أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية2| «الإرث التالي للانهيار الروماني»
(هذا المقال هو مراجعة في كتاب «دراسات في أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية).
تعريب وإعداد: عروة درويش
الفلاحون وملّاك الأرضي في إسبانيا العصور الوسطى:
تبحث لورا دي غراسا في الإقطاع في شمالي إسبانيا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. تستخدم بشكل نقدي تصوّرات كريس ويكهام عن مجتمع المراتب الفلاحي، أو نمط الإنتاج الفلاحي. لقد كانت أفكاره مثمرة بلا شك من حيث منح بُعدٍ منطقيّ لمجتمع مراتب معقد مثل الذي كان قائماً في إيرلندا في العصور الوسطى، حيث كانت الطبقة الأرستقراطية بطيئة جداً في التطور. وقامت دي غراسا على غراره بالبدء في تحليلاتها من مجتمع الفلاحين المتساوي أساساً، مع الملكية الخاصة، والملوك والنبلاء، لكن دون علاقات طبقية متطورة بشكل كامل.
تظهر دي غراسا بشكل مقنع كيف أنّ صلات الولي-المولى، مع علاقات تبادل الهدايا، قد كان لها منطقها الخاص المناقض لمنطق الأرستقراطية الذي يحاول خلق علاقات سيادية-إقطاعية. كان لسلوك الفلاحين القدرة على تعطيل وإعاقة جهود الإقطاع، لا سيما من خلال العرف الإسباني الذي يمكن بموجبه للأحرار أن يختاروا بملء إرادتهم سيداً عليهم كلّ عام. ومع ذلك، فقد خضعوا في نهاية المطاف عرضة للغزو الأرستقراطي، بحيث شهدوا في نقطة معينة «نقلة كارثيّة من منطق اقتصادي فلاحي إلى آخر إقطاعي».
لكنّ دي غراسا استخدمت كذلك منهجاً تصورياً أوسع من منهج ويكهام، فجادلت بأنّه من غير المقبول تنميط المجتمعات بشكل صارم وفقاً «لأنماط الإنتاج الاستغلاليّة، التي يتم اختزالها إلى صيغ استخلاص الفائض». جادلت بدلاً من ذلك في تحليلها للمجتمع الإقطاعي الإسباني:
«لا قوى الإنتاج، ولا علاقات الإنتاج، بمقدورها توحيد نمط الإنتاج. فنمط الإنتاج يدلّ على المِلكيّة في مستواها القاعدي... كان يتمّ تقييم هذه العوامل (قوانين نمط الإنتاج) على المستوى التحليلي للتكوين الاجتماعي، لأنّها تسمح بالتفريق بين صيغ التعبير في المجتمعات الأرستقراطية وفي تلك الحرّة. وتسمح في حالتنا بتسليط الضوء على عملية تتبيع المجتمع الحر لنمط الإنتاج الإقطاعي».
ومن الممكن الذهاب أبعد هنا، والإشارة إلى أنّ الهدية وعلاقات الولي-المولى التي ناقشتها دي غراسا، يمكن التفكير بها في واقع الأمر كجزء من علاقات الإنتاج بمعنى أوسع من المعتاد. فهذه العادات هي من حيث التطبيق علاقات توزيع، وهي تشكّل بوصفها جزء من المجتمع ككل: الشروط الاجتماعية لعلاقات الإنتاج.
السياق التاريخي للإقطاع:
إنّ تقييم النظام الإقطاعي الأوربي عبر فئات لا تاريخية لا يعطينا حساباً دقيقاً للحالة التاريخية للقرون التي أعقبت انهيار الإمبراطورية الرومانية. لقد كان نمط الإنتاج في الحقبة الرومانية مشروطاً بمستوى كليّة جمع الضرائب من قبل الدولة، والتي لم تكن ألويتها العسكرية تضمن جمع هذه العائدات وحسب، بل تضمن أيضاً الإبقاء على الممتلكات النائية البعيدة مملوكة للأرستقراطية مالكة العبيد في مجلس الشيوخ. لقد عنى انهيار الدولة وجيوشها ونظام تبادل السلع الذي تدعمه، أن تنتقل العلاقات الاجتماعية إلى المستوى المحلي بشكل جذري. لم يعد بالإمكان الحفاظ على نظام الطبقات الروماني الذي اعتمد على نظامٍ واسع النطاق لفرضه. انهارت جميع عناصر المجتمع الطبقي بانهيار الدولة، واضطرت الأرستقراطية الناجية إلى إعادة التموضع كنخب إقطاعية أكثر إقليميّة، مع قاعدة علاقات استغلالية أضيق وأفقر بكثير. هذا هو السياق النظري الذي لاحظت دي غراسا من خلاله أنّ الأرستقراطية «تستوعب نفسها في نمط فلاحي»، فإن صحّ القول: تصبح النخب القديمة بالكاد قادة عشائريين. وفي بعض الأماكن، مثل بريطانيا الرومانيّة، ينهار المجتمع الطبقي بأكمله.
ورغم ذلك، فإنّ ما حدث عقب انهيار النظام الروماني لم يكن عودة بسيطة إلى ما قبل المجتمع الروماني، وينطبق ذلك على الأغلب حتّى على بريطانيا. فمدى تفكك أنظمة الملكية العشائرية والمشاعية قد ترك إرثاً رئيسياً متفاوتاً بين مكان وآخر. فحيث توجد أدلّة يمكن الخلود إليها، يبدو بأنّ ملكية الفلاحين الخاصة للأرض قد أصبحت هي العرف، وهو ما أخذه ويكهام كنقطة بدء في دراسته للنمط الفلاحي. أمّا في إسبانيا دي غراسا، تمثل إرث ما بعد الرومان بدولة القوط الغربيين التي خلفتهم، وكذلك بحضارة العرب في وقت لاحق. لقد خلقت الأنظمة الطبقية ظروفاً نجا فيها الأرستقراطيون في الأجزاء الشمالية من إسبانيا.
وعليه، فإنّ رسم صورة للمناطق الإقطاعية ما بعد الحقبة الرومانية، بأنّها تشبه «النقاط على جسد الفهد leopard spots»، (بحيث أنّها بقع معزولة في مناطق يسود فيها نمط الإنتاج الفلاحي)، قد يكون نافعاً من الناحية الوصفية، لكنّه يفشل في تخيّل ديناميكيّة نمط الإنتاج الإقطاعي في مراحله المبكرة، حيث كان لعلاقات الإنتاج الاستغلالية نفوذ محدود خارج الممتلكات الإقطاعية التي نجت من الانهيار الروماني. فبدلاً من التركيز على وجود نمطي إنتاج «فلاحي» و«إقطاعي» متعايشين جنباً إلى جنب، سيكون من المنطقي أكثر التركيز على كيفيّة استخدام الأرستقراطيّة لبقايا المؤسسات السياسية الرومانية (وتحديداً الكنيسة الكاثوليكية)، من أجل إعادة بناء الصيغ شبه الحكومية التي تضمن هيمنتهم على كامل المجتمع. وعليه فإنّ التضاد بين نمطي الإنتاج الفلاحي والأرستقراطي يرسم صورة عن طبيعة الصراع الطبقي في فترات العصور الوسطى المبكرة، أفضل ممّا يرسمه تصويرهما كنمطي إنتاج منفصلين متنافسين. ومن جديد، يجب أخذ الوضع الكلي بالاعتبار إن كنّا نبتغي أن تصبح ديناميكيات الأجزاء منطقية.
ويساهم كريس ويكهام، عبر تحليله للملحمة التي تُظهر صعود قوّة الأرستقراطية الإقطاعية في النرويج في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، في توثيق صراع طبقي موازٍ لذلك الذي وجد في شمالي إسبانيا. إنّ العلاقة بين الولي-المولى مختلفة بشكل كلي من حيث التفاصيل الثقافية، لكنّها تحمل مع ذلك تشابهات بنيوية قويّة. ويظهر ويكهام في مقاله بهذا الشأن مدى القوّة في الاستخدام الإبداعي للرواية المشكوك فيها من أجل الاستدلال. فالملاحم لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال الاعتداد بها كأدلّة موثوقة على الأحداث التي تصفها، لكن يمكن للافتراضات الاجتماعية لمؤلفي هذه الملاحم، كما يظهر لنا ويكهام، أن تحفظ لنا أدلّة مذهلة على تطور العلاقات الاجتماعية.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني