صمت الأميركيين عن سياسات حكومتهم: مساءلة الشعب والنظام.. ومناقشة في الجذور والأسباب (2)
لقد بنى الغرب الرأسمالي مفاهيمه في الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وفق رؤية المركزانية الأوربية البيضاء وبما ينسجم مع مصالحه التي تهدف الى إخضاع شعوب العالم ووظّف هذه الرؤية في غزوها ونهب ثرواتها.
إلا أن هذه الرؤية والأجندة الرأسمالية لم تستهدف الشعوب الأخرى لوحدها، بل انها لم تدّخر الشعوب الغربية الأوروبية البيضاء أي شعوب الغرب الرأسمالي ذاتها، لأن تحقيق مصالح رأس المال يتطلب، بالاضافة الى النهب الامبريالي، ضبط الاوضاع الداخلية في تلك المجتمعات وضبط الوعي الشعبي وحراك الجماهير وضمانه خنوعها وسلبيتها.
* * *
تتميز الولايات المتحدة، من حيث نشأتها كمستوطنة أوروبية بيضاء، بسمات رئيسية ربما تشكّل مدخلاً هاماً لموضوعنا:
1) يشكّل العِرق والدين والطبقة الإجتماعية أهم مكونات الهوية الجَمْعية الأميركية؛
2) هذه المكونات مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بين بعضها البعض من جهة، وببنى السلطة والطبقة المهيمنة من جهة أخرى، وهي بُنى نستطيع أن نفهمها ونجد تعبيرها ومصدرها في القوى والمصالح الطبقية؛
3) لقد ساهمت هذه المكونات الرئيسية، العرق والدين والطبقة، في تكوين نظرة الأميركي الى ذاته وفي التأسيس لصمته على سياسات حكومته والقبول بها؛
4) ان قبول المجتمع بالفوقية والتمايزات العِرقية والدينية (الأوروبية البيضاء – المسيحية الغربية) والطبقية، بان يكون هناك غني وفقير، سادة وعبيد، وغيرها من الفوارق الطبقية والاجتماعية، هذا القبول يستلزم “ثقافة” الإستكانة والطاعة، لذا وجب العمل على زرعها في ثنايا الترويض التربوي والنظام التعليمي والاعلامي والاجتماعي الذي يفترض القبول بهذه الفوارق ويقبلها على أنها الأمر العادي والمألوف.
قد تجرنا هذه القضابا بطييعتها الى الابحار في التاريخ البعيد وهو ما سنحاول تجنبه لنوجز وجهة نظرنا في سؤال:
كيف ينظر الأميركي الى ذاته؟
تتكثف الاجابة على هذا السؤال في الرؤية الفوقية عند الأميركي وفي معاني هذه الفوقية والتي ترتكز على العِرق (الأبيض) والدين (المسيحية الأوروبية ـ الغربية) وهيمنة الطبقة البيضاء، والعلاقة الجدلية بين هذه المكونات الثلاث.
1) فوقية العرق الأبيض
منذ بداية الغزو الأوروبي الأبيض ل”العالم الجديد”، صاغ الأوروبي الأبيض فوقيته ونظرته الى ذاته حيال الأعراق الأخرى[1] على فرضيات عُنصرية ومُتخيلة أخذت القوى الطبقية والإجتماعية والثقافية في فرضها عُنوة على علاقات البيض بالأعراق الأخرى ونجحت في ذلك عبر تاريخ دموي طويل من الإبادة الوحشية للهنود الأميركيين الأصلانيين والعبودية والتمييز العُنصري. ولسنا بحاجة الى النظر بعيداً في المجتمع الأميركي لنرى تجليات هذه الفوقية في الحياة الأميركية العامة:
أ) ففي المجتمع الأميركي، الأبيض هو الطبيعي… هو العادي والمألوف… وهو المهيمن.
ب) على المستوى الاقتصادي ـ الاجتماعي ــ السياسي، أصبح بَياض البشرة معياراً لتوزيع الثروة والقوة والسلطة.
ج) أما ثقافياً، فان العِرق الأبيض وثقافته يحملان دلالات ثقافية وفلسفية وتجليات معينة في نمط الحياة الأميركي والاستهلاكية الأميركية ومختلف أنشطة المجتمع والسوق والثقافة والاعلام والدعاية والأفلام السينمائية والتلفزيون وغيرها.
