أوباما- اولاند: تجديد للتحالف أم تفاهم مصلحي مؤقت؟

أوباما- اولاند: تجديد للتحالف أم تفاهم مصلحي مؤقت؟

هللت الاوساط الاميركية، ساسة واعلاميين، للزيارة الرسمية للرئيس الفرنسي لنظيره الاميركي وذهب البعض الى وصفها بأنها تشكل "علامة تحول فاصلة" في تاريخ علاقات الدولتين. الرئيس اوباما تفادى وصف العلاقة مع فرنسا بمفاضلتها على بريطانيا، قائلا ان الاثنتين اشبه بكريمتيه فهن "فائقتا الجمال والطيبة ولن اقدم يوما على  اختيار احداهن علن الاخرى."

دشن الرئيسان الزيارة بنشر مقال بتذييل مشترك نشرته صحيفة واشنطن بوست اكدا فيه على "تجديد التحالف" الثنائي بينهما لما سيتركه من منفعة على العالم اجمع. من المفيد استذكار تصريح الرئيس الفرنسي، فرانسوا اولاند، عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية، ايار 2012، اذ وعد الفرنسيين بانتهاج سياسة مستقلة "تحول دون وضع العقبات في وجه باراك اوباما."

وزير الخارجية الاميركي، جون كيري، الذي يتحدث الفرنسية بطلاقة، وصف فرنسا بأنها "اقدم صديق للولايات المتحدة،" مما حدى بالاوساط البريطانية الى التعبير عن امتعاضها وعدم رضاها عن المكانة المتجددة لفرنسا، خصمها التاريخي، باعتبار التصريح "ازدراءً مقصودا لبريطانيا،" التي ذكرت الاميركيين سريعا بأنه عبر "السنوات المئة المنصرمة اضحى ارتباط الجانبين وعدم انفصامهما امرا مسلما به، اذ لا تذهب الولايات المتحدة الى شن حرب دون الارتكاز الى وقوف بريطانيا جانبها."

ورجحت وسائل الاعلام البريطانية فتور العلاقة الراهنة مع الولايات المتحدة الى "عدم قبول بريطانيا انتهاج دور ذيلي لاميركا في الشأن السوري مما اصاب الولايات المتحدة بالصدمة والذهول،" وحفّز الادارة الاميركية على اطلاق العنان لتصريحات كيري لاعلان التقرب من فرنسا. لعل اللافت ايضا في هذه الزيارة الرسمية انها المرة الاولى منذ عام 1958 التي لم يدرج على جدول الاعمال القاء الرئيس الفرنسي الزائر خطابا امام جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس، كما درجت العادة مع اوثق حلفاء الولايات المتحدة.

 

بريطانيا غاضبة

واستدرك البريطانيون تذكير انفسهم بأن الاميركيين "لا يثقون بالجانب الفرنسي، بل تبلغ ثقتهم درجة ادنى من تلك مع بريطانيا، سيما وان (الاميركيين) دأبوا على وصف الفرنسيين بازدراء بانهم: محبون للأجبان ويستسلمون مثل القردة،" في اشارة الى دخول الاحتلال النازي لباريس دون مقاومة من الفرنسيين.

على الصعيد الشعبي الاميركي، يشار الى تأرجح مدى التأييد لفرنسا كنتيجة لاصطدامها بالسياسة الاميركية بشكل عام، والتي شهدت هبوطا حادا في جملة من المحطات، لا سيما ابان العدوان الاميركي على العراق ومناهضة فرنسا – شيراك للغزو، 2002-2004. وما لبثت ان شهدت انتعاشا في عهد الرئيس الفرنسي السابق، نيقولا ساركوزي، الذي يطلق عليه وصف "الرجل الاميركي" في فرنسا، توجت بجهد منسق مشترك لاستصدار القرار الأممي 1559 لاخراج القوات السورية من لبنان.

يذكر ان الاراضي الاميركية مرصعة بنحو 25 مدينة مأهولة تكنى "باريس،" بدءا بولاية مين في اقصى الساحل الشرقي ومرورا بلويزيانا وتكساس في الجنوب وايداهو في اقصى الشمال الغربي وكنتكي في الوسط؛ فضلا عن الآثار الحضارية والثقافية التي خلفها الوجود الفرنسي منذ ما قبل الحرب الاهلية الاميركية على البلاد.

عند هذا المنعطف يبرز تساؤلا مشروعا حول جهوزية الولايات المتحدة استبدال دور بريطانيا بفرنسا في نسق العلاقة الحميمية مع الشاطيء المقابل من المحيط الاطلسي، ام هي ثمة ضرورة فرضتها التحولات الراهنة، وحاجة كل من الرئيسين الاميركي والفرنسي لتجديد العلاقة لدوافع سياسية خاصة بهما.

اميركا كانت الحلقة المركزية في علاقة كل من بريطانيا وفرنسا نظرا لبعد الخلاف التاريخي بينهما، وتحيز المستعمرين الاوائل للتاج البريطاني واستنساخ تجربته السياسية مع بعض التعديلات. اما العلاقة مع فرنسا فكانت مشدودة بدوافع سياسية في تحالفاتها بغية تحييد النفوذ البريطاني في القارة الجديدة، وسارعت الاولى للاعتراف بالدولة الوليدة عام 1777 في اعقاب هزيمة القوات الملكية البريطانية على ايدي المستوطنين الجدد في معركة ساراتوغا. بالمقابل، آثرت الحكومة الاميركية الجديدة التزام الحياد في الحرب الفرنسية البريطانية بعد بدء الثورة الفرنسية، وتوجهت نحو الاسراع لعقد اتفاقية مشتركة مع بريطانيا لسحب قواتها من مناطق الشمال الغربي الشاسعة، والتي ادت سريعا لاندلاع جولة اخرى من الحرب الفرنسية الاميركية، التي اعتبرها الاب الروحي للعلاقات الفرنسية الاميركية، توماس جيفرسون، ضرورية لتحييد النفوذ الفرنسي على المناطق الجغرافية الواسعة لضفاف نهر المسيسيبي؛ الأمر الذي اسفر لاحقا عن عقد صفقة بينهما عام 1803 تقضي ببيع مقاطعة لويزيانا الفرنسية الى الحكومة الاميركية، ناهزت مساحتها 2 مليون كلم2، بثمن بخس قدره 15 مليون دولار اميركي، اي ما يعادل 3 سنتات (0.03$) للفدان.

 

تساوق الارث الاستعماري بين بريطانيا واميركا

شهد عقد الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم تقاربا ملحوظا بين الحكومتين البريطانية والاميركية نابع من رغبة الطرفين اعادة تقييم علاقتهما مع فرنسا، في احد جوانبه، تخلله طلب الولايات المتحدة لفرنسا بتسديد ديونها الحربية ابان الحرب العالمية، رافقه مد وجزر متواصل لا سيما عند اعتلاء شارل ديغول منصب الرئاسة الفرنسية واصراره على انتهاج سياسة مستقلة عن الايعازات الغربية وحلف الناتو، بصرف النظر عن انضمام بلاده لدول الحلف. وصف بعض الاميركيين الظاهرة بأنها ثمة علاقات ثنائية "تتقلب سريعا، وربما لمديات خطيرة .." واستمرت العلاقات في التوتر مع ولوج البشرية الى القرن الحادي والعشرين شملت جملة من المواضيع التي تخص آفاق السيطرة والتنافس على النفوذ الخاصة بطبيعة النظم الاستعمارية.

بالمقابل، رفعت الولايات المتحدة درجة علاقاتها دائمة التطور مع بريطانيا الى مرتبة فرادة "العلاقة الخاصة،" مع نهاية عقد الخمسينيات، لا سيما في تجديد التعاون بينهما في مجال الاسلحة النووية، والدور المحوري الذي لعبه رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، هارولد ماكميلان، في صياغة انساق الاعتماد المتبادل بينهما في شتى المجالات، ووضع أسس الدور المطلوب من بريطانيا القيام به على مستوى القارة الاوروبية خدمة لمصالح البلدين. اشتهر ماكميلان بميله لانجاز يتسم بحجم ووزن هائل اطلق عليه "المشروع الاشمل،" لتجديد السيطرة ومناطق النفوذ البريطانية بالتفاهم مع الولايات المتحدة.

 راجعConstantine A. Pagedas, Anglo-American Strategic Relations and the French Problem, 1960-1963: A Troubled Partnership. (London: Frank Cass, 2000) 

في الآونة الاخيرة، بعد ثبات هزيمة الولايات المتحدة في العراق وافغانستان، توجهت اميركا تدريجيا بثبات نحو فرنسا لاعانتها في بسط سيطرتها على عموم الشرق الاوسط، لا سيما منطقة الخليج العربي التي لا تزال تعاني من سلبيات علاقة تبعيتها لبريطانيا، عززها ايضا حاجة زعيمي البلدين الملحة لانتهاج خطوات سياسية ترفع شأنهما ورصيدهما السياسي داخل بلديهما.

اوضح نائب مستشار الرئيس اوباما لشؤون الأمن القومي والاتصالات الاستراتيجية، بن رودز، توجهات الرئيس ».. في السياسة الخارجية، لكي تكون مثالياً ينبغي أن تؤيّد التدخل العسكري،« في اشارة لتوصيف التحولات والمتغيرات الداخلية والاصطفافات السياسية في الاوساط الاميركية الحاكمة. واضاف ان ضلوع أوباما طويلا في «لعبة السياسة الخارجية تدعوه إلى إعادة تنظيم الفئات التقليدية للقوة والأيديولوجية الأميركية.»   (انظر مقابلة ديفيد رمنيك مع الرئيس اوباما، اسبوعية نيو يوركر، 27 كانون الثاني 2014).

يتشاطر الرئيسان الاميركي والفرنسي في تدني نسب شعبيتهما داخل بلديهما. فرنسيا، ارتفعت معدلات البطالة الى نحو 3.3 مليون عاطل، وتقلصت الاستثمارات الاجنبية في الاقتصاد بنحو 77% في العام الماضي. الرئيس الاميركي يعاني من اوضاع وتحديات لبرامجه شبيهة بنظيره الفرنسي: تدهور شعبيته الى ادنى المستويات والتحديات الماثلة امام الحزب الديموقراطي ومرشحيه في التشبث باغلبية مقاعد مجلس الشيوخ، فضلا عن قناعة شعبية سلبية جسدتها وسائل الاعلام المختلفة اضفت صبغة التردد في اتخاذ القرار المناسب والوهن الذي اصاب مسار سياساته الخارجية، بمعزل عن الظروف الموضوعية والذاتية التي ساهمت في بدء مسار تراجعي على عموم السياسة الخارجية الاميركية. ومن هنا برزت حاجة الطرفين الى الظهور البارز وتصدر الاخبار العالمية عل ّذلك يشكل رافعة مرحلية لمكانتهما وسياساتهما معا.

 

فرنسا على الخطوط الامامية لأميركا

ادرك الرئيس اوباما مبكرا أهمية بلورة الدور الفرنسي وتسخيره في انجاح سياساته في منطقتي الشرق الاوسط والدول العربية في افريقيا، نظرا لارثها الاستعماري تاريخيا هناك وامتدادها الى دول القارة الافريقية الاخرى. كما ادرك حيز المناورة المتاح للرئيس الفرنسي وقدرته على اتخاذ قرار بالتدخل العسكري بقيود اقل مما يواجه اوباما تضمنها الدستور الاميركي الى جانب بند فصل الصلاحيات بين السلطات الحاكمة.

للدلالة، تتيح السلطات الدستورية للرئيس الفرنسي استخدام موقعه لاصدار قرار يقضي بتزويد الجيش اللبناني باسلحة "خفيفة" دون العودة للجمعية الفرنسية (البرلمان) طلبا للموافقة – مما وسع هامش التحرك الفرنسي عسكريا في المنطقة العربية. اما الرئيس اوباما، بالمقابل، فهو مكبل بقيود تحد من حركته للتدخل العسكري دون الحصول على موافقة صريحة مسبقة من الكونغرس.

تعززت مكانة فرنسا في الحسابات الاميركية لانخراطها الفعلي وارسال قواتها الى منطقة الشمال الافريقية تحت بند مكافحة الارهاب، والتي تحتفظ بها بجملة من المصالح الاقتصادية والسياسية، ابرزها في دولة مالي التي اعتبرها الطرفين حيوية لازاحة الخلايا والمجموعات العسكرية من المنطقة، وتوسعت رقعة انتشار القوات الفرنسية لتشمل دولة جمهورية افريقيا الوسطى – بضوء اخضر اميركي.

وقياسا على ذلك، من المرجح ان تشهد فرنسا تطورا ملموسا في توسيع نطاق مهامها في المستقبل المنظور. تجدر الاشارة الى تصريحات وزير الدفاع الفرنسي، جان ايف لو دريان، خلال زيارته الاخيرة لواشنطن، اذ قال "نرمي الى زيادة فعاليتنا، وجهوزيتنا وانجاز قيادة عسكرية موحدة .. امامنا تحقيق مهمة تمتد لأمد طويل ستغطي المنطقة بأسرها عبر انشاء عدد من القواعد العسكرية. بالمجمل، نتطلع لتواجد نحو 3،000 جندي في تلك المنطقة بشكل دائم." وعليه، ستنتشر القوات الفرنسية في مالي والنيجر وتشاد، وستتخذ قاعدة العمليات من ميناء ابيدجان في دولة ساحل العاج مقرا لها، بينما تتمركز قيادة القوات الخاصة في بوركينا فاسو التي تتوسط المسافة البرية بين ساحل العاج ومالي.

يقتصر دور الولايات المتحدة هناك على توفير سبل الدعم اللوجستي للقوات الفرنسية العاملة وتزويدها بالوقود وطائرات النقل الضخمة وبالمعلومات الاستخبارية، نظرا لما ورد سابقا من قيود تحول دون موافقة الرئيس اوباما على ارسال قوات مقاتلة اميركية دون المجازفة بالاصطدام مع الرأي العام الاميركي المناهض للعمليات الخارجية.

 

النزاعات باقية – والاتفاق على الاختلاف ايضا باقٍ

زيارة الرئيس الفرنسي للولايات المتحدة اضفت ابعادا ايجابية رافقها توقعات وردية في تطور علاقات البلدين، بيد ان جملة من العقبات الحقيقية قد تعكر صفو العلاقات وربما تؤدي بها الى الانزلاق والتدهور مجددا. احدى القضايا التي لم تحظى بتغطية اعلامية كافية تتلخص بمطالبة فرنسا بتحصيل ضرائب تقدر بمئات الملايين من الدولارات من شركات تقنية المعلومات مثل غوغل وغيرها، العاملة على اراضيها.

كذلك برزت مسألة العقوبات الاقتصادية على ايران، كما جاء في المؤتمر الصحفي المشترك، اذ حذر الرئيس اوباما اركان التجارة الدولية من مغبة المضي في عقد اتفاقيات تجارية مع الجانب الايراني قبل اعلان رسمي يقضي بتخفيف وطأة العقوبات السارية. وقال "قد يذهب قطاع التجارة الى مرحلة الاستكشاف للتوصل الى تحديد الفرص التي تتيح التحرك لتلك الاسواق عاجلا وليس آجلا ان تم التوصل ووضعت اسس اتفاقية حقيقية. دعوني اؤكد لكم انهم بذلك يغامرون وعليهم تحمل تبعات ذلك. وسنستخدم كافة السبل والاجراءات القاسية المتاحة والتي سيكون لها وقع سقوط طن من الطوب على رؤوسهم."

اوباما كان يقصد نحو 100 من رجال الاعمال الفرنسيين الذين توجهوا لزيارة طهران الاسبوع المنصرم لحجز موقع متقدم لهم عند نضوج عملية التبادل التجاري. كما ارخت الزيارة ظلال الامتعاض والتقريع على اطقم وزارة الخارجية الاميركية ومسؤولي جهاز مجلس الأمن القومي الذين حذروا الوفد التجاري بأن زيارته ترسل اشارات خاطئة للجانب الايراني. كما ان الزيارة بحد ذاتها اعادت نكأ الجراح السابقة بين البلدين حينما اخفقت فرنسا الامتثال للطلب الاميركي بالمقاطعة.

الرئيس الفرنسي تمسك بمصالح بلاده، ورد بالقول "رئيس الجمهورية (الفرنسية) ليس رئيسا لنقابة رجال الاعمال في فرنسا، ولا يرغب بذلك بكل تأكيد." واستدرك بالتوجه لقطاع رجال الاعمال وتذكيرهم بأن اجراءات المقاطعة لا تزال باقية في مكانها وينبغي عدم المضي بتوقيع اتفاقيات قبل التوصل لتوقيع اتفاقية نووية.

آفاق الارهاصات والتحركات العربية، او ما اطلق عليها "الربيع العربي،" شكلت ارضية تباين بين المصالح الفرنسية والاميركية، اذ اصطفت فرنسا الى جانب القوى العربية التي تعتبرها معتدلة بينما وقف الرئيس اوباما الى جانب تنظيم الاخوان المسلمين في مصر، ووقف الى جانب حركة النهضة في تونس وتأييد القوى الاسلامية الراديكالية في المغرب. فرنسا شعرت بالزهو والارتياح لابتعاد تونس عن سيطرة حركة النهضة على مرافق الدولة، وكذلك الأمر لحنكة العاهل المغربي تهميش القوى الاسلامية وتمسكه بالسلطة الحقيقية.

تصدرت سورية جملة القضايا الخلافية الاخرى بين الجانبين، اذ ذهبت فرنسا الى مديات ابعد وربما اخطر في مستويات دعمها المقدمة لقوى المعارضة السورية المسلحة، لا سيما في المراحل الاولية للتحركات مطلع عام 2011. وحسمت خياراتها الى جانب دول الخليج العربي والسعودية ووفرت الدعم السياسي المطلوب داخل مجلس الأمن الدولي "للجيش السوري الحر."

حسمت فرنسا امرها بكل قوة الى جانب الرئيس اوباما منتصف العام الماضي عقب اعلانه عن نيته شن عدوان عسكري على سورية تحت ذريعة استخدامها اسلحة كيميائية. وسرعان ما اصيب اولاند وبلاده بخيبة أمل عميقة لتراجع الولايات المتحدة وعملها بالتنسيق سوية مع روسيا وتوصلهما الى صيغة حل سياسي. وبلغ الحنق الفرنسي على اميركا مبلغا شعرت به ان الرئيس اوباما تخلى عنها – الأمر الذي سيبقى حاضرا في الذاكرة الفرنسية مستقبلا وتذكيره بذلك عند طلبه مساعدة فرنسية مرات اخرى.

مناورة الرئيس اوباما في الشأن الايراني ادت الى سحب البساط من تحت اقدام فرنسا التي اصابها الذعر والدهشة في آن لسرعة اعلان الادارة الاميركية عن مبادرتها للتوصل الى حل المسألة النووية. ولجأت فرنسا الى التعنت والتصلب في مطالبها في الملف الايراني أسوة بمواقفها المتشددة حول سورية، ولم تبدِ قدرا من المرونة في ايهما الى ان وجدت نفسها محاصرة سياسيا برفقة معظم مشيخات الخليج امام التحولات الدولية المغايرة لسياساتها.

