أين اليسار من الناس؟
على مدى سنوات طوال ارتبط اسم اليسار بكلمة أزمة. وكانت الأسباب جاهزة دائماً لتعيد السبب إلى انهيار الاتحاد السوفياتي عالمياً، وحركات التحرر اقليمياً، والحركة الوطنية لبنانياً. ومع أنّ أزمة اليسار العربي سابقة لهذه الانهيارات بزمان، فقد بقيت هذه الأسباب تتردد إلى يومنا.
واضح جداً، أنّ العجز الذي يعانيه النهج القائد لهذه القوى، هو الذي يحول دون تحديد الأسباب الحقيقية للأزمة. وهذا يعني منعه من تلمّس سبل الخروج منها، حارماً اليسار فرصاً كثيرة للنهوض مجدداً. ولهذا خلاصة تقول إنّ النهج القائد صار جزءاً من هذه الأزمة التي يجب تخطيها. منذ عام 2000 بدأت الأمور تخرج عن سيطرة الولايات المتحدة (بعد اشتداد التناقضات في النظام العالمي، وبروز معالم أزمته التي تفجرت عام 2008) وظهرت النتائج في دول عدة. وفي أميركا الجنوبية مثلاً، بدأ اليسار اللاتيني بإعادة هذه القارة إلى شعوبها. كانت البداية مع فنزويلا سنة 2000، ومن ثم امتدت لتشمل معظم دول القارة. وفي هذه الدول، حرّر اليسار نفسه من عقدة الانهيار، وتمكّن من صياغة خطاب لامس هموم الشعوب، وخرج من الأزمة مباشرة صوب الناس، مطلقاً معركة بناء دول جديدة قائمة على حق هذه الشعوب في تقرير مصيرها.
في عالمنا العربي لم يكن الظرف الموضوعي لنهوض اليسار أقل نضجاً من مثيله في أميركا اللاتينية، فحالة «الاستقرار» (بما يعنيه سيادة الولايات المتحدة على منطقتنا) انتهت منذ غزو أميركا للعراق عام 2003، إلا أنّ النهج القائد داخل هذه القوى لم يتمكن من لحظ هذه التغيرات، واستمر في ترداد الشعارات المأزومة نفسها، وظل في حالة الدفاع عن النفس، غير ملتفت إلى كونه صار لزاماً الانتقال نحو مستوى الهجوم. لم يستدرك اليسار العربي عامة كل هذه التحولات، التي توّجت بالحراك الشعبي الذي يشهده العالم العربي منذ أواخر عام 2010، مما جعله يقف موقف المتفرج أو العاجز (مع وجود استثناءات قليلة)، فلم يطرح نفسه بديلاً عن القائم، وظل يناقش فيما يعتقد أنها أزمته، دون الانتباه إلى أن العالم يتغيّر من حوله. كذلك استمر أسيراً لممارسة دفاعية أدّت عملياً إلى عزل اليسار، ما انتهى على صورة تخطي الشعوب في حراكها الكثير من الأحزاب اليسارية. ودلت تجربة السنوات الأخيرة، أنّ هناك من لم يكن منتبهاً، إلى تغييرات أشكال معاناة الشعوب. وأنها لم تعد مقتصرة على الجانب المادي (الأكل والشرب و...)، لتصل إلى كرامة وقيمة الانسان وطموحه ودوره في المجتمع، وأن التغيير أصبح ضرورة، وأن من لا يلحظ هذا الجديد على مستوى المعاناة سيبقى خارج المعادلة. لكن، لا بدّ من الإشارة هنا إلى استثناء، ولو تقدّم على نحو نظري، من خلال تقرير اللجنة التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي السوري (دمشق 2003). الوثيقة حاولت معالجة هذا الجديد على مستوى المعاناة، فبدت كأنها تحلّق خارج كل مقولات اليسار العربي المأزوم. مجموعة من الشيوعيين السوريين أعدت هذه الوثيقة، تحت شعار «كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار». وبدت سبيلاً واقعياً للخروج من أزمة اليسار، أقله في الواقع السوري. هذا الشعار كان أساس مطالب الجماهير العربية التي خرجت رافضة واقعها، كما يمكن الإشارة إلى مقولات رددها الرفيق زياد الرحباني في أواسط التسعينيات كانت تصب أيضاً في الإطار نفسه (على عكس الكثير من «مثقفي اليسار» الذين نظّروا يومها لموت الفكر اليساري، ولسيادة الليبرالية).
ماذا عن اليوم؟
لا مجال لأن يبقى اليسار يردد الشعارات ذاتها التي أُنتجت لتتناسب مع موقعه المأزوم، ولا بدّ له من أن يطرح نفسه بديلاً، فيمسح عنه كل وسخ المرحلة السابقة، وأن يتوجه إلى المواطن ببرنامج علمي للتغيير، فيجيب عن أسئلة الشعوب المنتفضة.
المدخل إلى الخروج من الأزمة، يكون من خلال رفع شعار «حق تقرير المصير». ويترجم الشعار إلى برنامج تحمله قوى اليسار، بدل أن نبقى في وهم الانهيارات والهزائم. فمن حق كل مواطن عربي أن يرفض أن يحيا ويموت في ظل نظام حكم عليه بالاستغلال. إنه شعار يمكن أن يرفعه الطالب والعامل والعاطل من العمل والموظف والكاتب والفنان وكل طامح للأفضل... إنه ببساطة شعار «إستعادة قيمة الإنسان».
* سكرتير قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني