دقّ جدراناً واستنهض همماً ركدت وقتاً طويلاً
غالبا ما تختلط الذكريات لدى الفلسطيني برائحة التراب والوطن والخبز والزعتر، وألق وعبق الشهداء الذين ضحّوا بأرواحهم في سبيل الوطن. الشهداء هم الأوفى على درب الآلام المعمّد بالتاريخ والدّم. تراهم يتسابقون على صنع تاج النصر المرصّع بالأغنيات والتضحيات، يكللونه بالحمائم البيضاء وأزهار الفلّ ونرجس جبالنا.
في الذكرى السادسة والأربعين لاغتياله في الثامن من تموز/يوليو عام 1972، ما زال غسان كنفاني يشع أدباً مقاوماً، أدباً ينبض حريةًّ ووعدأً بالتحرير في مسيرة شعبنا الطويلة نحو النصر.
امتلك شهيدنا نفاذ بصيرة أبت إلا أن تكلل الشمس بزهور نبتت في كرملنا، وتزنّرها بالأمل، رغم المأساة والمعاناة والصعاب.
امتلك شهيدنا مسار الطريق، رغم الظلام الذي ساد أجواء هذا المسار، ورغم الإظلام المقصود، الذي وُجّه إليه! كتاباته اتخذت شكل الطبيعة وحواريتها الإلهية، وامتدّت نورا يضيء رحلة الوعي السابحة في جبال الشوك والشوق، حيث المنافي والعذابات في صحارى الكون ومساحاته الواسعة، أنضجت أفقاً قاسياً، يحمل الاضطهاد للفلسطيني من الجموع المجاورة الكثيرة، وقد رأت فيه مشروعاً للتعدي على نرجسيتها الموغلة في نفوس الكثيرين من أبنائها.
ببراعة قلمه دقّ جدراناً وليس جدارا واحداً، ليوقظ حقائق القضية، وليستنهض همما ركدت وقتا طويلا! غسان كنفاني، الذي سكن الوطن في نسغ حروفه. واتسعت شرايينه لتضاريسه الفلسطينية الجميلة، سكن أيضا في ضمير الوطن، إن لم يكن جسداً، فإنما روح ومداد يواصله الآخرون في رحلة الثورة، حيث يكون العناق مع الأفق الصباحي على جبالنا وسهول أرضنا وشاطئها البحري الهادر بالتاريخ، كما مدننا التي رست قبل ميلاد الزمان، مرّ عليها أجدادنا اليبوسيون، ومن ثم الكنعانيون الفلسطينيون العرب. «ما تبقى لنا» من غسان أشياء كثيرة، تنتقل في الزمن، وتخترق جدار الصوت، ليسمع العالم انطلاق الثورة، ولينادي المنادي، بأننا مستمرون بها حتى النصر والتحرير.
غسان، هو أحد أهم أدباء المقاومة، سبق أن كتب عنها، ففي مقدمة كتابه «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال: 1948-1968» جاء ما يلي: «في الواقع، فإن أدب المقاومة – على وجه الخصوص – لم يكن أبدا ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية، وفي هذا النطاق، فإن المقاومة الفلسطينية قدّمت، على الصعيدين الثقافي والمسلح، نماذج مبكّرة ذات أهمية قصوى كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة. وحفل التاريخ الفلسطيني، منذ الثلاثينيات على الأقل، بمظاهر المقاومة الثقافية والمسلحة على السواء، وإذا كانت الثورات المسلحة التي خاضها شعب فلسطين، قد انتتجت أسماء من طراز عز الدين القسام مثلا، فإن أدب المقاومة أنتج، قبل ذلك ومعه وبعده، أسماء من الطراز نفسه، ما زال المواطن العربي يذكرها بكثير من الاعتزاز، ومن أبرزها إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وأبو سلمى (عبد الكريم الكرمي) وغيرهم. ويستطرد الشهيد: «ولكن ما يميز الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة منذ 1948 حتى 1968 هو ظروفه القاسية البالغة الشراسة، التي تحداها وعاشها، وكانت الأتون الذي خبز فيه إنتاجه الفني، يوما وراء يوم».
عدا عن كل إبداعات غسان كنفاني في الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، فإن له فلسفته الخاصة في تفسير الظواهر الإنسانية، وللعلم فإن الثورة على الاحتلال من أجل الحرية، هي أبرز تلك المظاهر. يقول الشهيد كنفاني في ما يتعلق بالكفاح المسلح، من أنه «لن يكون مجدياً إلا إذا كان كفاح مواطنين تحررت إرادتهم وعقولهم». كما دعا إلى «المزاوجة بين النظرية والممارسة» وإلى «عدم التعامل مع الحلول المطروحة بدلاً من هدف تحرير الوطن».