د) عُنصرياً، فان تعبير الأييض يتضمن معاني الفوقية والتمييز ويستجلب ولو ضمنياً تفوق العِرق الأبيض white supremacy.
ولعل ما نشهده اليوم من استعلاء الأبيض الأوروبي ــ الأميركي على الإنسانية باسرها هو، في الجوهر، احدى تجليات هذه الفوقية. غير أن الكارثة تصبح أعظم حين يستدخل غير البيض هذه النظرة الاستعلائية وهو ما يتجلى بالاقرار والقبول بدونيتهم (غير البيض) ومحاولة التماثل مع البيض، سواء من حيث المظهر او محاكاة السلوك والموقف، مما يعني تعبيراً عن قناعتهم بدونيتهم الملفقة والمصطنعة تاريخياً وثقافياً وأنثروبولوجياً. في نهاية المطاف تكتمل عملية استدخال غير البيض لدونيتهم في رضاهم بهزيمتهم النفسية الداخلية ليصدق فيهم قول ابن خلدون بإن الامم المهزومة تميل الى تقليد الامم المنتصرة في عاداتها وتقاليدها وحتى في زيّها. فكيف لنا بعد ذلك أن نَعجب إن غالى الأبيض في زهوه وفوقيته على كافة خلق الله!
2) الدين (المسيحية الأوروبية/الغربية)
يحتل الدين موقعاً مركزياً في تكوين الهوية الأميركية وفي نظرة الأميركي الى نفسه والى غيرة. وتهمنا مسألة الدين (المسيحية الأوروبية) هنا لانها تستدعي (1) تكريس الفوارق بين الناس والأعراق (الأبيض وغير الأبيض، المسيحي وغير المسيحي)، و(2) ولأن الدين يتحالف مع العِرق كما أشرنا أعلاه. وقد عمل الأوروبيون البيض منذ قرون على ترسيخ الفوارق الدينية بينهم وبين الآخرين، أي بين المسيحية الأوروبية والديانات الأخرى، وفوقية الأولى على الأخرى.
3) العرق والدين والطبقة: جدلية المصالح
المجتمع الأميركي محكوم بتراتبية hierarchy عِرقية وإثنية لا تُخفى على أحد، وهي تراتبية رافقت حقبات نشأة وتطور هذا المجتمع وشملت كافة نواحي ومستويات حياته وأنشطته، وأنتجت في نهاية المطاف بنية اجتماعية عمادها، كما ذكرنا، العِرق الأبيض والمسيحية الأوروبية، تهمين عليها طبقة عِرقية بيضاء تتمتع بمصالح طبقية واجتماعية واسعة وتستحوذ على امتيازات وأفضلية على الأعراق والفئات الأخرى.
هذه المصالح، وما خلقته الطبقة المهيمنة من بنى طبقية واجتماعية لحمايتها وإدامتها، هي السبب الجذري في تهميش “الآخر” وإضطهاده ومحاولة محوه واجتراح الذرائع لتبرير جرائم الإبادة العِرقية لأغلبية الهنود الأميركيين الأصلانيين، والمتاجرة بالعبيد السود ثم إستعبادهم بعد استحضارهم من أفريقيا، ومسلسل الحروب الإمبريالية الأميركية من اجل نهب موارد الشعوب.
تتحكم القوى الطبقية ـ الاجتماعية المهيمنة بصنع القرار عن طريق ملكية وسائل الإنتاج وما تفرزه من علاقات الإنتاج والسيطرة على توزيع الثروات والإستحواذ على الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال الاستفراد بالسلطة.
في هذه اللوحة المعقدة، نَسجت الطبقة المهيمنة أيديولوجيتها الطبقية وغلّفتها باقنعة الاستحقاق والأحقية للبيض الأوروبيين. ولم يتوقف جشع هذه الطبقة عند حدودها الجغرافية وسوقها المحلية، بل سعت الى غزو العالم وعولمت هيمنتها على شعوبه وموارده وسلمتها للشركات الرأسمالية الكبرى كي تتحكم بها وتجني الأرباح الفلكية، والتي تعود بدورها لترسيخ مصالحها وامتيازاتها الاقتصادية ـ الطبقية.
III
في العوامل والأسباب
كيف وصلنا الى ما نحن عليه؟
كيف اقتنع “العقل الأميركي” بسياسات حكومته وأكاذيبها وتواطأ معها ــ من حيث يدري او لا يدري لا يهم ولا يغير في الأمر شيئاً ــ في حروبها الداخلية (ضد الفقراء والمهمشين وسواد الطبقات الشعبية) والخارجية (ضد شعوب العالم)؟
الاجابة على هذا السؤال تستلزم بحثاً مستفيضاُ، ولكنني سأقدم فيما يلي مدخلاً متواضعاً لبعض العوامل والأسباب الرئيسية:
1) الفوقية البيضاء
كما أسلفنا فان هذه الفوقية تتضمن فوقية الدين (المسيحية الأوروبية) والعرق (العنصرية البيضاء) والعلاقة الجدلية بينهما. وبعيداً عن الأبعاد النظرية، فان خطورة العُنصرية في المجتمع الأميركي، تكمن في مأسستها وتغلغلها في يوميات الواقع أي في الأضرار التي تُلحقها بالناس وبالمجتمع وخصوصاً بالأعراق والاثنيات غير البيضاء. فالعنصرية، أياً كانت، ليست مجرد طروحات نظرية في العِرق والبيولوجيا، بل هي آلية فتّاكة في أيدي الطبقة الحاكمة تقتضي، من أجل تأدية وظيفتها، التأسيس لخطاب وثقافة عنصريين يتم ترسيخهما في الثقافة الشعبية العامة. ولا شك ان قوى اجتماعية وسياسية وثقافية متعددة عملت لأمدٍ طويل في هذا المسعى وبنجاح ملحوظ عبر ما يُسمى بمنظمات المجتمع المدني وغيرها.
لم يقتصر الخطاب العُنصري على الأعراق والاثنيات في الداخل الأميركي، بل تعداها الى موقف عنصري إستعلائي من الشعوب الأخرى. وهو ما يفسر كيف أصبح من المقبول لدى المواطن الأميركي ان تذهب حكومته الى بلدٍ كالعراق لتحتله وتدمره وتنهب نفطه وموارده وحتى حضارته لأن الشعب العراقي، وفق ادعاءات هذا الخطاب، “أدنى” ولا يستحق ثرواته أصلاً ولأن النفط الذي يرقد في باطن أرضه هو “نفطهم” كما يدعي غلاة الإمبرياليين.
2) نمط الحياة الأميركي:
ملاحظات
أ) ثراء زائف
تبدو الولايات المتحدة، على الأقل في ظاهرها وفي الصورة التي يعممها اعلاميوها وساستها، دولة غنية ومهيمنة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وقادرة على فرض املاءاتها. وهي ظاهرة يمكننا اسقاطها على الدولة والمجتمع والفرد. ما اقصده هو أن الأميركي يبدو غنياً، كيف لا وهو يملك السيارة الفارهة والبيت الجميل، إلا انه في الغالب لا يملك منها شيئاً لأن مالكها الفعلي هو البنك او المؤسسة التي قدمت له القرض ليقتنيها، وعندما يتقاعس الأميركي عن تسديد دفعات هذه القروض فانهم يصادرونها.
ب) ضغوط حياتية
■ تحتقن الحياة الأميركية بالأزمات المتواصلة وضغوط الحياة اليومية الكثيرة. وبالاضافة، يعيش المواطن حالة من التشويش والخلط والعجز عن فهم ما يدور حوله من مجريات الأحداث. وهنا يلعب الاعلام دوراً خطيراً في تلقين وتجهيل عامة الشعب، حيث تشير عدة دراسات واحصائيات الى أن معظم الأميركيين لا يدركون أبعاد الأزمات والقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأن معظمهم يظنّ أن تأزم الأمور ليس حاداً أو انه لم يصل درجة حرجة بعد. وهذا الشعور يعين الأميركي، على الأقل نفسياً، على مزاولة عاديات الحياة ويومياتها دون الحاجة الى تغيير نمط العيش حتى في أزمنة الحروب والأزمات الداخلية والخارجية. ولكن على الرغم من هذا، يتمسك الأميركي بهذه المقتنيات ويكاد “لا يتصور الحياة بدونها”، فيصبح هذا “الاستحقاق” المتوهم ركيزة أساسية لموقفه من الحياة والمجتمع والسياسة والحكومة وافعالهه.
