مسار «جنيف 2» ومستقبل سوريا
الاعتراف بإيران نووية هو ثمرة جهود إيرانية طويلة مستمرّة، بمقدار ما هو إحدى دلالات التحوّلات في المنظومة الدولية وتفاهمات الأقطاب.
فالإعتراف الإسمي يسجّل إقراراً بواقع عنيد عملت له إيران طيلة عقود على طريق بناء الدولة القادرة على فرض وجودها في «المجتمع الدولي» كبقية الدول الصاعدة، خلافاً لمزارع التبعية المشابهة «للدول» العربية. إنما الاعتراف بإيران نووية هو نتيجة تحوّلات أوسع وأبعد شملت تراجع القوّة الافتراضية الأميركية وأنتجت تفاهمات روسية ــ أميركية، نحو إعادة تقسيم النفوذ والمواقع في منظومة الشرق الأوسط المقبل، ولا سيما إعادة صياغة سوريا في منحى الفراغ الجيو ــ سياسي العربي.
على هامش زيارة الرئيس الإيراني إلى باريس، تبرّع لوران فابيوس بإماطة اللثام عن توقّعات فرنسا للحل السياسي في سوريا، مفادها أن رحيل الأسد يسهّل «الاستقرار السياسي» في إنشاء «ديموقراطية توافقية» في السلطة على غرار المحاصصة الطائفية في لبنان والعراق. وبدوره ذهب جون كيري أبعد من ذلك في الحديث عن «ديموقراطية توافقية» قد تصل إلى «فيدرالية الكيانات» التي نشطت بيوتات «إدارة النزاعات» وجماعات «ثينغ ــ تانغ» بترويجها إثر احتلال العراق، وكان للسويسريين فيها أثر مشهود انتقل بعدها إلى بيروت. فهذه «الديموقراطية التوافقية» العجائبية تستهدف، كما تستهدف «الديموقراطية» الدستورية الأميركية، إلغاء البُعد الجيوسياسي للدولة ودورها الناظم للسياسات الدفاعية والخارجية والاقتصادية ــ الاجتماعية، في تركيب سلطة «تتعايش» على فُتات التبعية للنموذج النيوليبرالي الإيديولوجي ــ السياسي ــ الاقتصادي. فهي بحسب منظّرها الهولندي ــ الأميركي «أرنت ليبهارت» (1937 ــ ....)، تقوم على نسبية تمثيل الجماعات الطائفية والعرقية في حكومة محاصصة ائتلافية، وفي الوزارات والمؤسسات والإدارات العامة وفي الانتخابات، وتقوم على حق الفيتو المتبادَل للأكثريات والأقليات وعلى الإدارة الذاتية الخاصة بكل جماعة. (أ. ليبهارت، الديموقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، نيو هافن، 1977 ).
وعلى نقيض ما تشيّعه بيوتات «الخبرة وإدارة النزاعات» ودوائر القرار في دول «أصدقاء سوريا» وغيرها، ليس بناء سلطة «ديموقراطية» تتقاسم مؤسسات الدولة ودورها حصصاً بين الجماعات الطائفية والعرقية ما يفضي إلى الحدّ من احتراب الجماعات، بل على العكس من ذلك يؤجج احترابها على تقاسم الحصص. فالدولة الضامنة للاستقرار السياسي والاجتماعي لا تُبنى على صورة جماعاتها ولا على صورة «مواطنيها»، إنما تُبنى على أسس جيو سياسية دفاعية واقتصادية ــ اجتماعية تحفظ مصالحها الوطنية وحقوق فئاتها الاجتماعية، في صراعات مصالح الدول الاستراتيجية. ففي سويسرا، على سبيل مثال النموذج، تتألف السلطة من اتحاد «كانتونات» قومية (فرنسية، المانية، ايطالية...) كانت السبيل الوحيد للحدّ من احترابها امتداداً لحروب القوميات بين البلدان الأوروبية نحو بناء الدولة ــ الأمة. لكن دولة سويسرا ليست على صورة سلطة الائتلاف القومي. وبرغم المحاصصة القومية في السلطة السويسرية، لا يوجد محاصصة قوميات وأعراق في الدولة ولا تتوزّع القوميات حصص بعضها البعض في الإدارات والوزارات والثروة العامة... وليست الدولة حاصل جمع القوميات أو طرحها وقسمتها، بل هي فوقها تقوم بدور الناظم لسياسات المشترَك الأعلى كباقي الدول الأوروبية التي لا تأخذ بالاختلاف العرقي والديني في أجهزة الدولة وسياساتها. لكن النيوليبرالية تستهدف إلغاء دور الدولة الناظم لسياسات المشترَك الأعلى، سبيلاً لتسهيل عمل السلطة في إدارة سياسات تقررها وتنظّمها المنظمات الدولية و«اليد الخفية» في حرية السوق...إلخ وهو الأمر الذي ينتج، في العودة إلى الغابة، انفجار الشوفينيات واحتراب الجماعات على تقاسم فُتات التبعية لنموذج التفتيت والنهب.
والحال، مهما كان مآل المتغيرات الميدانية في سوريا، في ظل إجماع على «استحالة الحسم العسكري»، سيكون محور مفاوضات جنيف 2 الطويلة، هو تشكيل سلطة ائتلافية من «مكوّنات الشعب السوري» الطائفية، أساساً «للتحوّل الديموقراطي» المزعوم. فمعظم المعارضات السياسية السورية التي تأخذ «بالديموقراطية الدستورية» الأميركية سبيلاً «لتغيير النظام»، تأخذ عملياَ بالنموذج النيوليبرالي فيإلغاء دور الدولة، سواء كانت تتكئ على «دول أصدقاء سوريا» أم تتكئ على أوهام بناء الدولة كجمعية لحقوق الإنسان. لكن مفاوضات «جنيف 2» مسار فرز طويل تحت عباءة التفاهم الروسي ــ الأميركي في التوازنات الدولية والإقليمية الجديدة، يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى «ائتلاف» في السلطة ما أن تشحّ منابع حطب الوقود ولا يبقى في سوريا شعب ولا حجر على حجر.
الأميركيون والفرنسيون يتحدّثون عن «ائتلاف» ثلاث عشرات يتشكّل من ثلثين ضامنين لدول «أصدقاء سوريا» بجناحيها الليبرالي والإسلامي، وثلث للمحور الآخر. في هذا السياق ذهب رجب طيّب أردوغان إلى موسكو للاتفاق على حصّة «الأخوان المسلمين» قبل ما أسماه الوقت الضائع الفاصل عن موعد «جنيف 2». بموازاة ذلك تستكمل قطر انحناءتها ببطء إلى جانب تركيا لشدّ أزر «الأخوان»، نحو إيران التي تعتقد أنه لا مناص من الاعتماد على «الأخوان المسلمين» لدرء الفتنة بين السنّة والشيعة، وهو أمر يرفضه الرئيس السوري بشدّة إلى أن يخلق الله أمراً كان مفعولاً.
إنما وقف الحرب والدمار في سوريا لا يقتصر على أطراف مثلّث «الائتلاف» في حال نضوج مسار «جنيف 2» الطويل. فالسعودية التي تدافع في سوريا عن ديمومة نظام الحكم في الرياض متضررة من التسوية النووية والتراجع الأميركي، وغير قادرة على التكيّف بسهولة مع المتغيرات الدولية والإقليمية، وهي ترهن مشاركتها في التسوية السورية بضمانة توسّع نفوذها في لبنان والعراق واليمن والبحرين. لكنها، بتحالفها «الموضوعي» مع إسرائيل المتضررة هي الأخرى من التسوية مع إيران، تملك القدرة على العرقلة، وعلى القتال بالتحالف الميداني مع الجماعات التدميرية الفاشية على الأرض السورية وفي العالم الإسلامي العريض من اليمن إلى القوقاز وباكستان.
في هذا الصدد لا ترمي الولايات المتحدة بثقلها للضغط على السعودية وإسرائيل سوى بلجم جماعات «القاعدة» كي لا يفيض «العنف» إلى تهديد المصالح الغربية واسرائيل، لكنها في الوقت نفسه تفيد من جماعات التدمير الفاشية في حرب الأرض العربية المحروقة، وضد روسيا وإيران وحلفائهما، لإضعاف هذا المحور في موازين القوى الدولية والإقليمية. فالتفاهم الأميركي ــ الروسي ــ الإيراني هو مقاربة آنية أنتجتها متغيرات القوّة قسراً في ظروف انتقالية قابلة للتعديل والتغيير وليس تحالفاً استراتيجياً. وهو تفاهم على الحدّ الأدنى في «إدارة النزاعات» بانتظار متغيّرات جديدة على المدَيين المنظور والأبعد. وفي الأثناء يستكمل ائتلاف «العملية السياسية» الاحتراب على السلطة، على ما نشهد في ليبيا واليمن وفي مصر وتونس، وتستكمل أطراف «جنيف 2» الدولية والإقليمية «إدارة النزاعات» المتداخلة في المحيط الاقليمي، لكنها تُمسك بخيوط ما يُسمى «إعادة الإعمار» لتوزيع نهب الثروة العامة، وخاصة وضع اليد على الأراضي والموارد الطبيعية بحسب تجربتي لبنان والعراق.
على هذا الطريق تعمل منظمة «الأسكوا» لمشروع أطلقت عليه تسمية «اليوم الأول بعد الأزمة» مع فريق من «خبراء الأمم المتحدة»، بتعاون رموز من الحكومة السورية و«المعارضة الداخلية». وهو مشروع تقليدي للبنك الدولي و«الدول المانحة» الذي يقول فيه رئيسه عبد الله الدردري «نحن نخطط لإعادة بناء سوريا بعد أن ينقشع الغبار ولا نتدخل في من يجب أن يحكم سوريا». فهو كغيمة هارون الرشيد التي ناداها بقوله «اذهبي أنّى شئتي فأمطارك تهطل عندي».إنما فريق العمل الأكثر جرأة في ترويج النهب النيوليبرالي وتفتيت الجغرافيا السياسية هو «المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية»، بمؤازرة كل من «مجموعة عمل اقتصاد سوريا في المجلس الوطني»، و«المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية» في الدوحة. (راجع وثائق مؤتمري اسطنبول والدوحة) ففي تقريره النهائي «لخطة التحوّل الديموقراطي»، يعمل «بيت الخبرة السوري» في المركز، مع بيوتات استشارية دولية ورجال أعمال عرب وسوريين بطبيعة الحال، «لليوم الثاني» متأخراً عن زميله يوماً كاملاً. ففي هذا اليوم الموعود يتوعّد «بيت الخبرة» بأن تبدأ سوريا، لاسيما في الفصل الحادي عشر، «التحوّل إلى نموذج اقتصادي يحكمه السوق»، ويبدأ «إدماجه في سوق البضائع والأفكار عالمياً على نحو تدريجي». ولن يكلّ «البيت» أو يملّ حتى تتحوّل سوريا «المزدهرة» إلى ما لم يحلم به رامسفيلد ورايس في حرية السوق والتجارة وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر «لزيادة الإنتاجية والقدرة التنافسية للصادرات».
إن هذا «التحوّل» نحو الاقتصاد النيوليبرالي لمصلحة حرية الرأسمال ومافيات نهب الثروة العامة الخام، هو من ذاك «التحوّل الديموقراطي» في الصراع على السلطة وعلى فُتات التبعية بوعود «الديموقراطية الدستورية» كانت أو «بالديموقراطية التوافقية» توعّدت. فالمراهنة على دمقرطة السلطة من فوق أملاً بالوصول إلى دمقرطة الدولة من تحت، هي مراهنة النيوليبرالية على إدماج الدولة «في سوق البضائع والأفكار العالمية»، تهدّد سوريا، كما تهدّد ليبيا واليمن ومصر وتونس.... بوحشية شريعة الغاب وديمومة الخراب والاحتراب بأشكال ساخنة وباردة. ولا مندوحة من تغيير هذه المقدمات لتغيير النتائج، في العمل على دمقرطة الدولة من تحت أملاً بدمقرطة السلطة من فوق، وإدماجها بالحقل الإقليمي لتفكيك نموذج التبعية وبناء علاقات متكافئة في «سوق البضائع والأفكار العالمية». فهذا المنحى من تحت ينقل الاحتراب والصراع على السلطة إلى خلاف في الرؤى والبرامج السياسية بشأن تبادل المنفعة بين العرب وإيران وتركيا. وبشأن تبادل النفوذ والمصالح الوطنية في إعادة تنظيم الجغرافيا السياسية نحو سلطة إقليمية مشترَكَة تحفظ هوية كل بلد وتحفظ أمنه الوطني في حفظ الأمن الإقليمي المشترَك.
ولا يفترض هذا المنحى أن يغيّر أي طرف أو فرد معتقداته وقناعاته وانتماءه و«هواجسه»، إنما يفترض أن يتفحّصها على محكّ تفكيك نموذج التبعية نحو البناء المشترَك ضمانة للحقوق الوطنية والاقتصادية ــ الاجتماعية وضمانة للحريات العامة والشخصية. ففي منحى البناء المشترَك لا أهمية تُذكَر للأحكام المسبقَة على المثُل والقيَم الغابرة أو الحديثة، ولا للضجيج العالي في الاحتراب على الإصلاحات الدستورية مدخلاً «لتغيير النظام»، على ما تشيّع الديموقراطية النيوليبرالية، بل الأهمية لرؤى إعادة بناء الدولة في حقلها الإقليمي مدخلاً لدمقرطة الدولة والسلطة. وهو المدخل لمشاركة بسطاء الناس وصانعي الحياة في السياسة لتنظيم الجغرافيا البشرية نحو التضامن المتكافئ بين الإدارات المحلية على مستوى الحقل الإقليمي في تبادل الخبرة والمنفعة المشتركَة. ولا يقتصر هذا الأمر على إبداع الديموقراطية المباشرة في ارتقاء تنظيم أسباب المعاش وسبُل العمران، إنما يشمل كذلك مواجهة مشتركَة لمخاطر الحروب التي تشنّها اسرائيل والدول الغربية في استراتيجيات توسّع مصالحها ونفوذها. في هذا السياق تُشكّل تجربة «الإدارة الذاتية» في المناطق الكردية السورية نواة قابلة للتطوير والتعميم في تنظيم الجغرافيا البشرية وممارسة الديموقراطية المباشرة التي حصّنت البيئة الحاضنة وصدّت جماعات «داحس والغبراء» في الميدان. وفي إرساء أسس الديموقراطية من تحت، مقابل أسس فاشية «المحاكم الشرعية» (محاكم التفتيش) في السلب والقتل على هوية المعتقَد والعرق والرأي.
الفراغ الجيو ــ سياسي العربي لا يملؤه غير العرب، إنما بالمساهمة في البناء الإقليمي المشترَك وتفكيك التبعية نحو الأعلى في تبادل المصالح الوطنية الإقليمية والمنفعة المشتركَة، لا نحو البداوة والتصحّر أو العودة إلى الغاب
المصدر: السفير