هنغاريا: القوميون سيسبقون الليبراليين دوماً بخطوة 2
- ما الذي يدركه القوميون أكثر من الليبراليين؟
إنّ تاريخ رئيس الوزراء أوربان متداخل بشكل عجيب مع تاريخ بلاده. فقد بدأ مهنته كسياسيّ عام 1988 في حزب فيدسز (والذي كان يدعى في حينه تحالف الديمقراطيين الشباب)، وقد كان حزباً سياسياً حديثاً يهلل للتحوّل إلى الرأسمالية والديمقراطية الغربية.
تعريب: عروة درويش
لكن ومع ازدياد عدد الهنغاريين الذين بدؤوا يرون عيوب التحوّل الليبرالي، غيّر حزب فيدسز، يقوده أوربان ذو القبضة الحديدية، أيديولوجيته الأصليّة. تحوّل أولاً ناحية المحافظة، ثم عندما فشلت رؤيته عن هنغاريا «البرجوازية» في تأمين النصر عام 2002، انتقل إلى «اليمين». لقد قرأ قائده بشكل ماهر مشاعر المواطنين، وفهم بشكل خاصّ حاجات أولئك الذين يُشار إليهم عادة باسم: «خاسرو التحوّل».
وبعد تشكيله لحكومة عام 2010، حارب أوربان ما سمّاه: «أزمة التمويل الغربيّة»، فأعطى الضوء الأخضر لسياسات اقتصادية «غير تقليدية» وشارك مع الجميع رؤيته لمجتمع غير ليبرالي، حيث وعد بأنّه «سيجعل الأمّة ناجحة». فرضت حكومته منذ عام 2010 ضرائب «أزمة» على القطاعات التي تهيمن عليها الشركات الأوربية الغربية، وفرض واحدة من أعلى الضرائب في أوروبا على معظم المصارف المملوكة للأجانب. وعندما تمّ اتهامه بالفساد، أجاب بأنّ هنغاريا تحتاج لتشكيل «نخبة رأسمالية قوميّة»، وهو ما يحتاج لإبقاء رأس المال الهنغاري في هنغاريا، ممّا يسمح بالاستثمار الداخلي ويشجّع التنمية الداخلية للاقتصاد.
حاولت حكومته أن تؤمم شركات الخدمات ومعظم القطّاع المصرفي تحت شعار «الاقتصاد القومي»، لكنّ هذه الإجراءات كانت متعجلة وسيئة التخطيط. لكن يمكن رؤية هذه المحاولات في ضوء مساعي الحكومة لمعالجة الجراح التي خلفتها عمليات اللبرلة بالصدمة في التسعينيات.
لقد فاز أوربان بدعم المواطنين المغربين والناقمين، بينما على المقلب الآخر لا تملك معارضته أن تعرض أكثر من المزيد من الليبرالية. تقدم الأحزاب المعارضة (باستثناء حزب جوبيك بكل تأكيد) وعودها بجعل هنغاريا «أكثر أوربيّة»، لكنّ الجهود التي بذلت للتقدم ناحية الاتحاد الأوربي في العقد الماضي بالنسبة لناخبي حزب فيدسز كانت كارثيّة. فقد زعزت دولة الرفاه وعرضت وظائفهم للخطر وجعلت كسبهم لقوتهم أكثر قلقلة. ولهذا فإنّ التصويت لحزب فيدسز بالنسبة لهؤلاء الهنغاريين هو الأمر المنطقي المتاح.
- القوميون نتيجة وليسوا سبباً:
ينتمي هؤلاء القوميون الذين يحكمون هنغاريا في نهاية المطاف إلى النخبة بعد كلّ شيء، وقد كانوا جزءاً من التحوّل الليبرالي الذي دمّر البلاد. لكنّهم يستخدمون تكتيكات علاقات عامة مميزة، بأن يظهروا بأنّهم ضحايا للنظام الليبرالي، وبأنّهم يكافحون قوى العولمة الشريرة.