■ ولكن ما يجدر التنويه اليه، هو أن الكثير من هذه الضغوط اليومية ينبع من طبيعة النظام القائم وليست بالضرورة ناتجة عن متطلبات حقيقية أو احتياجات معيشية.
■ أحدى مفارقات نمط الحياة الأميركي أنه بالرغم من كافة التسهيلات والتحسينات التي توفرها التكنولوجيا للأميركيين، فان أغلبيتهم تشكو من قلة الوقت وكيف يمضي النهار سريعاً دون ان ينهوا أشغالهم.
■ على الرغم من هذا كله، يتوفر للكثير من الأميركيين احتياجاتهم في الحياة والرفاه وهو ما يخلق الانطباع والقناعة بان الحياة سهلة. إلا ان هذا الانطباع يأتي أيضاً تلبية لمقولة و”مُسلمة” متأصلة في ثقافة الأميركي ونشأته، وتتجلى بوضوح في الأجيال الجديدة، وهي أن الأميركي يستحق كل ما يحصل عليه وهو استحقاق وليس انجازاً وليس بالضرورة نتيجة جهد أوعمل، لذا نرى الأميركي يطلب المزيد ويتوقع الأكثر.
■ تشير معطيات مكتب الاحصاءات الى ان ما يقارب سُدس الأميركيين يغير مكان اقامته مرة كل سنة، وأن الأميركي يغير مكان اقامته خلال حياته ما يعادل اثني عشر مرة. وتكمن أهمية هذه المعطيات في ان تغيير مكان الاقامة يعني الابتعاد عن الاسرة والأهل والأصدقاء أي زعزعة استقرار العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاسرية القائمة وبناء علاقات جديدة.
■ تاريخياً، تعتبر المناطق الريفية والنائية في الولايات المتحدة جاهلة سياسياً ويشكل ضعف وسائل الاعلام فيها مقارنة بالمدن الكبري أحد الاسباب الرئيسية لذلك.
ج) دور التقدم التكنولوجي
يتحمل التقدم المادي التكنولوجي للمجتمع الأميركي (خصوصاً آخر مبتكرات الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية والالكترونية مثل سلسلة م ب 3 والخلوي) جزءً كبيراً من المسؤولية عن التغيرات السيكولوجية والاجتماعية والطبقية في المجتمع الأميركي وفي المجتمعات الغربية المتقدمة صناعياً بشكل عام. فقد غدا عالم التكولوجيا يتحكم بنا وبمسلكيتنا ويحاصرنا من كل الجوانب ويعمينا عن رؤية القيمة الحقيقية للحياة والإنسان، بل أصبحت التكنولوجيا، وفي كثير من الحالات، وسيلة التواصل الوحيدة بين الناس. وإن كان لهذا التقدم الكثير من الايجابيات، إلا انه يدفعنا الى اقصاء الآخرين عن حياتنا والعزوف عن العمل الجماعي، كما انه يعمق فينا النزوع نحو العزلة والوحدة والعمل الفردي. خلاصة القول أن التقدم التكنولوجي سهّل على الأميركي الشعور بالرضى عن الذات والابتعاد عن الآخرين، وساهم في تذرير المجتمع معرفياً ووعيوياً وفردنته بشرياً بحيث أصبح الفرد يرتبط بالجهاز الإلكتروني نيابة عن المجموعة او الطبقة او المجتمع، ويقع فريسة في أنياب الدعاية الاستهلاكية اولاً ، والتجويفية للوعي ثانيا، والقاتلة لاية نزعة نحو التمرد او الانتفاض على الواقع، وبالتالي تتحول المجتمعات الى افراد ـ عبيد بمحض ارادتها المسلوبة.
