ماذا يجري داخل مجلس الأمن القومي الأميركي؟
برز الى العلن مؤخرا تباين في وجهات النظر داخل فريق اوباما الرئاسي على خلفية وجهة السياسة الخارجية الاميركية نحو مصر، اعتبرها البعض انها تشكل انعطافا في السياسة الرسمية ليمضي ويبني عليها فرضيات مفرطة في التفاؤل، سيما وان وزير الخارجية وصف تنظيم الاخوان المسلمين بانه “سرق الثورة المصرية” من اصحابها الحقيقيين.
كيري يخطف الاضواء والمواقف من فريق الأمن القومي
بداية، تباين وجهات النظر بين فريقي وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ليس جديدا او مقصورا على الادارة الراهنة، ولا ينبغي النظر الى جزئية محددة في مجمل الاستراتيجية تناسب بعض الاطراف لتمعن في تعميم الظاهر من الخلاف واسقاطه على السياسة الخارجية برمتها.
الشق الآخر والابلغ أهمية يكمن في تلمس الاستراتيجية الاميركية وجهتها وتحديد معالمها في مرحلة اعادة اصطفافها وترتيب انكفاءاتها من المسرح الدولي باقل الخسائر الممكنة. لعل المرء يجد ادق تعبير عن ذلك في ذات الخطاب الذي القاه وزير الخارجية، جون كيري، مطلع الاسبوع المنصرم امام مؤتمر لمنظمة الدول الاميركية، والذي ركز على “رغبة الولايات المتحدة في اعادة انخراطها” في الاميركيتين في الظرف الراهن؛ من جانب، ومن جانب آخر اكد كيري على “نهاية عصر مبدأ مونرو،” الذي صاغه الرئيس الاسبق جيمس مونرو نهاية عام 1823، يجرّم فيه الدول الاوروبية لتدخلها في شؤون “الاميركيتين.”
بعبارة اخرى، منحت الولايات المتحدة لنفسها احتكار السيطرة على شعوب القارتين في ظل ظروف تراجع وافول نجم الاستعمارين الاسباني والبرتغالي في اميركا الجنوبية (اللاتينية)؛ بل في ظرف شارفت مستعمراتهما السابقة على نيل استقلالها من نير احتلاليهما. تشير الوثائق التاريخية الثابتة لذاك العصر الى “تواطؤ الولايات المتحدة وبريطانيا لاقصاء الدول الاوبية الاخرى من التوغل في القارة الجنوبية.” الاعتقاد الرائج بين شعوب القارة اللاتينية يفيد بأن “مبدأ مونرو” وضع حجر الاساس لهيمنة الولايات المتحدة على شعوب القارة، تارة تحت عنوان “حماية الدول الصغرى،” واخرى بالاخضاع المباشر كما تشهد عليه الحرب الاميركية على المكسيك واحتلال كوبا ونيكاراغوا مع مطلع القرن العشرين، ومساندتها لتفتيت كولومبيا وانسلاخ بنما عنها، فضلا عن ادارتها ورعايتها للانقلابات العسكرية المتعددة.
في هذا السياق، ينبغي النظر الى تصريح وزير الخارجية جون كيري الواعد “بالاقلاع عن مبدأ مونرو” للتدخل. باستثناء الولايات المتحدة فالدول الاخرى لا شأن لها في التدخل المباشر وغير المباشر للسيطرة على شعوب وموارد القارة الجنوبية. وعليه، فان تصريح كيري لا يعدو كونه وعدا زائفا لا يلبي طموحات شعوب القارة، التي تعاني بشدة من فرض الولايات المتحدة على حكوماتها الطيعة تسخير موارد بلدانها لخدمة اهداف السياسة الاميركية، بدل استثمارها في النمو والازدهار الاقتصادي، تحت عناوين متعددة: مكافحة المخدرات ومواجهة موجات الهجرة الجماعية الناجمة عن تضاؤل الفرص الاقتصادية بسبب اختلال ميزان توزيع الثروة.
