الاستغلال الخفي3| الجزء الأكبر من جبل الجليد
وصفت كتابات ماركس نفسها أنواعاً أخرى من العمالة في ظلّ الرأسمالية، ولطالما دفع المنظرون الماركسيون لتوسيع فهمنا للاستغلال إلى أبعد من علاقات الإنتاج المأجورة الكلاسيكية.
تعريب: عروة درويش
بينما تبقى كلمة «التراكم الأصلي» تعبيراً أكاديمياً، يتم تمييز الظاهرة في حدّ ذاتها بشكل واسع كإحدى صيغ التربّح الاستغلالي الرأسمالي، وذلك رغم عدم خضوعها لتصنيف العمالة المأجورة. فكمثال، لم يتوقف الاستيلاء على الموارد الطبيعية، كما هي الحال في المساحات الواسعة التي تستغلها شركات إنشاء الأنابيب في الولايات المتحدة، أو انتهاك أراضي السكان الأصليين عبر فتح المناجم وغيرها من الاستخدامات، وذلك كجزء من العملية الأكثر اتساعاً لخصخصة المشاعات.
لكنّ التراكم الأصلي اتخذ صيغاً جديدة أيضاً، مثل الاستيلاء على الأصول المدنيّة في الولايات المتحدة، والذي قدّر بأكثر من 5 مليارات دولار عام 2014 وفقاً لصحيفة الواشنطن بوست، والذي وضع ليتمّ إنعاشه تحت إشراف وزارة العدل في إدارة ترامب. ويمكن كذلك تصنيف عمليات المساعدة المالية ومنافع الضرائب وعمليات الإنقاذ للشركات والمؤسسات المالية الكبرى، وهي التي تقدّم أرباحاً كبيرة ومستمرّة بشكل جلي، بوصفها تراكم بدئي (أصلي)، فهي عمليّة إعادة توزيع للأموال العامّة على الطبقة الرأسمالية، دون أدنى إشارة إلى إعادتها لفئة الجمهور الأوسع. لقد وضّح عصر «أكبر من أن ندعها تسقط» بشكل جلّي بأنّ عمليات نقل القيمة هذه ليست مجرّد مكاسب عرضية، بل هي متأصلة في بنية تراكم رأس المال المعاصر ذاته.
إنّ مجموعة الآليات الماليّة والنقدية المذهلة المتوسعة على الدوام من أجل سحب النقود من الأسر هي أيضاً صيغ للاستغلال. تشير قروض الإسكان الضارية والديون المتضخمة لصالح شركات بطاقات التأمين وشركات إقراض الطلاب، إلى الانتشار المتزايد لنفط انتزاع الفائض هذا. فبالنسبة للعديد من العمّال، ليست عمليّة «تحويل الاقتصاد إلى مالي financialization» مجرّد تعبير مجرّد، بل واقع يومي ووسيلة جاهزة للاستيلاء على القيمة عبر الإعطاء بيد، واسترجاع ما أعطي باليد الأخرى مع إضافات عليه، عبر الديون المتراكمة والفوائد والرسوم.
إنّ مثل هذه الصيغ الاستغلاليّة للتراكم البدئي والأعمال المجزئة، شائعة سواء في الجنوب أو الشمال العالمي، وذلك من خلال اعتماد فرض رأس المال المالي كأحد أشكال استنزاف العمّال عبر الكوكب. فالدين العالمي، متضمناً الفوائد وقواعد الموازنة والقيود النقدية، هو أحد الوسائل الواضحة لاستخدام عمليات التمويل في انتزاع القيمة من عمّال الجنوب العالمي. وهناك أيضاً الشيء الذي لا يناقش كثيراً هذه الأيام رغم أهميته، وهو «نظام الصرف النقدي العالمي غير المتكافئ»، والذي يعتبر الاقتصادي أرغيري إيمانويل أوّل من أطلق عليه هذه التسمية في ستينيات القرن العشرين. ويمكن تلخيص الصرف غير المتكافئ كظاهرة تميل فيها ظروف التجارة الدولية وعلاقات الصرف النقدي الأجنبي، إلى منح قيمة (أو الاستخفاف بقيمة) العمالة بطريقة تضمن نقل الأرباح إلى الرأسماليين في الشمال العالمي. فأيّ سائح ذهب للجنوب العالمي لابدّ وقد لاحظ عدم التوازن بالقيمة بين الدولار الأمريكي واليورو من جهة، وعملات المستعمرات السابقة أو المستعمرات على النمط الجديد، وهو ما يمثل أحد تجليات الصرف غير المتكافئ.
ولا ننسى العمالة المنزلية. فالأجر الضروري اجتماعياً وفقاً لماركس، هو الكميّة المطلوبة كي ينجو العامل ويعيد تجديد نفسه في ظلّ الظروف الاجتماعية السائدة. تخفض العمالة غير المأجورة للنساء وغيرهن من عمّال الإعاشة، الأجور الضروريّة، عبر إنتاج قيم استعمال أساسيّة لا تكلّف رأس المال. فعندما تطبخ المرأة الطعام بالمجان أو تربي الأطفال في المنزل بدلاً من إرسالهم إلى مركز رعاية نهارية أو تعتني بأفراد الأسرة، أي جميع أعمال «عمالة الحب»، فهي تقدّم بذلك مساعدات اقتصادية مباشرة للأجور الضرورية اجتماعياً. فلو كان العامل مضطراً للدفع مقابل هذه الخدمات، كان يتوجب بذلك رفع أجوره بشكل أكبر بكثير.
وبشكل مشابه لذلك، فإذا ما أخذنا في الاعتبار ما تقوم به النساء، أو أحدٌ آخر من أفراد الأسرة، من زراعة الغذاء في الحدائق المنزلية أو في الحقول، أو إصلاح المنزل وصناعة الملابس اللازمة، كما يحصل بشكل روتيني في الجنوب العالمي، مجموعاً مع التغييرات في ظروف العمالة ومعايير الحياة، فهذه هي العمالة التي تمكّن من تخفيض الأجور، وبالتالي رفع الأرباح. وكما صاغت ماريا مايز هذا: «تمثّل هذه العمالة غير المرئيّة الجزء السفلي الأكبر من جبل الجليد العائم، والذي يمثل العمل المأجور الرسمي رأسه الظاهر فقط».
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني