ألمانيا: وجوه مختلفة... وسياسة واحدة
بعد ستّة أشهر من المساومات والشكوك، خرج عفريت ائتلاف الأحزاب الألمانية الثلاثة من قمقمه. انتهى التشويق الآن، وعادت الدجاجات إلى قنّها. ولن يتمّ حكم قنّ الدجاج هذا من قبل الديوك، بل من قبل دجاجة، وهي دجاجة قاسية تحكم للمرّة الرابعة على التوالي.
تعريب: عروة درويش
- الحاجة للديمقراطيين الاشتراكيين:
لكنّ ما طار في الهواء من ريش لم يكن بالقليل. فحتّى كانون الثاني 2017، كان سيغمار غابرييل هو من يرأس الحزب الديمقراطي الاشتراكي «SPD»، وبسبب شعبيّة الحزب المنخفضة بشكل كارثي تمّت إزاحته، ومُنح وظيفة وزير خارجيّة كوظيفة برستيج وتعزية. خلفه مارتن شولز في زعامة الحزب، ليصل هناك بتصويت مذهل بنسبة 100% بالإجماع، ولترتفع شعبيّة الحزب في الاستطلاعات كذلك بشكل لا يقلّ إذهالاً، ليتبعه سقوط سريع بعد ذلك بكلّ الأحوال. وبدأ الناخبون بعد وقت قصير، حتّى داخل حزبه، يرتابون بوعوده الفارغة والغامضة.
كانت نتائج الحزب في أيلول الماضي هي الأسوأ على مدى خمسين عاماً. وقد أقسم شولز، قائد الحزب ذو السمعة الملطخة، بصوت عالٍ بأنّ حزبه اليائس لن يبقى خارجاً يخسر شركائه الشباب لحزب أنجيلا ميركل الديمقراطيين المسيحيين بعد الآن، وبأنّه سيستعيد قوته في المعارضة. ثم عاد الخاسر عن كلامه وحاول، مثلما الحال في لعبة سخيفة، أن ينضمّ لحكومة تحالف جديد يقوم فيه بشغل منصب وزير خارجية بدلاً من سيغمار غابرييل. حدث هذا الانقلاب الشخصي في السابع من شباط، لكنّ خفّة اليد هذه لم تنجح، فلم يرده أحد. ثمّ استقال شولز في التاسع من شباط من ذلك المنصب، وفي الثالث عشر من شباط استقال من رئاسة الحزب. تمّ عقد الاتفاق الأخير دون وجوده، في حين تاه مع غابرييل في النسيان الألماني البارد.
وتمّ استبدال شولز «Schulz» بشولز «Scholz» آخر: إنّه أولاف شولز الذي كان حتّى تلك اللحظة عمدة هامبورغ عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي. ثم قام هو بدوره بترك زعامة الحزب بعد فترة قصيرة لصالح أندريا نالس التي كانت ذات مرّة من جناح الحزب اليساري (منذ زمن طويل جدّاً جدّاً). احتلّ شولز منصب وزير التمويل، وهو المنصب ذو السطوة في السياسات الاقتصادية، وليس ذلك في ألمانيا فحسب، بل في كامل أوروبا. إنّ ما يذكّي شولز ويدفعهم للتمسك به هو إصراره في هامبورغ على فرض قيود هائلة على «مهربي» العقاقير المفترضين، وذلك رغم اعتراضات الأطباء وانتقادات الاتحادات الأوربي. وكذلك يذكيه ما سببه من لخبطة كليّة خلال اجتماع «العشرين الكبار» الصيف الماضي، ودفاعه عن أعمال رجال الشرطة الـ 92 المتهمين باستخدام وحشيّة جسديّة ضدّ التظاهرات. وكذلك قام في الحكومة المبكرة بالمساعدة على رفع سنّ التقاعد من 65 إلى 67. وفوق كلّ ذلك أعلن عن احتقاره لحزب «لينكه». يبدو ما يتوقعونه منه جليّاً بشكل لا يحتمل الخطأ.
ورغم الانحدار المستمرّ لحزب الديمقراطيين الاشتراكيين في استطلاعات الرأي، وهو عند 18% في الوقت الراهن، فقد احتاجت ميركل له للحصول على مايكفي من مقاعد البوندستاغ بحيث تبقى في السلطة. وعليه فقد وجدت بأنّه من الضروري أن تعامله بسخاء ليصوّت لصالحها في استفتاء الأصوات. وقد فعلوا ذلك لتحصل ميركل على أغلبية 3/2، وتمّت مكافئتهم بستّة مناصب حكوميّة، وحصل حزبها المسيحي الديمقراطي على سبعة، وذهب ثلاثة لصالح حزبها الشقيق البافاري. يملك الحزب الديمقراطي الاشتراكي الآن اثنان من المناصب الأربعة الأكثر أهميّة، حيث يشغل أولاف شولز منصب وزير التمويل، وهايكو ماس في منصب وزير الخارجية الشكلية، ووزيرة العدل.
وأخيراً زعيم البافاريين هورست زيهوفر، الذي خرج عن السيطرة في إقطاعيته في ميونخ، والذي تمّت مواساته بمنصب وزير الداخلية الهامّ جدّاً في برلين. حيث هو المسؤول عن الشرطة والمراقبة والهجرة، وكذلك عن قسم فرعي جديد هو «أرض الوطن heimat»، وهو بمثابة الرشوة لهؤلاء الذين يريدون إبقاء ألمانيا ألمانيّة بشدّة، مع أقلّ عدد مهاجرين أو لاجئين ذوي سحنة أجنبيّة بقدر الإمكان. ويتساءل البعض فيما إن كنّا سنرى بعد أربعة أعوام مع زيهوفر، الجميع يرتدي قبعات «lederhosen» وفساتين «dirndl» البافاريين التقليديين، مع وجود صلبان على جميع الجدران الرسميّة.
- فليبحث الممانعون عن مكان آخر:
من ناحية الأشخاص، حدثت تغييرات كثيرة بحق، ولم يبقى من الحكومة القديمة سوى أربعة وزراء شغلوا احتلوا مناصب وزارات أخرى، كما في لعبة تغيير الكراسي الموسيقيّة. وهناك عشرة قادمين جدد من الأحزاب الثلاثة. وهناك الآن سبع نساء من بين ستّة عشر عضواً. والأكثر إثارة بالنسبة لأهل برلين من بينهن هي فرانزيسكا غيفاي، وهي اشتراكية ديمقراطيّة أيضاً، وكانت تشغل منصب عمدة بلديّة نيوكولن في برلين الغربيّة، وهي المنطقة المختلطة بشكل كبير من الأتراك والعرب وغيرهم من المجموعات المهاجرة. يركز الإعلام على مدى مرحها وجمالها، بينما تبقى سياساتها كوزيرة للعائلات وكبار السن والنساء والشباب غير معروفة حتّى الآن.
هناك ما يكفي من الإشارات على الجهة التي ستسير فيها الرياح. فوزيرة البيئة السابقة باربارا هندريك، وهي التي تصدّت بشجاعة لشركة فولكس فاغن وللوبي السيارات فائق القوّة بسبب جريمة خدعة انبعاثات المحركات، تمّ رميها خارجاً. وسيغمار غابرييل الذي تخبط وتراجع في الكثير من القضايا عندما كان وزيراً للخارجية، كان تقريباً الوحيد الذي دعا في مؤتمر الأمن الذي انعقد مؤخراً في ميونخ إلى تخفيف العقوبات ضدّ روسيا والتعامل معها بدبلوماسيّة وليس بتنمّر في مسائل مثل أوكرانيا وسوريا والنشر المدمر والمناورات المحفوفة بالمخاطر لقوات الناتو، ومن بينها تلك على الحدود ذات الحساسية العالية مع روسيا قرب بحر البلطيق. ولكن وكما ذكرنا، فقد تمّ رمي غابرييل خارجاً.
إنّ الوحيد من بين هذه المجموعة والذي بقي في وزارته التي شغلها سابقاً هي أورسولا دير لاين، وهي الأكثر خطورة من بينهم جميعاً. فمثلها مثل بقيّة النخب السياسيّة في الولايات المتحدة وبريطانيا، ذكوراً وإناثاً، لا تهتمّ أورسولا بالدبلوماسيّة، بل هي مهتمّة أكثر وأكثر بالأسلحة الأكثر تطوراً، وبتنصيبها في أكثر الأماكن الممكنة استفزازيّة، وأقرب ما يكون إلى موسكو. لا ينبأ إبقاء هذه الوزيرة من الصقور على منصبها كوزيرة للدفاع، بالخير من الحكومة الجديدة، ولا يحقق آمال العالم في تبريد سخونة الخطر المتنامي.
- ثعالب وتائهون:
وفي حين أنّنا شبهنا أحزاب التحالف بالدجاج العائد إلى قنّه، يمكننا أن نعلم بأنّه أينما يوجد الدجاج يوجد ثعلب ماكر يترقب بجوع بينما تزداد قوته: إنّه حزب البديل لألمانيا «AfD» الذي يملك 92 مقعداً في البرلمان الفدرالي البوندستاغ. يستفيد هذا الحزب من كلّ إشارة على عدم رضا الشعب الألماني، وهناك الكثير من هذه الإشارات في الأرجاء، وهي التي شهدنا نتائجها مع ازدياد الهوّة الساحقة بين الأثرياء والفقراء الذين يكافحون لتصيّد رزقهم في الولايات المتحدة وفي غيرها من الأماكن. يفضّل حزب البديل لألمانيا بدوره دولة قويّة عسكرياً، وهو متحالف مع الأثرياء كذلك. لكنّ هذا يتمّ وراء الستار، بينما يقوم خطبائه البارعون باللعب على الوتر الاجتماعي مراراً وتكراراً، ولكن ليس دون بعض الموسيقى في الخلفية تصدح بكراهية «المسلمين» وجميع المهاجرين واللاجئين، وهو الشعور الذي نجد صداه غالباً في تكتيكات بقيّة الأحزاب كذلك، وذلك بأمل الحشد بشكل متزايد ناحية اليمين. لكنّ أحد قادة حزب البديل لألمانيا قالها صراحة مؤخراً: فقام بشكل وحشي بمهاجمة أشخاص من أصول تركيّة بشكل عنصريّ جدّاً دفعه للاستقالة، لكنّ أراءه لا تزال تلقى الاستحسان بين مؤيديه.
ويبدو من الحزين أنّ حزب البديل لألمانيا هو من يملئ الفراغ وقلّة الثقة في الأحزاب القديمة، ليعيد للذاكرة التطورات التي حدثت في ألمانيا منذ تسعين عاماً. أنا أخشى حقيقة أنّ حزب «لينكه»، رغم تمسكه بنسبة 10% الراكدة من المؤمنين به مع تحقيق مكاسب هشّة جداً، ليس هو من يملئ ذلك الفراغ كما ينبغي أن يحصل. لكنّ العديد من الألمان، وخاصة في ألمانيا الشرقيّة، يرونه كجزء من النظام القائم. لقد كان الحزب خجولاً جدّاً ومتفائلاً جدّاً من مواقف التحالف المستقبليّة المحتملة، مثل تلك التي تمّ تحقيقها في ولايتين ألمانيتين شرقيتين وفي برلين كذلك. أنا أجد أنّ حزب لينكه يفتقد للسياسة الجريئة المكافحة التي يمكن أن تفعل فعلها في الشوارع. لقد بدا الحزب لسوء الحظ بأنّه معطّل بفعل الخلافات على مستوى القيادة فيه، وخاصة بين تيار الرئيسة المشاركة كاتيا كيبنغ وتيار رئيسة المؤتمر سارة فاغنكنخت. فهناك خلافات حول كمّيّة المهاجرين التي يجب السماح بدخولها إلى ألمانيا، وحول قبول أو رفض دعم أحكام نتنياهو في «إسرائيل»، وحول الموقف والسياسة تجاه روسيا، وحول اتخاذ مسار شبيه بالذي اتخذه جان ميلانشون في فرنسا، وهو الذي تؤيده فاغنكنخت ويرفضه القادة الآخرون. يجب على الحزب أن يحلّ خلافاته بشكل جدّي في مؤتمره القادم في حزيران والذي سيعقد في لايبزه.
لقد كان هناك عدّة إضرابات جماهيريّة في الأشهر الماضية، وبعضها لا يزال قائماً. هل بإمكانهم المساعدة على تطوير ترياقٍ لبعض السموم في سياسات الحكومة الجديدة؟ هل بإمكانهم فرض سياج يمنع الثعالب الماكرة من الهرج والمرج؟ هل بإمكانهم عكس الاتجاه؟ أوروبا والعالم بحاجة ماسّة لبعض التغييرات.