فيما يخص السياسة الاميركية نحو مصر، نطق جون كيري بتسعة عشر كلمة اعتبرها البعض اقلاعا وربما تحديا “لتوجيهات” مجلس الأمن القومي برئاسة سوزان رايس التي حثت كيري على التشدد في التعامل مع القيادة الجديدة في مصر وطرح مستقبل الرئيس المعزول محمد مرسي ومحاكمته على بساط البحث؛ وتجاهل كيري للأمرين معا وذهابه بعكس ما كان متوقعا له. في حمأة التصريحات والتصريحات المضادة، تراجع أهمية أمر التطور الاوسع والاشمل: انفتاح مصر وروسيا على بعضهما البعض توجت بزيارة تاريخية لوزيري الدفاع والخارجية على رأس وفد كبير بيده سلطة اتخاذ قراراته على الفور، وما يمثله ذلك من توجهات استقلالية، او اكثر استقلالية بشكل ادق، لمصر بعد ثورة 30 يونيو/تموز، بل تخفيف غول الاعتماد الحصري على الولايات المتحدة.
ما قاله كيري ضمن سياق اشمل لمعالم السياسة الخارجية الاميركية هو “.. وعندئذ تم سرقتها (الثورة) على يد المجموعة الوحيدة الافضل تنظيما في البلاد، التي كانت الاخوان.” اقرار كيري المتأخر زمنيا جاء في اعقاب اخفاق المحاولات الاميركية المتكررة للنيل من القيادة الجديدة في مصر واعادة عقارب الساعة الى الوراء لصالح الاخوان المسلمين. واستخدمت اميركا سلاح العصا منذ اللحظة الاولى، حتى السيناتور المعادي للحقوق العربية جون ماكين وتوأمه السياسي ليندسي غراهام اطلقا تصريحات في القاهرة تطالب بعودة الرئيس المعزول. بعض الردود المصرية جاءت على لسان صحيفة الاهرام شبه الرسمية التي اشارت الى “تواطؤ الحكومة الاميركية مع تنظيم الاخوان ومرسي لتقسيم البلاد وتشظيها الى محميات صغيرة متناثرة،” وكذلك الى العلاقات التاريخية التي تربط الاخوان كوكيل محلي لتنفيذ الاجندات الغربية. وعليه، فان اقرار كيري بواقع مسلم به لا يشي بتغيير جوهري في مجمل السياسة الاميركية، بل سعي لضبط الايقاعات وتخفيف الاعباء والاضرار التي لحقت وقد تلحق بالمصالح الاميركية في مصر والمنطقة.
خروج كيري عن النص المعد له في اروقة مجلس الأمن القومي لا شك اغضب رئيسة المجلس المستشارة سوزان رايس التي تحظى بعلاقة وطيدة وثقة كبيرة من الرئيس اوباما، وتدل في الجانب الآخر على حرص اوباما اطلاق يد وزير خارجيته في بعض الملفات الاقليمية عملا بأولوية الديبلوماسية عن المواجهة العسكرية غير المضمونة الآفاق والنتائج. مجلس الأمن القومي يحتكم الى التوازنات والاصطفافات الداخلية ويميل عادة الى النهج المتشدد، كما شهدت على ذلك الادارات الرئاسية المتعاقبة. وليست هي المرة الاولى التي ينتصر فيها الرئيس الاميركي لصالح فريق على آخر، وفق ما يرتئيه من ميول سياسية واعتبارات داخلية تعزز اجندته.
من اسطع الامثلة على ذلك دور هنري كيسنجر كرئيس لمجلس الأمن القومي في عهد الرئيس الاسبق نيكسون، ومن ثم توليه رئاسة وزارة الخارجية ايضا، ومفاضلته موقعه اينما حل على الاعتبارات المهنية: تغليب وجهة نظر مجلس الأمن القومي في البداية، واستبعاد دور وزارة الخارجية في صياغة السياسة الاميركية، ومن ثم انتقل مركز الثقل الى وزارة الخارجية عند انتقال كيسنجر اليها.