من الصعب حصر غسان كنفاني في حقلٍ أدبي أو سياسي معين، فهو القاص والروائي والرسام والسياسي، المناضل الذي جعل من قلمه أداة نضالية في تصوير معاناة شعبه، وتحريضه لاستعادة حقوقه من خلال القيام بالثورة ضد العدو. لم يرتضِ، غسان بالأفكار السائدة أو المألوفة التي صورّت الفلسطينيين في الخمسينيات وبداية الستينيات، كشعبٍ مسكين مغلوب على أمره، وفقط يحتاج إلى تقديم المساعدات إليه! غسان كنفاني رفض هذا الواقع وقام بعملية تحريض واسعة لأبناء شعبه من خلال مؤلفاته: ففي رواياته «عائد إلى حيفا»، و»أرض البرتقال الحزين»، و»سرير رقم 12»، و»رجال في الشمس» وقصة «ما تبقى لكم» يتطرق إلى رحلة اللجوء من حيفا إلى مدينة عكا الفلسطينية، وإلى الترحال من عكا إلى الشتات، وإلى الذات في تصوير معاناة الشعب من خلال الحنين إلى الوطن، واستعراض رحلة اللجوء الفلسطيني للكويت من قبل الفلسطينيين، بحثا عن العمل. ثم جاءت صرخته، بالدق على الذاكرة الفلسطينية للانتصار على الواقع، بالثورة ضد محتلي الأرض ومغتصبي إرادة شعبنا.
حظي شهيد شعبنا باهتمام الباحثين، وقد أجمع كثيرون منهم على مقارنة رواياته بروايات وليم فوكنر، وتحديدأً روايته بعنوان «الصخب والعنف»، ورواية مكسيم جوركي «الأم»، كما قارنوا بين روايته «عائد إلى حيفا» ومسرحية برتولد بريخت «دائرة الطباشير القوقازية» ومسرحية ت. س اليوت بعنوان «كاتم السر»، وغيرها. بالطبع، ومع الاحترام الكبير لكل الآراء تلك، فإن ما كتبه غسان كنفاني من روايات، لا تتشابه مع ما قورنت به من روايات لا شكلاً ولا مضمونا ولا وصفا.
هذا لا يعني عدم تأثر شهيدنا بروائيين أوروبيين، لكن روايات غسان تحمل وتبحث في موضوع فريدٍ خاص، لا يمكن أن يتناوله غير الروائي الذي طُرد وشعبه من أرضهما، وهو تحديدا الروائي الفلسطيني. المقاومة كموضوع مفهوم ذو معنى واسع، لكن هذا لا ينفي خصوصية تجربة الكاتب وفقا لظروف شعبه والبيئة المحيطة بتشكل وعيه، عواملها وإرهاصاتها. لقد شكلت مقاطعة «يوكناباتوفا» مسرح الأحداث الأساسي في معظم أعمال فوكنر، وهي منطقة متخيّلة، لكنها ترتبط بقوة بالأماكن التي عاش فيها الروائي، والأشخاص الذين عرفهم. ربما يكون تأثر كنفاني بمن قورن بهم من روائيين، فقط بالتكنيك الروائي والملامح الصياغية، إنْ في التداخل بين الماضي والحاضر والمستقبل أو في الشكل الصياغي للتقنية الروائية (أي حبكتها). لذا، فإن لكل روائي تكنيكه الخاص به، وإلا انعدمت تجربته الروائية الخاصة (الذاتية)، وهي الصفة الملازمة لأعمال أي روائي، قد يتشابه الروائي مع آخرين من الروائيين على مستوى العالم، لكن ذلك تشابه حرّ، موضوعي، علمي، وليس تشابها يأخذ معنى التقليد.
ولعلني أتفق مع ما كتبته الروائية رضوى عاشور حول أوجه الاقتراب وأوجه الاختلاف بين رواية كنفاني «ما تبقى لكم « ورواية «الصخب والعنف» لوليام فوكنر، فقد خلصت إلى ما يلي: «إن الرؤية لدى كل من غسان كنفاني ووليام فوكنر مختلفة اختلافا جوهرياً. أما التأثر فهو تأثر شكلي بحت. لقد قرأ غسان رواية فوكنر وسحر بها واستعار منها العديد من إنجازاتها الشكلية، ولكنه أخذ يطوّع هذه الانجازات من أجل التعبير عن موضوع له خصوصيته الفلسطينية».
كما علينا أن لا ننسى أن جانبا آخر في أدب كنفاني يتمثل في ردّه غير المباشر على الأدب الصهيوني المكتوب باللغة الإنكليزية أو المترجم إليها. وهذا الجانب لم يلتفت إليه الباحثون للأسف باستثناء قليلين معروفين. لقد درس الشهيد كنفاني، الأدب الصهيوني، وأصدر عنه كتابه المشهور «في الأدب الصهيوني» عام 1966 وفيه درس روايات مشهورة مثل رواية «لصوص في الليل» لآرثر كوستلر، (بالطبع كانت روايته قبل ارتداده عن الصهيونية عندما رأى عن قرب عنصرية الصهيونية قبل أن يتركها نهائيا، وتخلى في أمريكا عن يهوديته عام 1948) و»نجمة في الريح» لروبرت ناثان و»أكسودس» لليون أوريس.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني