إصرار على العبث
فرحاً بأنه “حظي بجميع الترتيبات البروتوكولية التي تقدم لرؤساء الدول”، ألقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بصفته “رئيس دولة فلسطين”، فقال: “دقت ساعة الحرية للشعب الفلسطيني”، قالها في وقت كان فيه الفلسطينيون يواجهون رصاص الجيش “الإسرائيلي” وانتهاكات المستوطنين ويعتقلون في الخليل والقدس ورام الله
ويسقط منهم شهداء وجرحى، من دون أن ينسى أن يقدم لسامعيه إحصائية بالحصيلة منذ بداية العام! لكن ذلك لم يمنعه أن يضيف قائلاً: “دقت ساعة استقلال فلسطين، دقت ساعة السلام للشعبين الفلسطيني و”الإسرائيلي””! ساعة من تلك التي دقت، وحسب أي توقيت؟! ومن دون التوقف عند بعض التفاصيل، فإننا نفهم أنه كان يقصد “ما يجب أن يكون” وليس ما هو كائن فعلاً، أو ما تفيد به المعطيات الماثلة أمامه .
ومسترجعاً ما يبدو أنه معروض عليه في المفاوضات، أكد عباس أنه يرفض الدخول “في دوامة اتفاق مؤقت جديد يجري تأييده، أو الانخراط في ترتيبات انتقالية تصبح قاعدة ثابتة بدل أن تكون استثناء طارئاً”، موضحاً “إن هدفنا هو التوصل إلى اتفاق دائم وشامل ومعاهدة سلام بين دولتي فلسطين و”إسرائيل” تعالج جميع القضايا وتجيب عن كل الأسئلة وتغلق مختلف الملفات”، وكل ذلك يفترض أن يتحقق في تسعة أشهر، كما وعده بذلك وزير الخارجية الأمريكي جون كيري!
وبالتوقف عند ردود فعل الفلسطينيين على كلمة الرئيس في الأمم المتحدة، توزعت الآراء والمواقف . فهناك من رأى، أن كلمة الرئيس عباس كانت “رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي”، وأن على هذا الأخير أن يخف لفهم “الرسالة” والتحرك لفعل ما يتوجب عليه فعله! ما جعل آخرين يتساءلون ما إذا كانت هذه هي الرسالة الأولى إلى “المجتمع الدولي”، أم أن الرسائل السابقة لم تكن واضحة، الأمر الذي استوجب من الرئيس التوضيح! وإلى جانب هؤلاء وأولئك، كان هناك من رأى أن عدم إجابة “المجتمع الدولي” على الرسائل الفلسطينية السابقة، يعود إلى أن ““إسرائيل” كانت تنجح دائماً في تضليل الرأي العام العالمي” .
ويبدو أنه ليس “إسرائيل” وحدها هي التي تضلل، بل هناك من الفلسطينيين من يقوم أيضاً بهذه المهمة في أوساط الفلسطينيين، وليس لدى “الرأي العام العالمي”! فالقرارات التي سبق واتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ القرار 181 في نوفمبر/ تشرين الثاني ،1947 وحتى قرارها رفع مكانة فلسطين إلى “عضو مراقب” في نوفمبر/ تشرين الثاني ،2012 كانت، إلى هذا الحد أو ذاك، دليل على أن “الرأي العام العالمي” كان يستمع إلى الرسائل الفلسطينية وأحياناً بشكل جيد، وأن “إسرائيل” لم تكن “تنجح دائماً” في تضليله! وهذا يعني أن جزءاً من المسؤولية تقع على عاتق القيادات الفلسطينية، فهي التي فشلت في “فرض” وليس، في “إقناع” العالم بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية .
فكيف يمكن للرأي العام العالمي أن يقتنع، اليوم، بأن هذا الشعب الفلسطيني يستحق ما يطالب به من حقوق، وهو يرى قياداته تتناحر على الوهم، وتتسابق على التفاهم مع المحتل، وتمارس على أبناء الشعب الذي تفرض نفسها عليه، أسوأ مما يمارسه عليهم المحتل؟! ألا يوجب ذلك على هذه القيادات أن تتفق، مثلاً، ليستمع له العالم ولتتيح للشعب أن يجد طريقه لمواجهة الاحتلال، حيث إن هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستذكر الاحتلال بأنه احتلال، وأن عليه أن يرحل وإلا فإن ثمن بقائه سيكون ثقيلاً عليه؟
لقد رفض الرئيس عباس، في كلمته، “الاتفاقات المؤقتة والترتيبات الانتقالية”، وحذر من “نفاد الوقت وعواقب الفشل”، وهو يعلم أن صناع القرار في “تل أبيب” اليوم لا يفكرون حتى في إعطائه “اتفاقاً مؤقتاً”، ولا يعنيهم التهديد ب “نفاد الوقت”، لأنهم يرون أن الوقت لمصلحتهم نفد أو لم ينفد، ما دامت أوضاع الفلسطينيين على ما هي عليه، وأوضاع العرب على ما هي عليه، وكلها تسير من سيئ إلى أسوأ لمصلحة “الإسرائيليين” ومخططاتهم . فلماذا يقدمون لهم “التنازلات المؤلمة”، ولماذا لا يتمسكون بأطماعهم كاملة غير منقوصة؟
لكن بالرغم من كل ما قاله الرئيس عباس، وبالرغم من التوصيف الذي كان في بعض المقاطع صائباً، عاد وأكد مجدداً أنه والشعب الفلسطيني يريدان السلام مع “الشعب “الإسرائيلي””، وأن المفاوضات هي السبيل إلى ذلك، مذكراً أن المفاوضات الجارية هي “الفرصة التاريخية” لتحقيق هذا السلام، وطبعاً في تسعة أشهر، في الوقت الذي انقضى على بدئها أكثر من شهرين لم يتم فيهما الاتفاق على جدول الأعمال، حسب تصريحات المصادر الفلسطينية المسؤولة في السلطة! وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي ما يعنيه الرئيس من “المجتمع الدولي”، لأنها راعية “عملية السلام والمفاوضات”، فإن ما يلفت النظر أن كل ما أعلنه وزير الخارجية جون كيري، بعد الاجتماع الذي حضره رئيسا الوفدين المتفاوضين، تسيبي ليفني وصائب عريقات، ومبعوث اللجنة الرباعية الدولية، توني بلير، لم يتجاوز قوله: “إن ““الإسرائيليين” والفلسطينيين اتفقوا على مواصلة المفاوضات وزيادة مشاركة الأمريكيين فيها . .”! فهل هناك معنى لهذا التصريح “الفقير” غير الإصرار على الاستمرار في ممارسة العبث الذي يمنح الوقت لنتنياهو وحكومته ومستوطنيه لمتابعة برامجهم؟
إن استمرار الرهان على “الحصان” الأمريكي، واستمرار التمسك بالمفاوضات سبيلاً إلى تحقيق الأهداف هو إصرار على الاستمرار في متابعة لعبة العبث التي رفضها الشعب الفلسطيني ابتداء .