الديمقراطية والطائفية والخبز
محمد الجندي محمد الجندي

الديمقراطية والطائفية والخبز

«الديمقراطية» والطائفية هما الأداتان اللتان استخدمتهما، وتستخدمهما الإدارة الأمريكية على نطاق واسع للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولخلق الاضطرابات، بل والمجازر في مختلف البلدان.

الديمقراطية هي تراث تاريخي لنضال الإنسان من أجل الحرية، وحققتها الثورة الفرنسية في 1789، وعمقتها ثورة الجبليين في 1792، التي عصفت بالملكية الفرنسية، وأقامت أول نظام جمهوري، والتي انتكست بانقلاب الرجعية الفرنسية، التي أدت في النهاية إلى إقامة إمبراطورية نابوليون الأول، وإلى الحروب، التي هدرت فيها الإمكانات الفرنسية، وغدر فيها الجيش، الذي بنته الجمهورية، وإلى هزيمة ووترلو مع بريطانيا، وسقوط الإمبراطورية لصالح ملكية رجعية.

وذلك التراث التاريخي ليس هو ما تطرحه الإدارة الأمريكية، التي تتجسد الديمقراطية لديها في كل معارضة، تقوم هي بفبركتها، لمحاربة أي نظام يخرج عن سيطرتها إلى هذا الحد أو ذاك، وكانت المعارضات المسيرة أمريكيا، يقودها عسكريون، فتقوم بانقلابات عسكرية دموية أحياناً. كما في تشيلي بينوشيت، وإندونيسيا سوهارتو، وغيرهما، وأقل دموية أحياناً أخرى، ثم صارت مقودة بالطائفية، تقوم بتمزيق المجتمعات، وبإشعال المجازر في كل مكان.

 ومن الواضح أن تلك الأنظمة الاستبدادية ليس من الديمقراطية في شيء.

والطائفية لا تبني أنظمة، وليست مهمتها أن تبني أنظمة وإنما مهمتها أن تمزق المجتمعات، وأن تشكل المجازر، وأن تنشئ في النهاية مشيخات ضعيفة التطور، ضعيفة في كل شيء وتابعة. أيضاً مثل تلك المشيخات ليست من الديمقراطية في شيء.

 

الدين والتديّن!

الدين هو تراث إنساني، والتدين، أي الارتباط بالدين، هو موروث عائلي عموماً، فأبناء المسلمين، مثلاً، هم مسلمون أو كذلك هم أبناء الأديان والمذاهب الأخرى، والتدين العفوي لا يتسبب غالباً بإشكالات اجتماعية أو سياسية، فقد تعايشت الأديان والمذاهب في الماضي سنين طوالاً، رغم أن الطوائف كانت تتناحر بين وقت وآخر، وكانت للتناحرات أسبابها وظروفها، مثلاً، الخليفة الإسلامي عبد الملك بن مروان، لم يكن ضد العراقيين، لأنهم غير مسلمين، وإنما لأن البيئة العراقية كانت تحتضن بذور المقاومة ضد الأمويين. أي لم يكن الدين سبباً للخلاف.

هناك فرق كبير بين توظيف التدين في خلق الصراعات الطائفية، وبين التدين العفوي.

في شبه القارة الهندية وظف التديّن في ظل الاستعمار الانكليزي لفصل باكستان عن شبه القارة، ولخلق مشكلة كشمير، ولم يكن التدين العفوي هو السبب الحقيقي، وإنما توظيف التدين، بدليل انفصال بنغلادش عن باكستان، مع تجانس شعبي البلدين ديناً وعرقاً وثقافةً. 

 إن نصب الفخ «الديمقراطي» والفخ الطائفي يتم بتمويل يصل أحياناً إلى المليارات، التي تدفع أغلبها حلفاء الإدارة الأمريكية، أما هي فتربي الكادرات، «الزعماء» و«مشاريع الزعماء» الديمقراطيين والطائفيين والقبليين. هؤلاء يتلقون أجوراً مجزية لقاء خدماتهم. أما الناس العاديون. فيقعون في الفخ بمكافآت بسيطة تتضاءل إلى حد التطوع.

والشريحة العليا، تعرف اللعبة، ولا تتوهم غالباً في أنها تخدم قضايا عامة، أما الشرائح الأدنى، فتصدق ببساطة، وتكون شرسة إلى درجة الانتحار في سبيل أوهامها.

ذلك هو جريمة عظمى على مستوى البلدان والدول، وعلى مستوى الإنسان، إذ تحوله إلى أداة رخيصة ومغيبة عن التاريخ، وبمثابة المقتولة، في سبيل المخططات الاستعمارية، وجريمة تجاه المستقبل، لأنها تدمر أثمن شيء على الكوكب، وهو الإنسان، ولكنها في نفس الوقت مأساة إنسانية شاملة. حيث يدمر الإنسان نفسه بنفسه تحت أي لافتة كانت.

وفي معمعة «الديمقراطية» والطائفية ينسى الإنسان الخبز كقضية عامة، الواقع أن أحداً لا ينسى الخبز، كأمر فردي، فالجوع يجعل مختلف الحاجات، وخصوصاً ذات الضرورة الأولية حيوية ويلبي الفرد حاجاته بأساليب مختلفة، بالسيطرة، وبالنهب، وبالسرقة، وبالاختلاس، وبالولاء للعصابات، أو بالتطوع في الميليشيات والجيوش، وبالحرفة، وبالاستثمار الفلاحي، وبالعمل لدى الرأسماليين، أو لدى الفئات الميسورة.

الجوع للخبز، ولمختلف الحاجات، يوزع الناس أسياداً وعبيداً، وكما تختلف درجة السيادة تختلف درجة العبودية، وتندرج من المؤهلين، الذين يحصلون على موارد، أو أجور مجزية إلى عمال المنازل والطرقات، الذين لا يحصلون على القوت إلا بشق الأنفس، وعلى الهامش يعيش المتسولون والمشردون.

الحاجة للخبز ضرورية وهامة، ومن المفروض أن تتحول هذه إلى قضية عامة، هي أهم القضايا، وأشدها حيوية.

والأنظمة التي تدير المجتمعات لا يمكن أن تجعل الخبز قضية عامة إلا إذا كانت تمثل الطبقة العاملة.

وفي غياب تمثيل الأنظمة للطبقة العاملة يغيب الاهتمام العام بقضية الخبز، أي بقضية حاجات المجتمع ككل وحاجات الأفراد، وغياب ذلك الاهتمام يحول موضوعات الاهتمام العام إلى مختلف «القضايا» إما الثانوية أو المتناقضة مع مصالح المجتمع وربما مع وجوده.

البلدان الأوروبية المتطورة بإدارة الرأسمالية الدولية كان اهتمامها هو في التوسع الاستعماري وفي غزو مختلف مناطق العالم. أيضاً اهتمام الإدارة الأمريكية هو في إعادة غزو العالم.

وبلدان العالم الثالث، يتعلق اهتمامها ببناء أوليغارشيات (أي مجموعات ذات نفوذ) تستنزف مختلف إمكانات المجتمع على حساب اقتصاده وأمنه ومستقبله، وبالتعاون مع القوى الخارجية.

الحروب بمختلف أنواعها وملابساتها هي ثمرة لانحراف الاهتمام العام عن حاجات المجتمع، فهي ليست في مصلحة أحد، وأصبحت خطرة، لدرجة، أنها تهدد الوجود الإنساني.

والإرهاب هو شكل من تلك الحروب، فليس هو اندفاعة عفوية، وإنما هو تجنيد منظم محول ومدرب، فهو ثمرة من الانحراف عن الاهتمام العام عن حاجات المجتمع.