د) الفردانية والاستهلاكية
لقد اكتملت صياغة “الفرد أو الإنسان الرأسمالي”، إن جاز التعبير، في ظل الرأسمالية الأميركية عبر عملية اجتماعية وثقافية مديدة، تبلورت في بعدين رئيسين:
1) فردانية مفرطة ومنغلقة على ذاتها نستطيع أن نقرأ عناوينها الرئيسية في نمط الحياة الأميركي The American way of life. وتنعكس هذه الفردانية في تأليه الذات والافتتان بالسعادة الشخصية وتغييب الكل الجمعي وازالته من وعي الفرد، وتلاشي قيمة الآخرين والإنسانية. وفي جدلية الفردانية والاستهلاكية، يكتمل هذا الفرد ليصبح “المستهلك الأمثل” والتجسيد المادي للحلم الرأسمالي، ويصبح “مقدار ما تملك” معياراً لقيمتك كإنسان ولموقعك الاجتماعي وسعادتك الشخصية.
2) أما البعد الثاني، والذي لا يقل أهمية، فهو ان هذا الفرد يصبح أسيراً لنمط حياته وأوهام الاستهلاك الذي تصور انها “احتياحات” و “ضرورات”، ولا يعود قادراً على الانفكاك من هذا النمط ــ والنظام الاستهلاكي الذي يرتكز عليه ــ لأنه لا يستطيع التضحية ب”مستوى معيشته” ورفاهيته.
3) الأميركيون والحرب
أ) الحرب “جيدة” للاقتصاد
علاقة الأميركي بالحرب والعدوان والعنف، علاقة شائكة ومعقدة تعود جذورها الى نشأة المستوطنة الأوروبية البيضاء على هذا الجزء من العالم الذي نسميه اليوم الولايات المتحدة الأميركية. هي علاقة تتفاعل فيها عوامل الأخلاق والقيّم والدين والعِرق من ناحية، وتحتدم فيها تناقضات المصالح ورخاء العيش من ناحية أخرى، وتتجلي فيها أبشع مشاهد التلقين والتجهيل للمجتمع على نحو ممنهج ومنظم، من ناحية ثالثة. فالأميركيون يتلقون بل يتلقنون، منذ صغرهم وفي مراحل تعليمهم المبكرة، تطبيعاً متأصلاً وممنهجاً مع فكرة الحرب ومبدأ الاعتداء على الآخر والبلدان الأخرى وغزو أراضيها واحتلالها، وقبول الحرب كشأن طبيعي بحجة انها تحفز الاقتصاد الوطني وأنها ضرورة لحماية الأمن القومي الأميركي. ينشأ الأميركي إذن وينمو متصالحاً مع هذه الأفكار والقيم ومتصالحاً في الأن مع نفسه بها. وهذا هو ما تدلل عليه المقولة المشهورة في أميركا ومدارسها ومجتمعها ان الحرب جيدة للاقتصاد الوطني War is good for the economy.[2]
فالحروب الأميركية، وفق هذه المقولة البربرية، تضمن “تشغيل” مئات الآلاف من الأميركيين من فقراء البيض والسود واللاتينيين والملونين والمهاجرين[3] وتحرك دولاب الإقتصاد بتنشيط الصناعات الحربية وكافة فروع الإنتاج الأخرى المرتبطة بها بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي كثيرة ومتعددة.
ب) رفاهية الشعب الأميركي: من أين لك هذا؟
كي يتسنى للطبقة الرأسمالية الحاكمة ان تضمن أرباحها الخيالية ومصالحها الطبقية والاقتصادية والاجتماعية:
1) كان لا بد لها من التوسع الإمبريالي وشن الحروب العسكرية والسياسية والإستراتيجية من أجل نهب ثروات الشعوب لزيادة أرباحها والقاء بعض الفتات على شعبها لضمان صمته وتواطئه مع سياساتها العدوانية.
2) كما إقتضى الأمر إحكام هيمنتها على شعبها من خلال آليات الهيمنة في السلطة والدولة وتخدير الجماهير وضمانة ما يُسمونه ب”السلام الاجتماعي” social peace في بلدها، وتوفير “مستوى عيش” مقبول لعموم شعبها.[4]
بناءً عليه يكون السؤال: هل تقوم رفاهية الأميركي، أو على الأقل في جزءٍ منها، على الحروب والاعتداء على الشعوب الأخرى؟ وهو ما يفضي بدوره الى مناقشة وتحدي المقولة التي تدّعي بان رفاهية الشعب الأميركي و”الزمن الأميركي” استحقاق ونتاج لقدرات أميركا وجهود شعبها وعمله وتضحياته.