اما الرئيس اوباما فقد ارجأ دور وزارة الخارجية الى المرتبة الثانية في ولايته الرئاسية الاولى واستنبط عددا من المناصب الموازية لدور وزير الخارجية (كلينتون) لادارة ملفات محددة – اي تهميش دور الخارجية لصالح فريقه الجديد المنتقى بعناية. يذكر ان جون كيري لم يكن المرشح الأول لاوباما في ادارة دفة وزارة الخارجية اذ روج لسوزان رايس، سفيرته في الامم المتحدة، لتولي المنصب لحين مواجهتها معارضة شديدة داخل مجلس الشيوخ على خلفية تصريحاتها “المغايرة” لوقائع ما جرى في حادثة الهجوم على البعثة الديبلوماسية الاميركية في بنغازي.
كيري في وزارة الخارجية
من خصائص جون كيري قاعدته السياسية العريضة بحكم خدمته الطويلة في مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس، وخوضه غمار الانتخابات الرئاسية عام 2004، وتراكم رصيده السياسي على ضوء ذلك. ويدرك جيدا ان باستطاعته العودة متى يشاء الى ولايته ودخول الانتخابات لاستعادة منصبه كممثل عنها في مجلس الشيوخ، فضلا عن الكلفة السياسية العالية للرئيس اوباما ان قرر معاقبته على خلفية تضاد الاراء بينهما.
كما يعي الطرفين، اوباما وكيري، ان اي تصعيد للخلافات بينهما سيعود سلبا على الرئيس اوباما نظرا لحتمية دخول مجلس الشيوخ على المسالة وعقد جلسات استماع لزميلهم السابق الذي سيعتبر انه لحقه الاذى من الرئيس – لو تم ذلك. تضاؤل شعبية الرئيس اوباما بالتساوق مع تعثر برامجه داخل مجلسي الكونغرس تصب في خدمة الطرف الآخر، ويعطي كيري حافزا افضل ومجال مناورة اكبر في تخطي املاءات البيت الابيض استنادا الى قاعدة دعم لا بأس بها بين زملائه اعضاء الكونغرس بمجلسيه.
فريق السياسة الخارجية في البيت الأبيض
يتردد ان مستشارة الرئيس، فاليري جاريت، تستحوذ على درجة عالية من ثقة الرئيس اوباما وتتمتع بصلاحيات واسعة تؤثر في صياغة السياسة الخارجية الاميركية، حتى ان البعض اطلق عليها “راسبوتين اوباما،” بل ان رئيس مكتب موظفي البيت الابيض السابق، رام عمانويل، تشاحن معها مرات عدة وشبهها بعدي صدام حسين لما لها من نفوذ واسع.
يذكر ان صداقة جاريت مع الرئيس اوباما وعقيلته تعود الى نحو عقدين من الزمن، قبل صعود نجمه السياسي. وفي مجال توصيف اوباما لها اعتبرها بمثابة “احدى شقيقاته .. جديرة بثقته التامة.” على ضوء تلك الخلفية، تتمتع جاريت بميزة “الوصول غير المقيد او المحدود، هو اشبه بالتصوف” طلبا للرئيس اوباما متى شاءت.
يذكر ان جاريت ولدت في شيراز بايران، عام 1956، لابويين غربيين من عرق مختلط، ابيض واسود، كما هي خلفية الرئيس اوباما، مما دفع البعض اتهامها بالتحيز لصالح ايران وانتهاج رؤية لينة وناعمة في مسألة برنامجها النووي. تتربع جاريت على رأس طاقم كبير من موظفي البيت الابيض يناهز 30 فردا، وتشرف على اتخاذ قرارات بعدد من المسائل التي تخص آلية عمل البيت الابيض: تحديد قائمة المدعويين لعشاء البيت الابيض، واختيار الهدايا المقدمة للزعماء الاجانب، واستعراض المرشحين لمنصب في المحكمة العليا، وتعيين شخصية بمرتبة سفير في موقع شاغر، وتحديد المستحقين لنيل وسام الحرية الرئاسي. وعليه، فان سلطتها طاغية تغيب خصومها بسرعة وتبقي الموالين لها. يعتقد ان السر وراء بقاء وزيرة الخدمات الانسانية، كاثلين سيبيلياس، في منصبها هو بسبب علاقتها الحميمية مع جاريت، على خلفية اخفاقات وزارتها في ادارة برنامج الرعاية الصحية الشامل وما رافقه من تداعيات ادت لايقاف العمل به مؤقتا.
كما لجاريت الفضل في بقاء سوزان رايس وسمانثا باور، سفيرة الولايات المتحدة في الهيئة الدولية، في منصبهن وتعزيز دورهن داخل طاقم البيت الابيض للسياسة الخارجية، وضمان ولائهن المباشر للرئيس اوباما بخلاف وزير الخارجية جون كيري الذي يستند الى قاعدة دعم واسعة من خارج اسوار البيت الابيض. في صياغة السياسة الخارجية، تتشاطر رؤيتي رايس وباور مما يضفي بعدا جديدا على التباينات الموسمية بين البيت الابيض وطاقم وزارة الخارجية.
لسوزان رايس وجون كيري اسلوبهما المستقل عن الآخر، سيما وان تجربة كيري الطويلة في اروقة الكونغرس استندت الى التوصل لارضية مشتركة مع الاطراف الاخرى والاستئناس والتآلف معها، والتحلي بالكياسة الديبلوماسية. اما رايس فتشتهر بشخصية صدامية مع الآخرين دون اعتبار لمواقعهم، منهم على سبيل المثال مشاحنتها مع المبعوث الرئاسي الخاص للسودان سكوت غريشن. بل تتميز “رايس بمزاج حاد بحاجة الى ترويض،” كما وصفها رئيس مجلس العلاقات الخارجية المرموق، ليسلي غيلب. واضاف انها “سريعة الانفعال واطلاق الاحكام، مما يترتب عليها التمترس خلف مواقفها. ويتعين عليها العد للمئة – بل للألف – قبل توصلها لقرار معين، وفي ذات الوقت يتعين عليها الاصغاء بعناية الى اراء الآخرين.”
بالنسبة للرئيس اوباما فان سوزان رايس شديدة الولاء له، اذ كانت خياره الأول لمنصب مستشار الشؤون السياسية منذ حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2008، فضلا عن علاقتها الحميمية الخاصة مع اوباما وعقيلته ميشيل. لذا يمكن اعتبار رايس من ضمن الدائرة الخاصة بالرئيس اوباما، تحظى بصداقة شخصية معه – وليس لامتلاكها خبرات بارزة في مجال السياسة الخارجية. خلال فترة خدمتها في منصب سفير الولايات المتحدة في الهيئة الدولية حافظت على متانة علاقتها مع الرئيس، واستطاعت ان تمضي فترات زمنية في واشنطن بالقرب منه اطول من اسلافها السابقين.
كانت رايس المرجعية الاعلامية الاولى ابان حادث الاعتداء على البعثة الديبلوماسية الاميركية في بنغازي مما جر عليها متاعب جمة نالت من مصداقيتها لاصرارها على ان الحادث نجم عن احتجاجات تلقائية وعفوية تعبيرا عن الغضب الشعبي لشريط الفيديو المعادي للمسلمين. ورأى فيها خصوم الرئيس ذريعة سهلة للنيل منه، مما دفعه لسحب ترشيحه لها لمنصب وزير الخارجية – مما يقتضي موافقة مجلس الشيوخ بعد جلسات استجواب قاسية تنكأ الجراح. وتوصل الرئيس الى عرض منصب مستشار الأمن القومي عليها، والذي لا يشترط موافقة مجلس الشيوخ.
في ظل ادارة الرئيس اوباما، تعاظم دور مجلس الأمن القومي في ملف السياسة الخارجية على حساب طاقم وزارة الخارجية، مما دفع البعض الى توصيفها “بتركيز القوة بين يديها – اي ان كافة القضايا تمر عبر قناة مجلس الأمن القومي.”
وينظر الى سجل وزير الخارجية جون كيري انه يتحلى بالواقعية والبراغماتية، مقارنة بسوزان رايس الاداة الوفية للرئيس اوباما وترجمة رؤيته عبر تطبيقات السياسة الخارجية للولايات المتحدة. اذ وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأن تعيين رايس في رئاسة مجلس الأمن القومي “يلوح بدخول طاقم يتحلى بالمثالية واستخدام القوة العضلية لبلورة السياسة الخارجية لاوباما.”
كما لا يجوز اغفال الدور المحوري الذي تلعبه سمانثا باور، المندوب الاميركي الدائم في الأمم المتحدة، في التاثير على صياغة القرارات للحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس اوباما، سيما وان اسهاماتها المنشورة ادت الى نيلها جائزة بوليتزر عام 2003، مما يضفي عنصر “المصالح الانسانية” في بلورة المصالح الاستراتيجية الاميركية، الأمر الذي تجلى بوضوح في الخطاب السياسي الاميركي خلال احداث ما اطلق عليه “الربيع العربي.”
باور لعبت ايضا دورا محوريا في صياغة سياسة الادارة الاميركية نحو سورية، ولم يؤثر عليها تغيبها عن حضور جلسة خاصة للأمم المتحدة حول الاسلحة الكيميائية السورية، في شهر آب المنصرم، بسبب غيابها لزيارة عائلية خاصة في ايرلندا، موطنها الاصلي. دلالة الأمر ان باور معنية بالبعد الايديولوجي في السياسة على حساب الواقعية السياسية وما تتطلبه من توازنات وتحالفات على الطريق، ويضعها على تعارض مع متطلبات مهمتها الاممية لحشد الدعم الدولي لصالح وجهة النظر الاميركية.
يمكننا القول ان خطاب الرئيس اوباما الاخير حول سورية، قبل نحو شهرين، طغى عليه رؤية واراء السيدة باور السياسية، سيما وان الشطر الاساسي فيه استند الى تحقيق اهداف انسانية، مقابل اشارة عابرة وغير مؤثرة للتهديدات التي تواجهها المصالح الاميركية في المنطقة. المحور الاساسي في اراء السيدة باور يدور حول ادراكها “لامتناع صناع السياسة الخارجية الاميركية عن المغامرة” لتحقيق اهداف انسانية، ومحاسبة نقدية للزعماء الاميركيين لتخليهم عن “ضخ مزيد من الامكانيات لصالح القوات المسلحة” الضرورية لدرء وقوع مزيد من المجازر. واوضحت في ادبياتها ان المسؤولين الاميركيين عادة ما “يهولون من عقم وضلالة وتهور اي تدخل مقترح.”
من المفارقة ان سوزان باور عارضت التدخل العسكري في سورية ومنطقة الشرق الاوسط، على الرغم من اسهاماتها الادبية المؤيدة لنقيض ذلك عبر ما تسميه “التدخل الانساني،” موضحة ان هناك “عدد من المصالح التي ينبغي اخذها بعين الاعتبار،” اذ من شأن استخدام العامل العسكري في المنطقة التاثير على اسعار النفط ومن ثم على مجمل الاقتصاد الاميركي. وقالت “ليس من بيننا ما قد يدعي اننا في الادارة اسرى لقضية منفردة.”
تباينات السياسة الخارجية بين البيت الابيض ووزارة الخارجية
من الثابت ان الارضية الفلسفية لتباين الاراء بين الفريقين قد طبعت السياسة الخارجية في عهد الرئيس اوباما، اسوة بالادارات السابقة. اذ بذل جون كيري جهودا ثابتة في بداية تسلمه مهام منصبه لترميم العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، والبناء عليها كمنصة انطلاق للبحث عن حلول سياسية لمسالة لملف النووي الايراني والحرب الدائرة في سورية. واستند كيري الى العلاقة المتبلورة بينه وبين نظيره الروسي، سيرغي لافروف، واستغلالها للتوصل الى تفاهمات حول عدد من القضايا بين البلدين. بالمقابل، فان سوزان رايس تبادلت الاتهامات العلنية مع نظيرها الممثل الروسي في الامم المتحدة على خلفية ذات القضايا الخلافية.
فيما يخص الملف السوري، نقل المقربون من سوزان رايس انها في اللقاءات الداخلية ايدت انشاء منطقة حظر للطيران فوق الاجواء السورية، واعربت عن خشيتها من تسليح القوى المصنفة ليبرالية داخل المعارضة السورية. وعليه، فانها لا تثق الا باستخدام القوة العسكرية الاميركية لتحقيق الاهداف المرجوة.
كيري بالمقابل، بذل جهودا طويلة مع الجانب الروسي بغية التوصل لحل سياسي دولي للأزمة السورية، مرتكزا الى حد كبير للعلاقة الوثيقة التي ترعرت بينه وبين نظيره الروسي، واقصاء الخيار العسكري مرحليا على الاقل.
التغيرات المتسارعة في مصر شكلت ارضية خلافية بين فريقي الخارجية ومجلس الأمن القومي، ولم تكن وليدة لحظة بروزها الى السطح مؤخرا، بل ثمرة تباين وخلاف في وجهتي النظر وأحقية دور كل منهما في رسم السياسة الخارجية في المنطقة. عمدت الادارة الى اجراء مراجعة شاملة لعلاقاتها مع مصر، وتبين ان كلا من وزيري الدفاع والخارجية بذلا جهودهما للابقاء على برامج الدعم القائمة لمصر، بينما اصرت سوزان رايس على تعليق معظم المساعدات العسكرية الاميركية لحين تلمس تحقيق الحكومة المصرية تقدما في الوفاء بوعودها لتطبيق خطة الطريق المقترحة، ورغبتها في اقصاء القوات المسلحة عن دورها في السياسة المصرية.
ووصف احد المقربين من الادارة الاميركية حالة الانقسام بشأن مصر ان “هناك خلافات حقيقية تتمحور حول هوية التوجه بشأن مصر بين سوزان رايس وجون كيري .. ولم نكن لنشهد اي تعليق للمساعدات المقررة لو كان الأمر بيد جون كيري وتشاك هيغل” وزير اللدفاع.
كما ان طبيعة تكوين الطاقم الرئاسي لاوباما، الذي يضع مسألة الولاء على راس الاولويات، ساهم في تراجع تعدد الاراء داخل الدائرة الضيقة له. ويشار الى خروج ثلاثة من اهم صقور الحرب من الولاية الرئاسية الثانية: هيلاري كلينتون وروبرت غيتس وديفيد بيترايوس، مما ضيق هامش تباين وتعدد الاراء. ويسجل لجون كيري انه ربما الشخصية الوحيدة داخل الادارة لديها الحنكة والعزم السياسي لطرح وجهة نظر مغايرة للثلاثي الموالي للرئيس: فاليري جاريت وسوزان رايس وسمانثا باور.
سياسة الادارة نحو مصر تجلت في ارسال اشارات متناقضة للمسؤولين المصريين نتيجة تعدد الاراء وعدم انسجامها في لحظات محددة، ادت الى حيرة الجانب المصري في كيفية صياغة الرد المناسب على الاجراءات الاميركية الاخيرة. ومنها على سبيل المثال، تخلف الادارة عن تحديد ما تراه مطلوب من مصر اتخاذه بغية استعادة المساعدات المعلقة، ولو جزئيا، حسبما اوضحت مصادر الحكومة المصرية.
للتذكير، فان خلفية سمانثا باور هي في المجال الفلسفي النظري تروج للاعتبارات الانسانية في صياغة السياسات عوضا عن النظر بمنظار المصالح الاستراتيجية؛ وسوزان رايس هي الاداة التنفيذية لتلك الرؤى عبر موقعها الحساس في رئاسة مجلس الأمن القومي. اما فاليري جاريت، المحامية بالمهنة، فتوفر الغطاء السياسي للتوجهات باستغلال علاقاتها الوثيقة مع الرئيس اوباما للفوز بموافقته على توصياتها، وامتدادا تحييد وجهات النظر المغايرة.
مصالح الدول مهما بلغ شأنها ومقامها تأخذ في الاعتبار الابعاد الاستراتيجية لتحقيق اهدافها بعيدة المدى، غير مقيدة بفريق سياسي معين في السلطة، مما يضع فريق وزير الخارجية جون كيري في عين العاصفة يراكم انجازاته ويبنى عليها للفريق المقبل بعد انتهاء ولاية الرئيس اوباما. اما السياسات المبنية على تحقيق اهداف آنية تعود بنتائج سريعة، باستغلال البعد والاعتبارات الانسانية، فمن شأنها ترجيح كفة الثلاثي المذكور عند الرئيس اوباما وتسخيرها في خدمة خطابه السياسي في مواجهة خصومه الكثر.
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية