الأزمة الأمريكية: أزمة مالية أم أزمة بنيوية؟ أسباب وتداعيات على الصعيد الداخلي والخارجي
زياد حافظ زياد حافظ

الأزمة الأمريكية: أزمة مالية أم أزمة بنيوية؟ أسباب وتداعيات على الصعيد الداخلي والخارجي

سنحاول في هذا العرض تحديد ما سمّاه الإعلام بـ «أزمة سقف الدين« في الولايات المتحدة التي أدّت إلى إقفال جزئي للعديد من مرافق الدولة الأمريكية، كما سنعالج الأسباب والتداعيات الناتجة عن هذه الأزمة.

في هذا العرض سنعرّف الأزمة المذكورة، وسنحاول تحليل الجذور .. ومن مقاربة الأسباب والتداعيات نستخلص أن الأزمة الحالية أزمة بنيوية، وليست ظرفية كما يروّج البعض.


تعريف الأزمة


الأزمة الحالية تُعرّف بأزمة «سقف الدين«.. والمقصود بسقف الدين هو الحد الأقصى للإقتراض من الدولة لتسديد التزاماتها، عندما تفوق النفقات على الواردات، والعجز الذي ينتج عن ذلك يموّل إما من احتياطات سابقة لموازنات حقّقت فائضاً أو عبر الاقتراض، أي بمعنى آخر إن تراكم العجز في الموازنة يشكل متن الدين العام.
الحكومة الأمريكية تموّل الدين العام عبر عملية اقتراض، ويعني هذا تقنياً أن الخزينة الأمريكية، أي وزارة المال، تصدر سندات لتسديد ذلك الدين. وتعتبر تلك السندات استثماراً من المؤسسات المالية في أمريكا وفي العالم، وهي أكثر الاستثمارات المضمونة والتي لا تشوبها أي مخاطر، وبالتالي تتمتع بتصنيف ائتماني AAA أي أعلى تصنيف ممكن تصدره شركات التصنيف. حتى هذا التاريخ لم تتوقف الحكومة الأمريكية عن تسديد تلك الالتزامات، مما حافظ على مكانتها الائتمانية فيما يخصّ سندات الخزينة الأمريكية.


حجم المشكلة


عندما نتكلّم عن «حجم المشكلة« نعني أن خلفية الخلاف تكمن في حجم الدين العام الذي تجاوز 17 تريليون دولار أي ما يوازي 106% من الناتج الداخلي، وهذه أرقام ضخمة ترعب الأمريكيين والعالم إذا ما أعلن إفلاس الولايات المتحدة، ويصبح السؤال: هل هناك موارد  كافية لتسديد أو تخفيض ذلك الدين؟
في هذا السياق إذا دققنا في بنية الدين العام الأمريكي نجد أن 75% منه أي ما يوازي 12 تريليون دولار تقريباَ يحمله الجمهور بينما 25%هي ديون بين مؤسسات حكومية أي ديون من الدولة على الدولة!
كما نجد أن حوالي 47% أي ما يوازي 5 تريليون  من الدين الذي يحمله الجمهور هو لمصادر أجنبية وخاصة بعض الدول الآسيوية التي تحمل الدين العام الأمريكي من سندات الخزينة وأوراق مالية مختلفة. للمعلومة فإن للصين 1,2 تريليون واليابان 1,1 تريليون، والبرازيل 230 مليار على سبيل المثال.
من هذه النافذة نجد البعد الدولي أو العالمي للدين العام الأمريكي، أما في بنية الدين فيعود إلى العجز المتراكم ومنه: 3,5 تريليون بسبب التحولات الاقتصادية أي الانكماش الاقتصادي الذي أدّى إلى انخفاض في الموارد الضرائبية، 1,6 تريليون التخفيضات الضرائبية التي أُقرت في ولاية بوش الابن ولمصلحة الأثرياء، 1,4 تريليون الكلفة المباشرة للحرب في كل من أفغانستان والعراق، 1,4 تريليون ارتفاع كلفة الدين بسبب تفاقم الحسابات المدينة، حوالي 1 تريليون دولار كحوافز لتنشيط العجلة الاقتصادية منذ 2008، أي إجمالي بقيمة 12 تريليون دولار تقريباً.


ثقافة الدَّيْن والنموذج الاقتصادي


اعتمدت الولايات المتحدة على الاقتراض كثقافة اقتصادية ومالية تساهم في النمو لما يشكّله الدين كرافعة لمضاعفة المردود على الرأس المال. كان  سبب الاقتراض في الدولة سياسة الاستهلاك كمحرّك أساسي للعجلة الاقتصادية، والتحوّلات التي حصلت في البنية الاقتصادية الأمريكية كانت بقرار سياسي شامل، حيث تمّ توطين القواعد الإنتاجية الصناعية خارج الولايات المتحدة للإستفادة من انخفاض كلفة اليد العاملة وغياب القوانين الضابطة للعمل وللبيئة إضافة إلى الحوافز الضريبية التي فُرضت على الدول المستضيفة لتلك القواعد الإنتاجية.
أما ثقافة الدين فكانت المحرّك للإستهلاك المفرط كقاعدة للنمو الاقتصادي، بالمقابل رافقت ثقافة الدين حملة مركّزة لفضّ القيود الضابطة (deregulation) التي جعلت من المؤسسات المالية تموّل المضاربات المالية وتجني الثروات الافتراضية.  من ضمن عملية المضاربات كان الاقتراض، العمود الفقري لها، لمضاعفة المردود على رأس المال، فكانت النتيجة تفشّي ثقافة الريع المالي والثروة الافتراضية على حساب المجهود الإنتاجي، وتعميم ثقافة الدَّيْن على المستهلك جعلته يستهلك المزيد من السلع خارج إمكانية الرواتب والأجور.
كان مصدر الاستهلاك من الخارج عبر عملية الاستيراد، والدول الآسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين، وجدت من مصلحتها تمويل صادراتها للولايات المتحدة عبر حمل سندات الخزينة الأميركية لتمويل العجز في الميزان التجاري لمصلحتها.
قد يتساءل المرء: وما دور الحكومة الأمريكية في كل ذلك إذا كان المواطن يستهلك سلعاً مستوردة ؟
هنا يأتي دور هيمنة الدولار كوسيلة للدفع، فالسلع المستوردة تدفع بالدولار وزيادة الاستيراد تزيد من كمية الدولار في التداول. لكن إقدام البنك المركزي الأمريكي على طبع الدولار ساهم في زيادة الدين العام، لأن الدولار هو في الأساس دين على الدولة، وتمويل ذلك الدين يكون عبر الاقتراض أو سندات الخزينة.
مكنت الهيمنة الأمريكية عبر الدولار الولايات المتحدة من الاستيراد  والاستهلاك فوق طاقتها الإنتاجية وبتمويل الدول المصدّرة.  من هنا نفهم مدى قلق الأمريكيين من تراجع دور الدولار في العالم، فالتراجع يفقد الدولار دوره كوسيلة للهيمنة الاقتصادية والمالية، وتقلق الدول الحاملة لأصول مدوّنة بالدولار لانخفاض قيمتها.
وصل النموذج الاقتصادي المبني على ثقافة الاستهلاك والدين إلى مأزق عام 2008 في أزمة الرهونات العقارية ولم تتعاف منها حتى الآن.
أزمة سقف الدين العام ستزيد من الطين بلّة وستتفاقم الأزمة، والبعد السياسي واضح،  فلم يكن من الممكن تعميم ثقافة الاستهلاك لولا الإمعان في سلب القوة الشرائية من المواطن الأمريكي عبر انخفاض القيمة الفعلية للأجور، وهذا ما حصل من ولاية ريتشارد نيكسون حتى نهاية ولاية كلنتون.
أضف إلى ذلك اعتماد نشر ثقافة البطاقة الإئتمانية للإستهلاك كبديل عن رفع الأجور والرواتب، فالفوائد الناتجة عن استعمال تلك البطاقات قد تجاوزت 30% سنوياً على الرصيد المدين عند المستهلك. وأصبحت الفوائد الربوية المصدر الأساسي لدخل المؤسسات المالية التي تصدرها، ومن هنا نرى تفاقم الثروات الافتراضية لتلك المؤسسات المالية عبر ثقافة الدين دون الاكتراث إلى أن في يوم من الأيام ستفقد القدرة على التسديد!
ساهم  نفوذ المؤسسات المالية إلى حد كبير في فض القيود الرقابية على أعمالها وحصل ذلك منذ ولاية ريغان، ووصلت ذروتها في ولاية كلينتون، وليس بوش الابن كما يظن البعض.


أساب الخلاف في
معالجة قضية الدين العام


الخلاف القائم بين الديمقراطيين والجمهوريين للوصول إلى اتفاق حول رفع سقف الدين العام يعود إلى خلاف أعمق حول حجم الدين الذي يعكس خلافاً تأسيسياً جذوره التاريخية في تكوين الولايات المتحدة،  فمن جهة نجد أن الجمهوريين يحبّذون دولة مركزية محدودة النفوذ، وبالتالي لا تجبي الضرائب كي لا تنفق، إلاّ على ما يعتبرونه فوق طاقة الولايات وطاقة القطاع الخاص، كالبنى التحتية مثلاً، بينما يعتبر الديمقراطيون أن مسؤولية الدولة هي تقديم الخدمات لمكوّنات المجتمع التي لا تستطيع أن تقوم بها، أو التي لا تجدها إلاّ بكلفة عالية، تفوق طاقتها كالتعليم والصحة مثلاً.
هذا الخلاف العقائدي في رؤية الدولة أدى إلى انقسام عامودي بين الأمريكيين، تجلّى في ذهنية اللعبة الصفرية، حيث أصبح هدف كل حزب إفشال الحزب الآخر، وإن كان على حساب المصلحة الوطنية. والثنائية في العمل السياسي بين الحزبين كانت مصدر قوة ومستوردة من التجربة البريطانية، إلاّ أنها وصلت إلى طريق مسدود بسبب التحوّلات في البنية السكّانية باللون واللسان والدين، وبسبب الضيق الاقتصادي الناتج عن تراجع مكانة الولايات المتحدة في العالم بسبب تحوّلها من أكبر دولة منتجة للسلع إلى دولة، تستند في إنتاج ثروتها على الريع المالي الافتراضي.
من خلال عرضنا لمشكلة سقف الدين تبيّن بشكل واضح، أن المشكلة جذورها سياسية، عندما أقدمت النخب السياسية على اتباع نموذج اقتصادي، أوصل الولايات المتحدة إلى طريق مسدود، كما أن المصالح التي تجسّدها الثروات المالية الافتراضية تحول دون إمكانية اتخاذ قرارات، يمكنها أن تعيد بناء الولايات المتحدة.
يمكن للولايات المتحدة أن تتجاوز الأزمة الحالية بشكل مؤقت، ولكن نرى وتيرة الأزمات تتلاحق دون أن تنكبّ النخب على معالجة جذرية للأمور، والهم السائد عند جميع الأطراف هو تأخير الاستحقاقات، وتركها لنخب أخرى، تتحمّل وزر القرارات الصعبة.

 


*محاضرة ألقيت في دار الندوة في بيروت بناء على دعوة من دار الندوة في 9 تشرين الأول 2013
**أمين عام المنتدى القومي العربي