالب العمال لتهدئة الحركة العمالية. ومثلا قد يمثل اختيار كمال ابو عيطة القائد العمالي وزيرا للقوى العاملة رسالة طمأنة جيدة للحركة العمالية، ولكن توزيع باقي حقائب المجموعة الاقتصادية على وزراء يمينين وبيروقراطيين وهي الوزارات الأكثر ثقلا في اتخاذ القرارات المؤثرة في أوضاع العمال يثير الكثير من الشكوك حول جدية الدولة في الوفاء بتعهداتها تجاه الحركة العمالية.

لقد كان التردد واضحا في اتخاذ قرار الحد الأدنى للأجور الذي سبقه قرارات محبطة جدا للعمال من كبار مسئولي الحكومة. ثم جاء القرار مبتورا عندما اختص العاملين في الدولة والقطاع العام فقط وخلا من تفاصيل التمويل والتدرج الوظيفي ما يعني انه اتخذ على عجل ودون تخطيط مسبق ما يعني أن الحكومة لا تحمل انحيازا واضحا تجاه مطالب العمال ولكنها تتحرك وفقا لضغوط وتوازنات كل لحظة، حتى عندما لا تحمل تلك اللحظة غليانا عماليا ضاغطا إلا أن تأثير الحركة العمالية في الفترة السابقة والرأي العام الذي خلقته بين العمال والفقراء والتعقيدات السياسية التي تتصدر المشهد تؤثر جميعها في القرارات المتعلقة بالعمال.

من هنا تأتي أهمية الحفاظ على زخم وثبات الحركة العمالية وتطويرها تنظيميا. لقد واكب انتفاضة 30 يونيو تحولا مهما في موقف ودور النقابات العمالية. فبعد أن تمكنت الحركة العمالية في 2008 من بناء تنظيمات نقابية مستقلة عن الدولة لتقطع نصف قرن من توظيف النقابات العمالية لصالح الدولة، بدا موقف النقابات العمالية سواء الرسمية أو المستقلة يحمل الحنين للعودة إلى أحضان الدولة فقد أعلن عددا كبيرا من النقابات والاتحادات العمالية الاصطفاف إلى جانب الدولة ضد جماعة الاخوان المسلمين.

وإذا كان مناهضة النقابات العمالية لجماعة الإخوان لما شهدته الحركة العمالية خلال حكم مرسي من قمع للحركة العمالية وإهدار لحقوقها، إلا أن الحركة العمالية والنقابية لا ينبغي أن يكون موقفها تابعا لا للدولة ولا للأحزاب السياسية أو غيرها. لقد حملت مواقف النقابات العمالية تصريحا وتلميحا تخليها عن الإضرابات العمالية والاحتجاجات في مرحلة “الحرب على الإرهاب” والحفاظ على “عجلة الإنتاج” هذا ما يعيد إلى الأذهان الدور الذي لعبته النقابات التابعة للدولة عندما كان يقتصر دورها على أن تكون ذراعا عمالية للسلطة وهو الخطر الذي يتهدد النقابات المستقلة اليوم. كما أن عودة نفوذ الاتحاد الرسمي للعمال والذي كان اهتز بقوة عقب صعود حركة استقلال النقابات وخاصة بعد ثورة يناير واتهام رموزه في موقعة الجمل، هذا النفوذ الذي ظهر في قدرته على تعطيل إصدار قانون الحريات النقابية وتزايد دوره في تعديل الدستور على حساب الحركة النقابية المستقلة، يعني أن الدولة لن تفرط في ذراعها العمالية وأنها ستجتهد في تطويع بقية الأذرع أو بترها. وهو ما يهدد بإهدار أهم مكاسب الحركة العمالية التي انفجرت منذ إضراب ديسمبر 2006 في شركة غزل المحلة وهو التنظيم النقابي المستقل.

يمكن أن تتطور الأمور بالفعل في هذا الاتجاه إذا وضعنا في الاعتبار حجم التعبئة التي صنعتها الدولة تحت زعم مواجهة الإرهاب وإسكات أي صوت مختلف حتى لو كان معارضا للإخوان المسلمين بالفعل. كما أن استخدام الدولة للخطاب المعتدل تجاه المطالب العمالية والتلويح بمكاسب مؤجلة للعمال يمكن أن يساهم في خلق حالة تهدئة في الأوساط العمالية تستطيع خلالها الدولة ترتيب الأوضاع النقابية والسيطرة عليها. ولكن ليس هذا هو الاحتمال الوحيد. فقد أثبتت الحركة العمالية منذ 2006 وحتى الآن مرورا بأربعة أنظمة وستة حكومات أنها قادرة على الصمود في وجه محاولات القمع وكشف محاولات الخداع، كان لاستمرار وتيرة الحركة العمالية وتمسك العمال بمطالبهم هو العامل الحسام في ذلك، وهو أيضا ما ساهم في تطوير وعي وتنظيم الحركة العمالية. وهو أهم ما تحتاجه الحركة العمالية اليوم. التمسك بالمطالب والحفاظ على وتيرة الحركة الاحتجاجية وتطويرها، ليكون بالإمكان الحفاظ على التنظيمات النقابية التي انتزعتها الحركة وتطويرها أو استبدالها.

يبدو إضراب عمال شركة المحلة قبل إجازة عيد الأضحى الماضي أحد المؤشرات الهامة في هذا الاتجاه، فالإضراب هو الثالث خلال شهرين، وكان المطلب المشترك في الإضرابات الثلاثة هو صرف الأرباح، وقد نجح العمال في كل مرة في انتزاع المطلب. وفي الجولة الأخيرة شهد الإضراب تطورا ملحوظا باحتلال العمال مقر الإدارة والاستمرار في الإضراب حتى تنفيذ مطلب العمال على الرغم من أن الوقت كان حرجا وكانت إجازة العيد على وشك البدء. إن توالي إضرابات عمال المحلة وتماسكها في مواجهة الدعاية الرسمية وتطورها بإيقاع منتظم يؤكد أن الحركة العمالية قادرة على استكمال صعودها وإعادة خلق البيئة الملائمة لاستكمال الثورة وعدم الخضوع لابتزاز شعارات الحرب على الإرهاب. حتى ما عرضته بعض وسائل الإعلام من أن العمال رفعوا صور السيسي في إضراب المحلة لا يذكر سوى بما عرضته نفس وسائل الإعلام قبل الثورة والتي كانت تعرض استنجاد العمال في إضراباتهم بجمال مبارك، ولا لمفارقة أن الإضرابات العمالية وقتها كانت المقدمة للثورة ضد مشروع التوريث.

تقف الحركة العمالية اليوم في مواجهة مأزق حقيقي قد يبدو أكبر من سابقيه، ولكنه بالتأكيد، وكما يتضح من مسار تطورها ومن نضالاتها الأخيرة، ليس أكبر من قدرة الطبقة العاملة على تجاوزه.

 

* المقال منشور في العدد 24 من مجلة أوراق اشتراكية – تشرين الثاني 2013