التباينات الفرنسية الاميركية تمتد ايضا لتطال الدول العربية في الشمال الافريقي، اذ اعلنت الولايات المتحدة نواياها عن ملاحقة "نواة القاعدة" الصلبة هناك، اي المجموعات التي عملت سويا مع بن لادن، وهي بذلك رسمت حدود وآفاق انخراطها العسكري. اما الرئيس الفرنسي واقطاب المؤسسة الحاكمة هناك يرمون الى طلب دعم اميركي لشن حرب على القاعدة ومتفرعاتها وتوابعها والعناصر المتشددة المرتبطة ايدولوجيا بها في منطقة جغرافية تعتبرها فرنسا بالغة الحيوية للمحافظة على مصالحها. الجانب الاميركي لم يبدِ تساوقه مع الاهداف الفرنسية ومن غير المرجح ان يذهب ابعد من الحدود التي رسمها مسبقا.

انكشاف التجسس الاميركي عبر وكالة الأمن القومي على فرنسا لا يزال حاضرا في محادثات الطرفين، كما دلت عليه ايحاءات اوباما التصالحية في المؤتمر الصحفي المشترك، واشارته الى ضرورة احترام خصوصيات الفرنسيين، بيد انه لم يتزحزح عن ما وصفه بحق وكالة الأمن القومي المضي في جهود المراقبة. يشار الى ان "العلاقة الخاصة" بين الولايات المتحدة وبريطانيا تشترط عدم قيام اي من الطرفين بجهود التجسس على الطرف الآخر، والتي لا زالت سارية المفعول. وجرت مسائلة اوباما خلال المؤتمر المشترك ما اذا كان ينوي تطبيق ذاك الشرط على فرنسا، واجاب بالنفي قائلا "لا تتوفر لدينا اي اتفاقية تقضي بعدم التجسس مع اي دولة. تدركون جميعا ان لدينا، كما لدى اي دولة اخرى، قدرات استخبارية، كما لدينا اطياف من علاقات الشراكة مع دول متعددة."

 

مستقبل العلاقات الفرنسية الاميركية

تعدد وتباين مصالح الدولتين يقتضي تعرض علاقاتهما لبعض المد والجزر. وخلافا للعلاقة الاميركية المتشابكة مع بريطانيا، فان فرنسا تعتمد على حاجة الطرفين للتقارب المرحلي، ليس الا. فضلا عن الجذور الثقافية والاصولية العميقة لاغلبية الاميركيين مع بريطانيا بخلاف ما يجمعهم مع فرنسا.

وعليه، باستطاعتنا القول ان التقارب المرحلي الراهن يعود الى حاجة سياسية مشتركة بين الرئيسين الفرنسي والاميركي، سيما رغبتهما في التغلب المرحلي والعاجل على التحديات الداخلية التي يواجهانها وتعديل مستويات التأييد الشعبي المتدنية. وهنا يبرز العامل المشترك لمصالحهما في الشرق الاوسط كساحة لقاء آنية ربما تطول او تقصر. وفي الوقت عينه تجدر الاشارة الى حقيقة الدور الفرنسي في الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة والتي تراجعت اهميته نوعيا مقارنة بالدول الاوروبية الاخرى والاسيوية والاميركيتين. وعند الاخذ بعين الاعتبار النوايا الاميركية المعلنة بالاستدارة والتركيز على منطقة شرق آسيا (الصين وروسيا)، ليس من العسير الاستنتاج ان مكانة فرنسا في الاستراتيجية الشاملة ستضمحل وربما سريعا.

سيستمر الطرفين في انتهاج علاقة وثيقة، لكنها لن ترقى لمستوى افضل الاصدقاء، كما هو الأمر بين بريطانيا واميركا. فعناصر الاختلاف والتباعد السياسي ليست من اليسر القفز عليها او الغائها، وباستطاعتها تعريض العلاقات الثنائية الى انتكاسة وبرود سريع. كما ان الدلائل التاريخية للعلاقة الثنائية الممتدة لنحو 237 عام بينهما لا تحمل بين طياتها اي مؤشرات تقود الى الاعتقاد بأن فرنسا شارفت على حجز مكانة الحليف الاوثق او الأهم بالنسبة للولايات المتحدة.

 

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية