رجال دولة للاستهلاك
ترجمة أسيل الحاج ترجمة أسيل الحاج

رجال دولة للاستهلاك

يرى كريستيان سالمون في كتاب «La Cérémonie cannibale» الصّادر مؤخّراً عن منشورات «فايار» أنّ التواصل السياسي لم يعد يرمي إلى تنسيق اللغة فحسب، بل إلى تحويل رجل الدولة إلى سلعة استهلاكيّة. ويحلّل العملية التي من خلالها يميل السياسي إلى تبنّي خطاب يتيح له الحفاظ على السلطة الوحيدة المتبقّية له، بعد أن جُرِّد تدريجيّاً من سلطته الأصليّة الكامنة في قدرته على التأثير فعليّاً في نفوس الناخبين.

وهو يُحكم سلطته هذه من خلال سرد أسطورة عن حياته وعن مصير البلاد التي يعتزم حكمها وعن الشعب الذي يزعم تمثيله. وقد أسهمت الصدمات النفطية ونشأة الاتحاد الأوروبي وتطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في حرمان رجل السياسة من دوره كزعيم، وأرغمته على الرضوخ لإملاءات «النيوليبرالية»، مع كلّ ما يستتبعه ذلك من سردٍ قصصي، وبريق منسَّق، و«تقادُم مبرمَج». وينتهي الكتاب إلى الفرضيّة الأوّليّة، ومفادها أنّ رجل السياسة ستبتلعه في نهاية المطاف السّلطة التي يخال انّه يمتلكها.


يصف سالمون في كتابه «احتفال أكل لحوم البشر»، المشهد السياسي الجديد في العالم، حيث تتجسد مأساة «التهام» رجل السياسة كما عرفناه
منذ أكثر من مئتي عام، وذلك بتأثير السياسات النيوليبرالية وثورة الاتصالات التي دفعت الساحة السياسية إلى الانتقال من المواقع التقليدية لممارسة السلطة إلى وسائل الإعلام و«الإنترنت» وشبكات التواصل الاجتماعي، وطغت الشبكات الإخبارية المتواصلة ذات التغطية المباشرة على النقاش الديموقراطي الطويل، فأصبح رجل السياسة أقرب إلى سلعة استهلاكية، أو شخصيّة تقدّم أداءً محدَّداً في مسلسل تلفزيوني، منه إلى شخصية تتمتّع بنفوذ فعليّ.


ولا يستخفّ سالمون بالأداء الذي يقدّمه رجل السياسة، بل يعترف بأنّه أداء معقَّد لا يقتصر على سرد قصّةٍ فحسب، بل يشمل السيطرة على الأجندة الإعلامية، وتأطير النقاش العامّ من خلال العزف على وتر الاستعارات ومكوّنات اللغة، وخصوصاً إنشاء مساحة تتيح نشر رسائل معيّنة تنتقل كالعدوى مُلهبةً مشاعر المستمعين، كالخوض في الجدل المصطنع حول «اللحم الحلال» في الحملة الرئاسية العام الماضي على سبيل المثال.


ثمّ ينتقل الكاتب إلى «السرد القصصي» معتبراً أنّ النجاح الذي حقّقه هذا المفهوم منذ خمس سنوات، عزّز اعتقاداً جديداً مفاده أنّ على رجل دولة أن يروي قصّةً ما على مسمع الأمة. وبدا فوز باراك أوباما في العام 2008 انتصاراً «للسرد القصصي» في السياسة، لا بل غدا وكأنّه وصفة سحرية بين أيدي المستشارين، فاقمت فقدان الثقة في الخطاب العامّ. ويُفضّل سالمون تعبير «الأداء السردي» على «السرد القصصي» لأنّه يضمّ عناصر السينوغرافيا، وتأثيرات «الإنترنت»، وتفاعل القصص بعضها بالبعض الآخر في وسائل الإعلام العالمية. فقد فات الزمن الذي كان فيه الحاكم يخاطب شعباً ساكناً وساذجاً، ذلك أنّ كل الشخصيّات الإعلاميّة (من سياسية، ورياضية وغيرها) باتت عرضة للنّقد الذي لا يرحم على شبكات التواصل الاجتماعي، وأبرزها «تويتر» و«فايسبوك»، فكأنّها سوقٌ كبير يدخل مُعتركه عددٌ لا يُعدّ ولا يُحصى من القصص التي يتشاركها الأشخاص ويختلفون بشأنها. ولا تشكّل القصّة عصا سحرية في يد هؤلاء الأشخاص، بل وسيلة نضالية. فجميعنا منخرطون في استراتيجيّة سرديّة.


أمّا عن تاريخ هذه الظاهرة، فيعزو كريستيان سالمون نشأتها إلى تحوّلين رئيسَين طرآ على ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، هما: الثورة النيوليبرالية وثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وقد رمت النيوليبرالية إلى تسليم سُدة الحكم لمسؤولين تمحورت مهامّهم حول مفارقة ثلاثيّة هي: تفكيك سيادة الدولة، ونزع سلاحها، وتجريدها من جوهرها. والنتيجة أمام أعيننا: ضعف السيادة الوطنية أينما كان من خلال اللامركزية من جهة، ونشأة المؤسسات الأوروبية والشركات المتعدّدة الجنسيات والأسواق المالية من جهة أخرى... إذا، بات يصعب على رجال الدولة أن يمارسوا السلطة وأن يمثّلوا أي شرعية بعد التغيّر الذي شهدته رمزيّة السلطة: من تجسيد الوظيفة الرئاسيّة إلى التركيز على عرض شخص الرئيس. وتبدّى ذلك من خلال ظهور جيل جديد من السياسيين على رأسهم بيل كلينتون، وسيلفيو برلوسكوني، وتوني بلير، وجورج بوش، ونيكولا ساركوزي، وهم جميعاً مؤدّون يتميّزون بإطلالاتهم التلفزيونية المكثّفة، وبقدرتهم على جذب الانتباه، وبحرصهم على زيادة معدّلات المشاهدة، بحيث تجوز تسميتهم خبراء استراتيجيّين في التوتّر السردي.


ويشرح سالمون أيضاً كيف يفضي هذا الأداء إلى التهام الذات، باعتباره ينطوي على تناقضات عدّة. المفارقة الأولى هي أنّ تضخيم القصص يدمّر مصداقيّة الراوي، وخير مثال على ذلك نيكولا ساركوزي. المفارقة الثانية هي أنّ التعبئة الشديدة للمشاهدين في أثناء الحملات الانتخابية يؤدّي إلى إدمان حقيقيّ ينتهي باكتئاب، كما هي الحال عند تعاطي المخدرات. وينعكس هذا الاكتئاب الديموقراطي مشاركةً متدنّية في الانتخابات النصفية، وهبوطاً في نسبة المشاهدة، وفقدان الثقة في الخطاب العام... إذا، سوف يحظى السياسي بالشعبية طالما أنّه لا يتسلّم السلطة. وتكمن المفارقة الثالثة في «النزعة الإرادية العاجزة»، أي تعويل رجل السياسة على الإرادة عندما تفتقر السلطة إلى الوسائل الضرورية لإنجاز عملٍ ما، واعتماد شعارات حماسيّة تدعو إلى التغيير، على غرار «نعم، نستطيع ذلك!» ولكنْ، سرعان ما يلمس هذا السياسي المُنتخَب الواقع المرير والجمهور المنقسم. فلا يبقى أمامه سوى المزايدة للتعويض عن فشله في تحقيق أي إنجاز يُذكر.


يعتبر كريستيان سالمون أنّنا نشهد عقب أزمة العام 2008 وانحسار موجة المؤدّين من أمثال ساركوزي وبوش وبرلوسكوني، منحىً جديداً يتمثّل في وصول محاسبين يضعون النظارات إلى سُدة الحكم، وعلى رأسهم ماريانو راخُوي وماريو مونتي وفرانسوا هولاند الذي يواظب في مؤتمراته الصحافية على اعتماد خطاب كلاسيكي من الطراز القديم يُظهره على أنّه شخصٌ معتدل ورئيسٌ متوازن يحافظ على توازن الموازنة... فبعد أعوام «الساركوكايين»، أخضع هولاند الفرنسيين لعلاج مضادٍّ للاكتئاب طوال الحملة الرئاسية التي أظهرته على أنّه رئيسٌ عاديّ. قَدّر له الفرنسيّون ذلك حتّى أواخر صيف العام 2012، ثمّ عادوا يطالبون بجرعتهم من القصص والتشويق والفضائح والأحداث المفاجئة، وما انفكّوا يتساءلون «متى سيخبر الرئيس الجديد قصّته». فالسياسيّ الذي لا يروي قصّته، يرويها آخرون عنه...


حتماً، لا يمكن الحديث عن رمزيّة السلطة من دون سيادة حقيقية. ويقدّم سالمون في هذا السياق مثالاً عن فرنسا الفيشية باعتبارها دولة ظاهريّاً، ذلك أنّها لم تكن يوماً سياديّة. ولكنْ، في الوقت نفسه، لا معنى لأيّ سيادة إذا لم تتكامل مع رمزيّة الدولة. فصورُ «الملك» تُعرض أينما كان، ويُطبع وجهه على الأوراق النقديّة، وتُنظَّم إطلالاته العامّة. بيد أنّ العولمة ونشأة الاتحاد الأوروبي فكّتا الارتباط القائم بين السيادة وجهازها التمثيلي، فبتنا نرى قرارات تصدر من دون وجوه من جهة، ووجوه عاجزة عن أي قرار من جهة أخرى...


وقد يخلص القارئ إلى أنّ نظرة كريستيان سالمون إلى السياسة متشائمة جدّاً. فبرأيه، رجل السياسة التقليدي في طور الانقراض. وعبثاً يناضل هذا السياسي للبقاء على قيد الحياة، يبقى خاسراً في المعركة التي يقودها في قلب نظام ينهشه شيئاً فشيئاً.


يرى سالمون أنّ متابعي المشهد السياسي يمكن أن يؤسّسوا لشكلٍ جديد من الأدوار الكلاسيكيّة، شرط أن يمتدّ نطاقها إلى خارج حدود الوطن الواحد، أو حتى إلى خارج الحدود الأوروبية. فنحن اليوم نشهد ولادة عالمٍ جديد وولادة لاعبين جدد في كلٍّ من أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والعالم العربي. ناهيك عن أنّ الشعوب عادت مجدّداً إلى إسماع صوتها في الساحات العامّة. وسوف يسهم تطوّر تكنولوجيا الاتصالات أكثر بعد في ظهور منابر جديدة للنقاش الديموقراطي، وفي بلوغ ديموقراطية تتخطى الحدود الإقليمية. عندئذٍ، في هذا الفضاء المفتوح، يسعنا أن نجرؤ على تصوّر انتماءات متعدّدة، ومفهوم آخر للمواطنيّة...


*عن الملحق الثقافي لجريدة «لوموند» الفرنسية ــــ السفير