هنغاريا: القوميون سيسبقون الليبراليين دوماً بخطوة 1
أثناء التحوّل إلى الرأسمالية، عانت هنغاريا من ليبراليّة غير مقيدة، وتشاركت ذات المصير مع الكثير من جاراتها من الدول. وكانت العناصر الأساسيّة في إعادة الهيكلة الاقتصادية هي ما اصطلح تسميته: «العلاج بالصدمة»، لكنّ المريض لم يتعافى حتّى الآن.
تعريب: عروة درويش
ففي سبيل تعزيز المنافسة وتقليص دين البلاد الساحق، عجلت البلاد بخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وهو ما بدا أيضاً كطريق «لتبني» الرأسمالية وجذب الاستثمار الأجنبي. لم يتمّ عندها لبرلة هنغاريا وحسب، بل أصبحت ليبرالية أكثر من معظم الدول «الرأسمالية القديمة».
لقد كان فتح السوق ناجحاً جداً بحيق بات الأجانب اليوم يهيمنون على حصّة كبيرة من اقتصاد هنغاريا الحالي: فأكبر المصارف هي نمساوية وألمانية وإيطالية، وينسحب ذات الأمر على المتاجر الكبرى وشركات الاتصالات والمعلومات. ولا تقتصر الهيمنة الأجنبية على هذه القطاعات، بل تنطبق على الإنتاج: فأكبر الشركات هي أودي وجنرال إليكتريك ومرسيدس بنز وبوش، وهو ما يجعل هنغاريا نوعاً من مستعمرة نيوليبرالية.
وفي خضمّ التسابق على المستثمرين، قلصت الحكومات المتعاقبة معدلات الضرائب على الشركات إلى 9%، بينما هي 35% في الولايات المتحدة، لتملك البلاد اقتصاد سوق ليبرالي بامتياز. إنّ السياسيين الهنغاريين، مثلهم في ذلك مثل السياسيين في كلّ مكان، يهللون لمالكي الأعمال الصغيرة، لكنّ الدافع الحقيقي للنمو الاقتصادي هو الشركات العملاقة المملوكة أجنبياً. لا يمكن للعمّال الهنغاريون الوصول إلى وسائل الإنتاج، لكن ولنكون منصفين، فالرأسماليون الهنغاريون لا يمكنهم ذلك أيضاً.
الضرائب على الاستهلاك هي من تزوّد الحكومة بإيراداتها، ولدى هنغاريا واحد من أعلى ضرائب القيمة المضافة في العالم. والاقتصاد موجّه بشكل كلّي ناحية التصدير. خفضت هذه التغييرات الأجور وحفزت التهرّب الضريبي. وعانت تبعاً لذلك العديد من الخدمات العامة، ومن بينها الرعاية الصحيّة والتعليم، بشكل كبير من نقص التمويل. فقد ركد التمويل أو نقص لمثل هذه البرامج على مدى أعوام، وتثير نوعيّة هذه الخدمات المتردية جدالاً عاماً بانتظام.
في البدء، حافظت هنغاريا على موارد دولة الرفاه في الحقبة الاشتراكية، لكنّ الحكومة قلصتها باستمرار متذرعة بالقيود على الموازنة. الآن، لم يعد هناك إلّا تعويضات بطالة متواضعة متاحة فقط لمدّة ثلاثة أشهر، والضمان الاجتماعي هزيل.
لا يملك الهنغاريون الآن إلّا سيطرة ضعيفة على حياتهم الاقتصادية. لقد أصبحوا في واقع الأمر سلعة هم أنفسهم. ففي اقتصاد مفتوح تهيمن عليه الشركات الدوليّة، على غالبيّة الهنغاريين أن يكسبوا قوتهم عبر بيع الشيء الوحيد الذي يملكونه: عمالتهم. يضع هذا الناس في حالة تغريب مستمرّة، حيث يتم سلب كامل الثروة التي ينتجونها خلال يوم عملهم الطويل، بعيداً.
يقوم الهنغاريون بشكل متزايد بمقارنة أجورهم مع بقيّة الأوربيين الغربيين، ولا تخلق الهوّة الموجودة بينهما شعوراً بالظلم فقط، بل تحفز المزيد من العمال على مغادرة وطنهم أملاً في الحصول على حياة أكثر أمناً في مكان آخر. لماذا سيودّ أيّ أحد البقاء في هنغاريا في حين يمكنه أن يكسب أجراً مضاعفاً ثلاث مرّات عما يكسبه هناك، ويحظى بخدمات عامّة وبتعويضات بطالة أفضل، وذلك على بعد ثلاث ساعات فقط؟
وقد قابل الزيادة الأخيرة في الأجور تخفيضٌ مقصود في العملة الهنغارية، وهو الأمر الذي صُمم لإبقاء الصادرات زهيدة الثمن في السوق العالمية. يشير السياسيون غالباً إلى معدلات البطالة المنخفضة في البلاد، لكنّ هنغاريا ستواجه عمّا قريب نقصاً حاداً في قوى العمل في قطّاع خدماتها ناقص التمويل، وخاصة في مجال الرعاية الصحية.
وكي يفهم المرء المزاج القومي على حقيقته، عليه أن يغادر العاصمة المزدهرة وحواضرها الكبرى، وهي التي يقطنها حوالي 20% من السكان، لكنّها لا تسهم إلّا بنسبة 40% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. لقد تحسنت نوعيّة الحياة في بعض المراكز المدينيّة الأصغر، لكنّ مستويات الأجور خارج بودابست تتخلّف بكثير ليس عن وسطيّ الأجور في الاتحاد الأوربي فحسب، بل كذلك عن وسطيّ الأجور الهنغاري كذلك. وكلما ازددنا توغلاً في الأرياف، كلما ساءت قدرة الناس في الحصول على الخدمات وموارد دولة الرفاه الأساسية.
وتدرك وسائل إعلام القوميين المهيمنة هذا الأمر: فسكان بودابست يستطيعون الوصول إلى مصادر الإعلام الناقدة للحزب الحاكم والمتركزة أكثر شيء عبر الإنترنت، بينما يعتمد سكان الأرياف بشكل أكبر بكثير على وسائل الإعلام التي تديرها الحكومة، وهي التي يستخدمها القوميون لتحذير الناس من مخاطر الهجرة الدولية وجورج سوروز وبروكسل، ويذكرونهم بجهود حكومتهم البطلة من أجل حمايتهم من هذه التهديدات.
ومع إدراك سكان الأرياف وفقراء المدن من الهنغاريين للتاريخ بشكل جيّد، فإنّهم تأييدهم لشخص يرونه يقف لأجلهم هو أمر منطقيّ جداً: فنخب ما بعد التحوّل للرأسمالية لم تولهم أيّ اهتمام، وهم يفهمون هذه الحقيقة بشكل واضح جدّاً.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني