الاتحاد الأوروبي في طريق التفكك؟
إنّه لما يصدم رؤية حكومة اليمين الموجودة في السلطة في إيطاليا منذ 2018 رفضها تقليص العجز في الميزانية، بينما تُذعن ما تسمّى بالحكومات اليسارية لقيود التقشف. الناس في منطقة اليورو لم يكونوا أكثر قرفاً من السياسات التي يفرضها القادة الأوروبيون ورأس المال الكبير عليهم، ولهذا فإنّ الوقت المناسب الآن أمام اليسار الجذري لأن يبدأ بمواجهة بنى الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. لقد حان الوقت لكشف أزمة شرعيته، واستخدام هذه الأزمة كوسيلة لمقارعة التحديات التي يواجهها السكان.
تعريب وإعداد: عروة درويش
إنّ الطريقة التي أدارت فيها الحكومات، الأزمة الاقتصادية والمصرفية التي بدأت في 2007-2008 قادت إلى زيادة هائلة في الدَّين العام. واعتباراً من أيّار 2010 باتت مسألة الدَّين العام مصدر قلقٍ رئيسٍ لليونان، ولبقيّة منطقة اليورو. فقد نتج عن البرنامج الأول- بقيمة 110 مليار يورو، والذي فرضته ترويكا أنشئت خصيصاً لإنفاذه- زيادة وحشية في الدَّين العام اليوناني. والحال كان كذلك أيضاً في إيرلندا 2010، والبرتغال 2011، وقبرص 2013، وإسبانيا.
يجب تعلّم الدروس من السياسات الفاشلة التي تبنتها حكومة أليكسيس تسيبراس في 2015 لكسر قيود التقشف. كما أنّه من الضروري أيضاً أن ندرك حدود حكومة الأقليّة الاشتراكية لأنطونيو كوستا في البرتغال.
على السياسات البديلة المنحازة لمصالح الشعب أن تتعامل بشكل متزامن مع التقشف والدَّين العام والمصارف الخاصة ومنطقة اليورو، وأن تُقارع الميل النخبوي لدعم السلطات القمعية، وأن تحرص على صياغة دستور جديد. تُظهر التجربة القصيرة في منطقة اليورو بين 2010 و2018 بأنّه يستحيل كسر قيود التقشف ما لم تكن الاستجابة- على جميع المشاكل المذكور- تقدمية. كما لا بدّ من معالجة مشاكل المناخ بكل تأكيد، وكذلك الأزمات الإنسانية التي تسببها: – سياسة تحصين الحدود الأوروبية والتي تؤدي لمقتل الكثيرين من المهاجرين وطالبي اللجوء الآتين عبر المتوسط، – والأزمة في شرق المتوسط، – وتصاعد اليمين والفاشية. وعلى اليسار الجذري الأوروبي أن يمدّ الصلات مع الحركات اليسارية الجذرية والنقابية والنسوية والبيئية في الولايات المتحدة، والتي تناهض المؤسسة القائمة وترامب، وكذلك من الحاسم أن تُمدّ هذه الصلات إلى اليسار البريطاني بزعامة كوربين.
التمرد على شروط
الدائنين وبرامج التقشف
إنّ مشكلة اليسار غير الجذري أنّه لا يزال يرى في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو فرصة للعودة إلى السياسات الديمقراطية الاجتماعية وإلى الإجراءات الكينزية الأقل ظلماً من أجل إعادة إطلاق الاقتصاد. لكنّ الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو غير قابلين للإصلاح. فقد بدا واضحاً من تجربة عام 2015 استحالة الحديث مع المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي عن احترام النقاش الديمقراطي والاقتراع العام الشرعي عندما تعلّق الأمر باليونان، أو عندما سيتعلق بالشرعية في دولة أخرى. لقد رفضت هذه المؤسسات النخبوية استفتاء الخامس من تموز- حول قبول مقترحات الإنقاذ المالي التي قدمها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي- بأظافرها وأسنانها من خلال الابتزاز والإجبار (مثل: إجبار المصارف اليونانية على إغلاق أبوابها لخمسة أيام سابقة للاستفتاء)، بل قامت بأكثر من ذلك بتجاهلها للمبادئ الديمقراطية وباتت مطالبها أكثر قمعية.
وحتّى الاقتراحات التي يمكن تصنيفها بأنّها مُجدية اقتصادياً ومُعتدلة، لم تجد فرصة لقبولها من قبل السلطات الأوروبية، مثل الذي تقدم به يانيس فاروفاكيس في شباط 2015، وزير الاقتصاد اليوناني في حينه، بأن يتم استبدال الدَّين اليوناني بنوعين جديدين من السندات– إمّا مقترنة بالنمو أو ثابتة– حيث سيكون على اليونان أن تدفع الفوائد بشكل ثابت. لقد لقي هذا الاقتراح الرفض كغيره من الاقتراحات التي قدمتها البلدان المَدِينة (مثل الدَّين المشترك أو السندات المقومة باليورو بشكل تبادلي... إلخ)، والتي كانت قابلة للحياة لو وجدت لها أذناً مصغية. لا يمكن لحكومة تقدمية أن تأمل بأن يتم الاستماع لها أو احترامها، أو على الأقل مساعدتها، من قبل المفوضية الأوروبية أو من البنك المركزي الأوروبي أو من «آلية الاستقرار الأوروبي». وهو ما يجب أخذه بالاعتبار من قبل الأحزاب التي وضعت اقتراحات شبيهة للانتخابات الأوروبية القادمة في أيار 2019.
يمكن للبنك المركزي الأوروبي أن يشلّ نظام المصارف في منطقة اليورو عبر منع المصارف من الوصول إلى السيولة، وقد استخدمت هذه الآلية للهيمنة من قبل البنك المركزي، ومن قبل الاتحاد المصرفي من أجل دعم تسلط المؤسسات الأوروبية على اليونان عام 2015، وذلك للتأكد من فشل أيّة محاولات صعود حكومة تقدمية.
إنّ أزمة اليونان قادرة على جعلنا نرى بوضوح الكَنْه الحقيقي لمعاهدة الاتحاد الأوروبي. فرغم أنّ الحكومة اليونانية قامت بأكثر ممّا يلزم لتثبت بأنّها «حكومة معتدلة»، فقد واظب الإعلام السائد وقادة أوروبا على معاملة أليكسيس تسيبراس ويانيس فاروفاكيس بوصفهم مُتمردَين، أو حتّى بوصفهم جذريين مناهضَين لأوروبا. لقد حاربت الترويكا تجربة الحكومة اليونانية بين كانون الثاني وتموز 2015 من أجل أن تري الشعوب الأوروبية بأنّه لا بديل عن الرأسمالية النيوليبرالية.
لم يُرضِ إذعان حكومة تسيبراس الأولى صندوق النقد الدولي وقادة أوروبا بما يكفي، فاستمرت الضغوط على حكومته الثانية لتطبيق سياسات نيوليبرالية أكثر، وخاصة الهجوم على الملكية العامّة وأنظمة التقاعد والرفاه، ومساعدة رؤوس الأموال الكبرى عبر إدخال المزيد من الإجراءات القضائية والقانونية التي تشكّل انحداراً جوهرياً بنيوياً لصالح عمليات الخصخصة.
وتطول اللائحة بهذه الإجراءات ومنها: تغيير تشريع إفلاس الشركات، بحيث تكون الأولوية لسداد ديونها للمصارف على حساب موظفيها ورواتب التقاعد. تهميش السلطات العامة بشكل كُلّي بما يخص المصارف. زيادة سلطة الهيئات المستقلة لجمع الضرائب. زيادة التراجع في قوانين حماية التقاعد وقوانين حماية العمل والعمّال وحقّهم في الإضراب. زيادة الخصخصة. تبني تشريعات تسمح بطرد المستأجرين المديينين من منازلهم بالقوة والسماح ببيع ممتلكاتهم في مزاد عبر الإنترنت، وقمع المواطنين الذين يُقدمون العون للأشخاص المعرضين لخطر الإخلاء. آليات تخفيضات تلقائيّة للميزانية إن لم يتم الوفاء بأهداف فائض الموازنة المحدد في البروتوكول الثالث، ورغم ذلك عندما خرجت اليونان بشكل رسمي من البروتوكول الثالث في 10 آب 2018، بقيت قيود الموازنة ذاتها سارية.
يجب أن يكون الدرس الأول الذي يتم استخلاصه من كلّ هذا هو: لا يمكن للشعوب ولا للسلطات التي يتم تقييدها ببرامج التقشف أن تضع حداً لخروقات حقوق الإنسان التي يقوم بها الدائنون والشركات الكبيرة، ما لم تتخذ إجراءات قويّة أحاديّة الجانب للدفاع عن نفسها.
إستراتيجية أممية في وجه رأس المال
يجادل البعض بأنّه في حال وصول حكومة يسارية إلى مدريد، فيمكنها عندها أن تستخدم وزنها الاقتصادي (بوصفها رابع أكبر اقتصاد في منطقة اليورو) للتفاوض بشأن التنازلات التي لم يستطع تسيبارس في اليونان أن يحصل عليها. لكن عن أيّة تنازلات نتحدث؟ أهو إعادة إطلاق الإنتاج والتشغيل من خلال الإنفاق العام الكبير والعُجوز؟ سيعارض البنك المركزي الأوروبي وبرلين ومعهما على الأقل خمسُة أو ستّة رؤوس أموال كبرى اتباع مثل هكذا سياسة. أيعني هذا اتخاذ إجراءات مشددة اتجاه المصارف؟ سيرفض البنك المركزي الأوروبي اتباع هكذا سياسات وستدعمه المفوضية الأوروبية.
والمؤكد أيضاً، هو أنّه في حال وصول اليسار الجذري لحكومات قبرص أو إيرلندا أو البرتغال أو سلوفينيا أو إحدى دول البلطيق الثلاثة، فلن تملك الوزن الكافي للوقوف في وجه المفوضية الأوروبية أو البنك المركزي العنيدين، من أجل إقناعهما بالتنازل عن التقشف وإيقاف الخصخصة وتطوير الخدمات العامة وتقليص الدَّين بشكل كبير. سيكون على هذه الدول أن تقاوم وأن تتخذ إجراءات أحادية الجانب تكون في صالح شعوبها. هل بإمكان حكومات منطقة اليورو التقدمية أن تشكّل جبهة موحدة للتفاوض؟ سيكون مثل هذا الخيار مُرَحَّباً به بلا شك إن حدث، لكنّ إمكانية حدوثه بعيدة ضمن الظروف الانتخابية الحالية.