فما هو مقدار صحة هذه المقولة؟
إن الرخاء الذي ينعم به الأميركيون هو في جزءٍ اساسيٍ منه، ثمرة نهب ثروات وعقول العالم وخاصة العالم الثالث، ولم يكن له أن يتحقق لولا سرقة هذه الثروات ووضعها في خدمة رأس المال والنهضة الاقتصادية والصناعية الأميركية من خلال عملية نهب منظم ومعولم امتدت عدة قرون. وقد تحقق ذلك على نحو مشابه لحالة الكولونياليات الأوروبية التي نهبت ثروات افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والبلدان النائية في المحيط.
ليس فيما ذهبنا إليه ما ينكر دور أميركا في الانجازات العلمية والتكنولوجية خلال القرن الماضي، بل إن المقصود هو الإشارة الى أن هذه الانجازات لم تكن لتتحقق في جزءٍ كبيرٍ منها وعلى مستويات عدة لولا نهب ثروات وعقول الشعوب الأخرى وهيمنة الولايات المتحدة على العالم.
ج) الحرب … النمو الإقتصادي … و”السعي وراء السعادة”
ينص إعلان الإستقلال للولايات المتحدة (1776) على ان “الحياة والحرية والسعي وراء السعادة”[5] هي حقوق منحها الخالق للإنسان وهي غير قابلة للتصرف. وقد ترسخت هذه المقولة في وعي الأميركي منذ نشأة دولته.
أما مسيرة الرأسمالية الأميركية فتنبؤنا بامرِ مغايرِ تماماً، وهو أن “الحياة والحرية” لا معنى لها ولا قيمة إن لم تخدم رأس المال، وأن المسعى في ظل الرأسمالية كان دوماً من أجل الربح والمزيد منه ولا علاقة له من قريب أو بعيد ب”السعادة”. هكذا أصبحت مقولات الحرب جيدة للاقتصاد والنمو الاقتصادي، الحرب ورفاهية الشعب والسعي وراء السعادة، أصبحت تعني من الناحية العملية هجوماً متواصلاً على الموارد الطبيعية والإنسان والبيئة وحروباً مستمرة على الشعوب وثرواتها.
ولكن الحروب الأميركية تتطلب اخضاع موارد الدولة لميزانية الحرب الأميركية الباهظة الكلفة والتي تقارب 53 سنت من كل دولار حسب التقديرات الأخيرة وتعادل ميزانيات الدفاع لكل دول العالم مجتمعة، وهو ما يثير سؤالين:
1) كيف لحكومة أن ترصد هذا الكم الهائل من ميزانيتها وموارد شعبها دون رضاه (الشعب)؟ وكيف نجحت في اسكاته؟
2) وهل هناك حروب خارجية وإمبريالية دون حروب داخلية؟ حروب ضد العمّال والمرأة والفقراء والمُهمشين من الطبقات الشعبية، حروب من أجل ضبط السكان وقمع المعارضة السياسية وحركات مناهضة الحروب والرأسمالية والامبريالية، ومن أجل قمع الحريات والحقوق المدنية والدستورية والديموقراطية؟
د) كيف تبرر الحكومة الحروب لشعبها؟
يأتي رد الطبقة الحاكمة متمحوراً حول فكرتين أساسيتين:
1) يجب على أميركا أن تحافظ على تفوقها العسكري والاقتصادي. لماذا؟ وكيف؟ ولخدمة اية غايات؟ لا يهم. لا أحد يسأل.
2) على الرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة في الولايات المتحدة ومخاطر الانهيار الاقتصادي، يقول النظام أنه لا بد من الحفاظ على هذا “الهدف النبيل” – أميركا القوية والأقوى – وهو ما يتطلب من المواطن أن يقدم التضحيات والتنازلات في سبيله.
المصدر: نشرة كنعان