إنّ «اقتصادهم القومي» ما هو إلّا رأسمالية محسوبيات، تتضمن إعادة توزيع الثروة بين المتعاونين. ليس هناك ما يشير إلى أنّ هؤلاء الرأسماليين سوف يبقون الأرباح داخل البلاد عوضاً عن إرسالها للاستثمار في الخارج. حتّى أنّ هذا التناقض بين المصالح الوطنية والفساد بدأ يأخذ منحى مؤسساتي، فكما وصف أحد المتعاطفين المتحمسين لفيدسز الأمر في مقابلة: «ما أقوله أنّ الحكومة وضعت أهدافاً مثل تشكيل طبقة من رجال الأعمال المحليين، ليكونوا أعمدة لهنغاريا قويّة في كلا الزراعة والصناعة... هذا ما يسميه الناس بالفساد، وهي مجرّد وجهة نظر سياسية. لقد تحولت كلمة [الفساد] إلى مجرّد مفهوم أسطوري».
يعود نجاح أوربان وحزبه لإدراكه للشعور الشعبي ولقدرته على استقطاب المحرومين والمهمشين ولخاسري العولمة المغربين. إنّه ليبرالي ذكيّ استطاع أن يرى كيف أفشلت الليبراليّة هنغاريا.
إذاً أين تقف معارضته؟ إنّها غالباً في بودابست حيث تعاني من مشكلة الوعي الزائف. تهدف جماعة المثقفين المدنيين إلى إرسال رسائل رفيعة المستوى إلى الناخبين ذوي التعليم العالي، لتقسّم صوتها بين خمسين ظلاً لليبرالية: الخضر الليبراليون واشتراكيو الطريق الثالث الذين لا يملكون برنامجاً اشتراكياً وحفنة من الليبراليين الآخرين مثل جورج سوروز. وحركات الشباب هي كذلك ليبرالية في معظمها.
تحاكي بودابست الحياة في عواصم أوروبا الغربية، مع بارات المحبّة والمقاهي المبالغ فيها، ونسيان المعارضة فيها بأنّ الأغلبية الصامتة من حولهم يرون بأنّ أوربان وحزبه هما القادرين على الاستماع لمشاكلهم وحلّها.
ومثل فصائل يسار إيطاليا وراء برلسكوني، فإنّ المعارضة الهنغارية مهووسة بأوربان دون أن تكون مهتمة بشكل حقيقي بمعرفة سبب شعبيته. إنّهم يحبون كرههم لخطابه اللامع ولكذبه الجلي ولوسائل الإعلام الجماهيرية التي تمسك بها الحكومة. ويرى الكثيرون بأنّ ما يحدث هو تحولٌ خطير نحو الخطاب الاستبدادي، لكن لا أحد منهم تساءل عن سبب نجاح مثل هذا الخطاب.
يمكننا أن نتفهّم السبب الذي جعل شباب التسعينيات من الهنغاريين يسيرون خلف الخطاب النخبوي الليبرالي، لكن لا يبدو من المنطقي، وهو أمر مقلق أيضاً، أن يكون شباب اليوم ليبراليون: فهم يعيشون في عالم من الاستقرار النسبي، موهومين بأنّ أجورهم المتواضعة ستزداد لتشكّل لهم ثروة، ويستمتعون «بنمط الحياة الأوربي». إنّ معظمهم بأيّ حال مجرّد «آكلي برغر» من عصر المعلومات، تكمن ميزتهم التنافسية تحديداً في عمالتهم زهيدة الثمن، وتعريفهم لنفسهم كونهم أعضاء في الطبقة الوسطى الأوربيّة مجرّد وهم كبير. إنّ تحويل هنغاريا إلى مستعمرة نيوليبرالية يتخطى المتاجر وصناعة السيارات بكثير، فهو يمتدّ لاستعمار عقول الكثيرين فيها أيضاً.
هناك فرصة هائلة أمام الشباب الهنغاريين اليساريين المناهضين للرأسماليّة بشكل حقيقي. فرغم تناقض الأمر، فقد عبّد لهم أوربان الطريق. ويجب على معارضي القوميين أن يستمعوا ويحاولوا معالجة مشاكل الفقراء من العمال والفقراء في الأرياف، وذلك بدلاً عن الالتصاق بخيال أنّ الليبراليّة يمكنها أن تخرجهم من الفقر الاقتصادي الذي خلقته بنفسها.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني