حدود السيطرة الأميركية.. من مصر إلى دول العالم الثالث
يبدو أن الولايات المتحدة تشعر شعوراً عميقاً بأنها تسيطر على العالم سيطرة كاملة. قد يكون ذلك الشعور قد بدأ يسيطر على الولايات المتحدة منذ أن تفكك الاتحاد السوفياتي قبل نحو 23 عاماً.
ولكن الدلائل الاخيرة تدل على ان روسيا الاتحادية قد حلت بالفعل محل الاتحاد السوفياتي كقوة منافسة او كتحد لا يمكن تجاهله. وقد تجلى ذلك بوضوح عندما وجدت مصر نفسها مضطرة الى اللجوء لروسيا للدخول معها في اتفاق كبير لتزويدها بالأسلحة، وذلك بعدما تبين لمصر أن الولايات المتحدة اعتقدت في العام الماضي أن باستطاعتها أن تمارس ضغط منع السلاح عنها رداً على محاولة واشنطن إجبارها على تغيير سياستها الداخلية لتصفية تنظيم «الإخوان المسلمين» الذي أظهر ولاءه للولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى.
مع ذلك فإن الولايات المتحدة وجدت نفسها مضطرة لأن تتراجع أمام إرادة مصر وخاصة إرادة القوات المسلحة المصرية. فلم تمض الولايات المتحدة في طريق مقاومة السياسة المصرية انما اظهرت تراجعاً واضحاً عنها بينما مضت مصر في سياسة التعاون مع روسيا الاتحادية. ومع ذلك ـ مرة أخرى ـ فإن الولايات المتحدة أظهرت دلائل متعددة على انها تريد ان تستمر علاقاتها مع مصر على النمط الذي ظل سائداً منذ عهد انور السادات وبعده في عهد حسني مبارك المديد، ثم عهد «الإخوان» الذي لم يستمر سوى عام واحد، والذي اكتسب مزيداً من التنسيق لمصلحة اميركا ومراعاة لمصالحها. وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن الحكم على العهد الراهن في مصر بأنه رضخ كاملا لضغوط اميركية او انه تمرد كاملا عليها. فإن العلاقات المصرية ـ الاميركية الحالية تشهد حرص طرفيها على إبقاء التعاون والتنسيق قائماً وأخذ مكانة الولايات المتحدة في الاعتبار، وفي الوقت نفسه أخذ مكانة مصر القومية والاقليمية في الاعتبار من جانب أميركا.
وفي ما عدا هذا المشهد المصري - الاميركي يمكن التأكيد على ان دور الولايات المتحدة الحالي في العالم يشهد بأنها تمارس سيطرة لا يمكن إغفالها على العالم وأنها تتحدى اي سيطرة منافسة كالسيطرة او المنافسة الروسية او الصينية. ويبدو ان هذه القضية تشغل كثيرين من المفكرين والكتاب الأميركيين وغير الأميركيين، وبصفة خاصة المعلقين السياسيين من كافة الاتجاهات الفكرية اليمينية واليسارية على السواء. ونعني بهؤلاء من كانوا يظهرون معارضة للسيطرة الاميركية العالمية بالاضافة الى المعلقين التقدميين، الذين يعارضون هذه السيطرة ويعتبرونها تشكل في المدى القريب او البعيد خطراً على العالم وعلى الولايات المتحدة بالمثل. وقد ظهرت في الآونة الاخيرة علامات تظهر ارتفاع معدل المعارضة للهيمنة الاميركية، من جانب المفكرين السياسيين الاميركيين من ذوي الميول السياسية الأكثر ميلا الى الاتجاه اليساري في رؤية التطورات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية العالمية.
ولن يكفي مثل هذا المقال من حيث الحجم لرصد هذه الدلائل كافة. ولهذا يكفي ان نورد بعض الامثلة الدالة على هذا الاتجاه. وأول هذه الامثلة يبدو بوضوح في تحليل كتبه المحلل التقدمي الاميركي نيك تيرز في النشرة اليومية العالمية المسماة "انفورميشن كليرنج هاوس" في 16/1/2014 تحت عنوان "العمليات الخاصة ترفع حرب اميركا السرية في 134 بلداً". ويقول تيرز في بداية هذا التحليل "انهم يمارسون عملياتهم في المشهد الليلي الاخضر في جنوب شرق آسيا وهم يجوبون انحاء اميركا الجنوبية. انهم ينزعون الرجال من بيوتهم في المغرب ويطلقون ميليشياتهم المسلحة بالأسلحة الثقيلة في القرن الافريقي. انهم يشعرون بالانتشار ذي الطعم المالح بينما يجوبون فوق قمم الموجات من الكاريبي الاخضر الى المحيط الهادئ الازرق. وهم يقودون المهمات في صحاري الشرق الاوسط الحارة الجائرة وفي عمق شبه الجزيرة الاسكندنافية المتجمدة. في جميع انحاء الكوكب تشن إدارة اوباما حرباً سرية لم يكن لها ابداً من قبل حتى الآن هذا النطاق الشامل الذي ينكشف الآن".
ويستطرد تيرز "منذ 11 ايلول 2001 وقوات العمليات الخاصة الاميركية قد اتسعت بكل الطرق التي يمكن تصورها من أعدادها الى ميزانياتها. مع ذلك فإن الامر الاكثر دلالة هو الارتفاع الهائل في انتشار العمليات الخاصة في جميع انحاء العالم. والآن فإن هذا الوجود في قرابة 70 في المئة من دول العالم يوفر ادلة جديدة على حجم ومدى ما يشن من حرب سرية من اميركا اللاتينية الى مساحات افغانستان الخلفية، من مهام التدريب مع الحلفاء الأفارقة الى العمليات المعلوماتية التي تشن عبر الفضاء المضبوط". ويوضح المحلل الاميركي ان العدد الاجمالي للبلدان التي توجد فيها قوات العمليات الخاصة الاميركية وصل في العام 2010 الى 75بلداً والى 120 بلداً في العام 2012، اما اليوم فهو 134 بلداً. وقد بلغت ميزانية هذه القوات الخاصة الاميركية في العام 2013 ما يربو على عشرة مليارات من الدولارات بعدما كانت اكثر قليلا من ملياري دولار في العام 2001(...).
هل نستنتج من هذه الارقام ذات الدلالة القوية على الاهتمام الاميركي بالسيطرة عسكرياً على العالم، إن اميركا اصبحت بمرور الوقت، خاصة منذ عام 2010، أكثر اهتماماً بهذه البلدان وبهذا العالم؟ ابداً. في مجال آخر يكتب المعلق الاميركي الشهير جيم لوب إن الأجزاء الرئيسية من العالم التي يتجاهلها التلفزيون الاميركي تزايدت في العام الذي انقضى (2013). ويقول "اذا بحث الناس خارج الولايات المتحدة عن إجابات على التساؤل لماذا يبدو الاميركيون غالباً غير واعين الى هذا الحد بشأن العالم الواقع خارج حدودهم، فإن بإمكانهم ان يبدأوا بالشبكات التلفزيونية الرئيسية التي تقدم لمشاهديها الاخبار على النحو الذي بدت به خلال العام 2013. لقد سيطرت سوريا والمشاهير على التغطية الاجنبية من «الآي.بي .سي» و«الإن. بي. سي». و«السي . بي. اس.» ـ التي تغطي في مجموعها المواد الاخبارية المسائية، هي المصدر الاعلامي الاكثر أهمية للمعلومات عن الاحداث القومية والدولية لمعظم الاميركيين. إن أقساماً واسعة للغاية من العالم يتم تجاهلها كلياً تقريباً طبقاً للعرض السنوي الأخير الموثوق به المسمى تيندال ريبورت". ويؤكد لوب ان اميركا اللاتينية ومعظم اوروبا وأفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا باستثناء افغانستان وتقريبا كل شرق آسيا ـ وبالرغم من التوتر المتزايد بين الصين واليابان وهي اقرب حليف اقليمي لاميركا ـ كانت غائبة عن البرامج الاخبارية في عطلة نهاية الاسبوع لهذه القنوات طوال العام المنقضي".
ولو اننا اعتبرنا ان هذه المعلومات يمكن ان تكون مقبولة في ظروف عالمية عادية او مألوفة لجاز ان تكون هذه المعلومات غير مثيرة للاهتمام، ولكن الظروف الدولية تصفها بعبارة تقول "الازمات الانسانية تحاصر العالم"، بحسب معلومات الامم المتحدة: " ودع العالم العام 2013 على وقع أزمات إنسانية واسعة ومتفاقمة ...ولكن يبدو ان معاناة الملايين حول العالم ستستمر خلال العام الحالي، ما دفع الامم المتحدة الى توجيه نداء لمطالبة الدول المانحة بتقديم ما يقدر بنحو 13 مليار دولار في العام 2014 لتمكين هيئات الإغاثة من الوصول الى 52 مليون نسمة يحتاجون الى المساعدة في 17 دولة". وقد حذرت فاليري آموس، وكيلة الامين العام للامم المتحدة، من ان المنظمة الدولية تدخل العام 2014 مثقلة بأزمات إنسانية حادة. وأضافت ان العام 2013 انتهى بأعلى مستويات من الازمات الانسانية، مشيرة بشكل خاص الى المساعدات التي تحتاجها سوريا وأفريقيا الوسطى والفليبين.
هكذا يتضح لنا مدى البون الشاسع بين الاهتمام الاخباري العالمي والكوارث التي تعاني منها البشرية والتي لا تلقى من اهتمام العالم الغني ـ بما في ذلك الولايات المتحدة ـ القدر المتوقع او المتصور في مثل هذه الاحوال. وهكذا ايضا يتضح البون الشاسع بين اهتمام الدول الغنية ـ وخاصة الولايات المتحدة ـ بممارسة التدخل العسكري في انحاء مختلفة من العالم وعزوفها عن التبرع للبلدان الفقيرة، التي تواجه ازمات انسانية ذات طابع اقتصادي واجتماعي.
إن الولايات المتحدة لا تتوقف عن التوسع في التدخل العسكري في عشرات البلدان في العالم، سواء كان تدخلها صامتاً بانتظار إطلاق النار، او كان من البداية مصحوباً بإطلاق النار لتحقيق اهداف تتعلق أساساً بزيادة قدرة الولايات المتحدة على السيطرة الرامية الى زيادة قدرتها المالية وزيادة مداخيلها من العالم الخارجي.
إننا نعيش في عالم تسيطر عليه أطماع الدول الغنية الرامية الى استغلال الدول الفقيرة التي لم تتوصل بعد الى معرفة السبل المؤدية الى كسب المزيد من الخيرات. وتكفي نظرة واحدة الى أعداد البلدان التي تسيطر عليها قوات عسكرية اميركية لنعرف ان هذه هي نفسها الدول الفقيرة، ولنعرف في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة آخذة في التوسع عالمياً في بلدان تسيطر عليها قواتها المسلحة، لا من أجل تمكين هذه البلدان من الصعود اقتصادياً واجتماعياً.
ولعل هذا الجانب من الحقيقة المرة يدلنا على السبب في اهتمام مصر، في ظروفها الصعبة الراهنة، بالخروج من السيطرة الاميركية وفي الوقت نفسه الإبقاء على علاقات سلمية مع اميركا في عالم يقع بين الحرب والسلام.
المصدر: السفير –24/1/2014