عن الرباعي الروسي الصيني الهندي الإيراني
مع نهاية لحظة العالم أحادي القطب التي شهدت هيمنة واشنطن على العلاقات الدولية، فإنّ الدول اليوراسية الثريّة والقويّة قد بدأت بالفعل بتنظيم نفسها ضمن هياكل تحالف واتفاقيات تهدف لتسهيل الإتجار والتطوير والتعاون فيما بينها.
تعريب: عروة درويش
في ذروة لحظة الولايات المتحدة أحادية القطب، كان بيل كلينتون يقود دولة في مرحلة التعافي الاقتصادي الكامل، وكانت الإستراتيجيات التي ترسم في البنتاغون تخطط لتشكيل العالم على صورتهم وشاكلتهم. كان الهدف المعلن هو تغيير الأنظمة السياسية في جميع الدول التي تبدي عدم موافقتها، وهو ما سمح بتكاثر «الديمقراطيات» المصنعة أمريكياً في زوايا الأرض الأربع. وكان من الواضح بأنّ دولاً أوراسية مثل: روسيا والهند والصين وإيران كانت موضوعة على قمّة اللائحة، اللائحة التي ضمت دولاً من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كان قصف وتدمير يوغسلافيا، هو الخطوة النهائية في الهجوم على الاتحاد الروسي بعد انهيار حلف وارسو. مثل: يلتسن الوجه الذي قرر من خلاله التمويل الغربي أن يمتصّ ثروة روسيا ويخصخص الشركات وينهب الموارد الإستراتيجية.
بينما ولدت الصين في الجهة المقابلة من جديد كنتيجة لإعادة موضعة الشركات الصناعية الأمريكية والأوروبية لنفسها في الصين سعياً وراء ميزة العمالة زهيدة الثمن. بينما صارعت كلّ من الهند التي كانت مقربة تاريخياً من الاتحاد السوفييتي، وإيران المبغضة التاريخية لواشنطن، لإيجاد توازن جديد في العالم الذي تهيمن عليه واشنطن.
لقد كانت طهران في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة منذ الثورة الإسلامية التي حررت البلاد من الخضوع للغرب، في ظلّ حكم الشاه محمد رضا بهلوي. وفهمت الهند الواقع الجديد، فوضعت الأسس لتعاون وثيق مع واشنطن. بينما في وقت سابق كان استخدام الجهاديين في أفغانستان عبر التنسيق الوثيق بين باكستان والسعودية والولايات المتحدة، قد قوّض العلاقات بين الهند والولايات المتحدة على نحو خطير. ولهذا علينا أن نتذكر بأنّ نيودلهي كانت حليفاً هاماً لموسكو خلال الحرب الباردة.
في الوقت الذي تلا سقوط جدار برلين وإعلان بدء حقبة القطب الواحد، بدأت الهند وروسيا والصين وإيران بإعادة توجيه مساراتها التاريخية، رغم أنّ هذا البدء قد جرى من مواقع مختلفة جداً، واتخذ مسارات شديدة التباين. أدركت الهند بأنّ الولايات المتحدة تملك قوّة عسكرية واقتصادية فائقة تحت تصرفها. ورغم المعانقات المبكرة بين كلينتون ورئيس الوزراء الهندي آتال بيهاري فاجبايي، فقد وصلت العلاقات بين نيودلهي وواشنطن مستوى غير متوقع أثناء حقبة بوش. وقد ساعدت عدّة عناصر على لحم هذه الرابطة. فقد كان هناك أولاً: واقع النمو الاقتصادي الهندي العظيم. ثانياً: هو أنّ الهند منحت الولايات المتحدة الفرصة للتوازن واحتواء الصين، وهو سيناريو جيوسياسي كلاسيكي.
أثناء حقبة القطب الأحادي الدقيقة، كان هناك حدثان رئيسان مهمان بالنسبة لروسيا والصين، مثّلا بداية نهاية خطط واشنطن للهيمنة على الكوكب. الأول: هو وصول بوتين إلى رئاسة الاتحاد الفدرالي الروسي في كانون الأول 1999. ثانياً: قبول عضوية الصين في منظمة التجارة العالمية «WTO». فحلقت القوة الاقتصادية الصينية اليوم والفضل بذلك يعود للشركات الصناعية
الغربية التي أعادت موضعة إنتاجها في الصين سعياً وراء أرباح تفوق ثلاثة أضعاف، وتكاليف تقلّ عن النصف. لقد كان نموذجاً رابحاً بالنسبة للرأسماليين، ولكنّه نموذج خاسر بالنسبة لعمّال المصانع الغربيين كما نرى اليوم بعد عشرين عاماً على ذلك. كان الفكر الإستراتيجي لبوتين، الرئيس المنتخب حديثاً، ذو بصيرة جيوسياسية معتمدة على قاعدة إعادة تشكيل العقيدة العسكرية الروسية.