وعلى ذكر الارهاب، هناك كذب في معالجته. فالإدارة الأمريكية توظف الإرهاب في مخططاتها بطريقتين. فهي تطلقه ضد ما لا يعجبها من الأنظمة، وتتخذه ذريعة في نفس الوقت لغزو البلدان: لقد استخدمته مثلاً ضد النظام الأفغاني، ثم اتخذته ذريعة لغزو أفغانستان.

والإرهاب يؤلف مأساة متعددة الجوانب، لقد أدى مهمات رهيبة في مختلف بلدان العالم، في بلدان أوروبا الشرقية وفي يوغوسلافيا السابقة وفي أفغانستان وفي الصومال وفي بلدان «الربيع» العربي، إلخ. ولكن أيضاً على البلدان التي ساهمت قليلاً أو كثيراً في تنظيمه، فقد ارتكب فظائع في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة إلخ.

وعدا زعزعة الأمن والتخريب في كل مكان فالإرهاب ينتج مجموعات واسعة من البشر، هم ضحايا التجهيل وغسل الأدمغة، وضحايا القتل، إما في حروبهم أو في حالة التخلص منهم بعد انتهاء مهمتهم.

 

والمأساة الأهم هي ما يتعلق بالبلدان التي هي ضحية للإرهاب. أفغانستان والصومال تحولتا إلى حزاب، وتونس، البلد الذي كان يلقب بلبنان المغرب الغربي، فرضت عليه إدارة مملوكية، لم يعرف الشعب بعد كيف يتخلص منها، إدارة مماثلة، وحاولت فرض نفسها على مصر، أكبر دولة عربية، وليبيا أصبحت مرتعاً لصراع قبلي لا ينتهي إلخ.

أصبحت الشعوب والبلدان في أمس الحاجة لقيام الطبقة العاملة بدورها، فهي وحدها التي تستطيع أن تنفذ الشعوب من التجهيل ومن غسل الأدمغة ومن الحروب.   وحدها تستطيع بنضالها أن تحول العبيد إلى أحرار، وأن تحول حاجات المجتمع إلى قضية عامة، يشترك الجميع في حلها، وحدها تستطيع أن تحول الثروات الطبيعية إلى ملكية عامة بدلاً من أن تكون ملكاً للأمراء أو الأوليغارشات، وأن تحول ثمار الإنتاج ككل. وحدها تستطيع أن تطور المجتمع علمياً وتكنولوجيا وثقافة وإدارة، وحدها تستطيع أن تحول المصلحة العليا الآنية والمستقبلية للفرد إلى مصلحة اجتماعية، وحدها تستطيع أن توحد بين الإنتاج وإدارة الإنتاج وبين مصلحة الوطن العامة والخاصة.

غير أن الطبقة العاملة لا تقوم بدورها إلا من خلال أحزابها وتشكيلاتها النقابية. وهذه مطلوب منها اليوم، أكثر من أي وقت مضى. أن تتصدى للهجمة الشرسة والعدوانية التي تمارسها الإدارة الأمريكية ضد الشعوب وضد البلدان، بل وضد حياة الإنسان على الكوكب.

إن تعبئة الإمكانات المتنوعة من أجل التجهيل، ورد الإنسان إلى الماضي العبودي، واستخدام ذلك في إطلاق غرائز الصراع الوحشي وفي إشعال المجازر وتمزيق المجتمعات، وأيضاً القيام بغزو البلدان وشن مختلف الحروب وهدر الثروات الثمينة، مثل الثروات الهيدروكابونية وتسميم البيئة، كل ذلك هو ضد الإنسان ومستقبله وحياته، بما في ذلك إنسان أوروبا والولايات المتحدة.

والأحزاب الوطنية، أي حزب الدفاع عن الوطن وأحزاب الطبقة العاملة، سواء أرادت أم لا، هي في صراع حياة أو موت مع عدوانية الإدارة الأمريكية ضد شعبها وضد شعوب العالم.

حياة الإنسان ومستقبله على الكوكب هما بأمس الحاجة للنضال الوطني، ولنضال أحزاب الطبقة العاملة.