حاولت كلّ من روسيا والصين في بداية الأمر أن تتبعا خطوات الهند في شقّ طريق تعاون وتنمية مع واشنطن. حاولت موسكو بشكل صريح البدء بمباحثات مع واشنطن والناتو، لكنّ قرار الولايات المتحدة الذي تمّ اتخاذه عام 2002 بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للبالستية «ABM Treaty» وضع علامة على بداية نهاية الحلم الغربي بإدماج روسيا الاتحادية في الناتو. بالنسبة لبكين، فإنّ المسار كان أكثر انحداراً والفضل بذلك للحلقة المفرغة، حيث قام الغرب بإعادة موضعة نفسه في الصين سعياً للأرباح التي استثمرت في حينه في سوق البورصة الأمريكي، لتضاعف المكاسب عدّة مرات. بدا وأنّ الأمريكيين يملكون خطّة واضحة، حتّى مضى عشرون عاماً لتجد كامل الطبقة الوسطى والطبقة العاملة الأمريكية نفسها في حالة فقر.
في الفترة التي تلت 11 أيلول 2001، تحوّل تركيز واشنطن بعيداً عن مواجهة القوى الكبرى إلى ما سمته «محاربة» الإرهاب. كان هذا العذر وسيلة ملائمة لاحتلال بلدان ذات أهمية تكتيكية في أقاليم هامة إستراتيجياً على ظهر الكوكب. ففي أوراسيا وضعت الولايات المتحدة قواتها في أفغانستان بذريعة محاربة القاعدة وطالبان. وفي الشرق الأوسط احتلت العراق للمرة الثانية وحولتها إلى قاعدة عمليات لها، حيث ستزعزع استقرار بقية دول المنطقة في العقد التالي لذلك.
في حين اتخذت كلّ من الهند والصين طريق نمو سلمي كوسيلة لتعزيز موقعهما كقوتين اقتصاديتين في الإقليم الآسيوي، أدركت روسيا وإيران في وقت مبكر نوايا واشنطن التي ستطالهم في نهاية المطاف. كانت موسكو لا تزال تعتبر العدو المميت بالنسبة لمحافظي الحرب الباردة من المحافظين الجدد، بينما لم تتم لا مسامحة ولا نسيان الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979. في العقد الذي تلا 9/11 بدأ وضع الأسس لخلق نظام عالمي متعدد الأقطاب، لتولّد في أثناء عملية الانتقال الضخمة له، هذه الفوضى التي نشهدها اليوم.
تابعت الهند والصين في طريقهما لتصبحا عملاقين اقتصاديين، حتّى في وجود تنافس كامن، ولكن مستمر بينهما. بينما استمرّت روسيا وإيران في طريقهما في التجديد العسكري من أجل ضمان وجود ردع كافٍ لأية هجمات من قبل «الكيان الإسرائيلي» على إيران، أو من قبل الولايات المتحدة على روسيا.
كانت نقطة انكسار هذا التوازن الجيوسياسي الدقيق عند تشكّل ما يسمى «الربيع العربي» عام 2011. ففي حين استمرّت كلّ من الهند والصين في نموهما الاقتصادي، واستمرّت روسيا وإيران في صعودهما لتصبحا قوتين إقليميتين يصعب إزاحتهما. واستمرت الولايات المتحدة في هياجها أحادي القطب، فقصفت الصومال وأفغانستان والعراق بعد أن قامت قبل ذلك بوقت قصير بقصف يوغسلافيا. في الوقت الذي ابتكر فيه البنتاغون عمليات ذات بصمة- خفيفة في الشرق الأوسط بمساعدة من السعودية و«الكيان الإسرائيلي» وبريطانيا وفرنسا، وهم الذين ساعدوا في دعم وتسليح الجهاديين من أجل إشاعة الفوضى. أولاً: في تونس، ثمّ في مصر، وأخيراً: في ليبيا. المزيد من القنابل والمزيد من القتلى والمزيد من الفوضى. كانت إشارات التحذير واضحة لجميع القوى الإقليمية، بدءاً من الصين وروسيا وصولاً إلى الهند وإيران. وحتّى لو أنّ التضافر فيما بين هذه القوى ليس مثبَّتاً في مكانه بعد، فمن الواضح للجميع ما الذي يجب فعله. يجب احتواء زعزعة الاستقرار التي تقوم بها الولايات المتحدة حول الكوكب، مع التركيز بشكل رئيس على أوراسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ولهذا وببطء، وليس بشكل سهل خالٍ من المشاكل، بدأت هذه الدول الأربع تعاوناً عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً فيما بينها، لتسمح بعد قرابة العقد بنهاية لحظة القطب الأحادي التي تمتعت فيها الولايات المتحدة، وخلق واقع متعدد الأقطاب ذي مراكز قوى متنوعة.
كان التأكيد الأول على هذه المرحلة الجديدة في العلاقات الدولية، والذي حمل ميزة الروابط التاريخية، هو التعاون متعدد الأوجه بشكل متزايد بين الهند وروسيا. والعامل الآخر كان سحب روسيا والصين إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كنتيجة لأعمال إدارة أوباما في الشرق الأوسط مع «الربيع العربي» حيث دمرت ليبيا وزعزت استقرار سورية. خشيت القوتان من أنّ الفوضى طويلة الأمد في الإقليم ستؤدي في نهاية المطاف إلى عواقب سلبية على اقتصادايهما وعلى استقرارهما الاجتماعي.
وكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير هي انقلاب الأمر الواقع في أوكرانيا، وكذلك تصعيد الاستفزاز في بحر الصين الجنوبي بعد إطلاق الولايات المتحدة لما يدعى «محور آسيا». وعليه فقد كانت الصين وروسيا مجبرتين على الدخول في وضع كان يستحيل التفكير في إمكانية حدوثه في الأربعين عاماً الماضية: أن يضعا يداً بيد لتغيير النظام العالمي عبر إزاحة واشنطن عن منصّة قدراتها كقوّة عظمى. في البدء كانت هناك اتفاقات اقتصادية مذهلة تركت المخططين الغربيين في حالة حيرة مربكة. ثمّ بدأ التضافر العسكري، وأخيراً الدبلوماسي الذي تمّ التعبير عنه من خلال التصويت المنسق في مجلس أمن الأمم المتحدة. منذ عام 2014 وصاعداً وقّعت كلّ من الصين وروسيا على اتفاقيات هامّة وضعت حجر الأساس لاحتكار ثنائي أوراسي طويل الأمد.
لم يتوقف إرث أوباما مع إطلاق أكثر من 100 ألف جهادي متطرف في سورية، مولتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها. قاد هذا موسكو إلى التدخل في سورية لحماية حدودها وللتجنب الاستباقي للتقدم الجهادي في القوقاز، والمعروف عنها تاريخياً بأنّها الخاصرة الضعيفة لروسيا. هلل البنتاغون لهذا التحرّك بوصفه سيكون «فيتنام» جديدة بالنسبة لروسيا. لكنّ حساباتهم كانت خاطئة بشكل كلي. وقد قامت موسكو بالإضافة لإنقاذ سورية وإحباط خطط واشنطن وشركائها بتعزيز علاقاتها بشكل شديد مع إيران. العلاقات التي لم تكن بسيطة على الدوام، خاصة أثناء الفترة السوفيتية. وهذا ما حمل العلاقة بين الدولتين إلى مستوى التعاون الإقليمي.
شكّل إرث أوباما عن غير قصد مثلّثاً يضم إيران والصين وروسيا، ومشاريعهم للتنمية وللمشاريع والبرامج ذات المستوى العالي لأجل الإقليم وما بعده. لقد مثّل الأمر كارثة بالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك للنهاية غير المشكوك فيها للحلم أحادي القطب.
ثم بعد بضعة أعوام، نجد ترامب وقد بات في المقعد القيادي للولايات المتحدة الأمريكية، ليعيد ويكرر شعاراً واحداً: أمريكا أولاً. فاقم هذا الأمر من وجهة النظر الهندية من خطورة العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة، حيث باتت العقوبات والجمارك الموضوعة على الهند لما كان في المقام الأول قراراً غربياً بنقل التصنيع إلى الهند زهيدة الأجور بهدف زيادة سمنة الشيكات التي يقبضها المدراء التنفيذيون في الشركات الأورو- أمريكية.
كانت الهند بقيادة مودي مجبرة على زيادة روابطها بإيران بشكل كبير لتضمن استقلالها الإستراتيجي بما يخص موارد الطاقة، وذلك دون نسيان القرب الجغرافي بين الدولتين. وفي هذا السياق فإنّ لانتصار إيران وروسيا على الإرهاب في الشرق الأوسط وقعاً سياسياً، حيث نشر السلام في المنطقة وحفظ توازن سورية ومصر والعراق وليبيا. وعليه فقد سمح بتنمية مشاريع جديدة كبيرة، مثل: الاستثمار الكبير في «طريق الحرير 2» الذي توليه بكين أهمية كبرى جداً.
يمكننا أن نكمل مع هذا التيار لنفصّل كيف قامت كلّ من الهند والصين بتخطي عدم ثقتهما المتبادلة بعضهما ببعض، مدركين جيداً أن انقسامهما سيفيد فقط أولئك الذين ينتظرون زلاتهما على الجانب الآخر من المحيط، لكونهما دولتين تشهدان نمواً اقتصادياً عظيماً ولديهما حدود مشتركة تمتد لآلاف الكيلومترات. إنّ اللقاءات بين مودي وشي جينبينغ، وكذلك بين بوتين وشي جينبينغ أو بوتين ومودي، تظهر نوايا هؤلاء القادة الثلاثة لضمان مستقبل سلمي ومزدهر لمواطنيهم، وكيف لا يمكن فصل هذا الأمر عن اتحادهم مع بعضهم مع التخلي عن النزاعات والخلافات.
إنّ التضافر في الأعوام الأخيرة قد تحوّل من المجالات العسكرية والدبلوماسية إلى المجال الاقتصادي، وخاصة بفضل دونالد ترامب وسياساته العدائية شاهراً الدولار كأنّه عصا يضرب فيها خصومه السياسيين. ولهذا فإنّ الخطوة الأخيرة التي تعلم هذه الدول بأنّه يتوجب عليها أن تأخذها هي نزع- الدولرة، وهو ما يلعب دوراً هاماً في كيفية قدرة الولايات المتحدة على ممارسة التأثير الاقتصادي. وحتى إن بقي الدولار الأمريكي رئيسياً في السنوات العدّة القادمة، فإنّ عملية نزع- الدولرة هي عملية غير قابلة للعكس بعد الآن.
تلعب إيران اليوم دوراً حيوياً في قدرة دول، مثل: الهند والصين على الاستجابة غير المتماثلة للولايات المتحدة. استخدمت روسيا قدرتها العسكرية في سورية، وتسعى الصين إلى التكامل الاقتصادي عبر طريق الحرير، وتتجاوز الهند الدولار عن طريق بيع النفط مقابل سلع وخدمات بدلاً من العملات.
تستخدم الهند والصين وروسيا الشرق الأوسط كخطوة انطلاق لدفع عجلة التكامل الاقتصادي والعسكري، وردّ خطط المحافظين الجدد في المنطقة، وبالتالي ترسل إشارة إلى «الكيان الإسرائيلي» والسعودية بشكل غير مباشر. من ناحية أخرى، فالصراعات في سورية والعراق وأفغانستان هي مناسبات لصنع السلام وتعزيز تكامل العشرات من البلدان من خلال دمجها في مشروع كبير يشمل أوراسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بدلاً من الولايات المتحدة والدول التابعة لها.
ستكون هناك عمّا قريب نقطة كسر جديدة، ولن تكون عسكرية، بل اقتصادية. ستأتي الشرارة بلا شك من تغيير الطريقة التي يتم فيها بيع النفط، وتحديداً دون الدولار الأمريكي. هذه العملية قد تستغرق بعض الوقت، لكنّها شرط لا غنى عنه بالنسبة لإيران لتثبّت موقعها كقوّة إقليمية. وأمّا الصين فتتصادم على نحو متزايد مع واشنطن. وروسيا تزيد تأثيرها بشكل مؤثر في أوبك. وقد تقرر الهند أخيراً احتضان الثورة الأوراسية عبر تشكيل مربع إستراتيجي ضدّ واشنطن، والذي سيحوّل توازن القوّة العالمية إلى الشرق بعد أكثر من 500 سنة من الهيمنة الغربية.