«وثائق البنتاجون» ودروس الصحافة
داليا سعودي داليا سعودي

«وثائق البنتاجون» ودروس الصحافة

فى لحظة يصب فيها الرئيس الأمريكى غضبه على الصحافة، فيرميها بالكذب، ويغلق أبواب البيت الأبيض فى وجه منتقديه من كتابها، ويحلم بتدجينها وبتحويلها إلى صحافة خليقة بدول العالم الثالث، يبدو الفيلم الأمريكى «ذا بوست» المكرس لاستعادة واحدة من أهم المعارك التى انتصرت فيها الصحافة على السياسة أشبه بنفير حاشد من أجل المقاومة. تبدو القصة التى تستعيد أحداثا واقعية جرت قبل 46 عاما بمثابة الرد الأنسب على المعارك التى فرضها وجود دونالد ترامب فى السلطة اليوم. إذ يجسد الفيلم تفاصيل نشر صحيفة «واشنطن بوست» لدراسة سرية أجراها البنتاجون حول عقود الحرب فى فيتنام، فهنا قصة تخاطب قضايا الساعة عبر صحافة حرة مشاغبة، وقضاء مستقل نزيه، وناشرة شجاعة نجحت فى فرض إرادتها وسط عالم يحكمه الذكور، أما نحن، مشاهدو الفيلم فى بلداننا الشرق أوسطية البعيدة عن هذا النوع من المعارك والانتصارات، فلا نملك أثناء المشاهدة المحفوفة بالمقارنات، إلا أن نلقف حبات الفشار، الواحدة تلو الأخرى،، علنا نستوعب الدروس المستفادة، الواحد تلو الآخر.

فما هى هذه الدروس؟

***

يستعرض المشهد الأول تمويه وجوه المجندين الأمريكيين الشباب باللون الأسود تمهيدا للاشتباك على جبهة الحرب المتواصلة فى فيتنام عام 1966، وفى ظلام الأحراش، وحدهما عينا مبعوث وزارة الدفاع تبرقان، ها هو قد خرج مع الجيش للوقوف على حقائق سير المعركة فى إطار دراسة ميدانية سرية كلفه بها وزير الحرب «روبرت ماكنمارا»، لكن النيران التى تحصد الجنود من حوله فى الكمائن لا تدع له مجالا للشك: الوضع يسير من سىء إلى أسوأ.

ورغم وقوف وزير الدفاع على فداحة الخسائر على الجبهة، نراه فور مواجهته الصحفيين يكذب ويقلب حقيقة الأوضاع، ليصور لهم انتصارات «فاقت كل التوقعات»، وليستمر فى إحياء أكاذيب تعاقبت على ترويجها حكومات خمس رؤساء على مدى 30 عاما! فلماذا كذب ترومان ومن بعده آيزنهاور وكنيدى وجونسون وصولا إلى نيكسون؟ إنها الكرامة العسكرية التى تأبى الاعتراف بهزيمة الجيش، وذريعة «حماية الأمن القومى» الجاهزة لتبرير كل الادعاءات، واعتبارات المنافسة الانتخابية التى أثنت كل رئيس عن الاعتراف بالحقائق الصعبة.

ذلك هو الدرس الأول الذى يقر حقيقة عالمية مفادها أن الشفافية لم تكن يوما من شيم الحكومات لاسيما إذا ما غاب عنها مبدأ المراجعة والمحاسبة.

***

لكن الدروس الحقيقية التى يحملها هذا العمل السينمائى المهم هى تلك التى نستقيها من تفاصيل الممارسة الصحفية كما تتجلى فى أروقة صحيفة الـ«واشنطن بوست» فى مطلع السبعينيات منذ كانت بعد صحيفة محلية عائلية الإدارة لم تصل إلى المكانة المرموقة التى تحتلها اليوم.

فهنا ناشرة الصحيفة ومالكتها كاثرين جراهام، سيدة المجتمع التى لم تشغل يوما وظيفة ووجدت نفسها فجأة بعد انتحار زوجها وهى فى عمر السادسة والأربعين فى منصب ناشرة الصحيفة، لكنها تحت الضغط، أثبتت نفسها وصارت واحدة من الرموز النسائية الكبرى فى عالم الصحافة، فراحت تنهض بالجريدة، انطلاقا من إيمانها بأن تحسين المحتوى الصحفى هو السبيل الوحيد لزيادة الربحية، وهو ما حدا بها إلى اتخاذ القرار المهنى الصائب والشجاع بنشر الدراسة السرية التى تدين الحكومات المتعاقبة بإرسال آلاف من أبناء الشعب الأمريكى إلى حرب خاسرة، لم تتوان عن اتخاذ قرار النشر رغم صداقتها الأسرية الطويلة مع وزير الدفاع، ورغم تحذير محامييها من أن النشر سيؤدى إلى انسحاب المستثمرين الجدد من تمويل الصحيفة، ورغم احتمال تعرضها هى شخصيا للسجن لانتهاكها قرار حظر النشر.

وإلى جوار كاترين جراهام هناك رئيس التحرير الأسطورى بن برادلى، الذى نراه يرفض منذ اللقطة الأولى له فى الفيلم فكرة المساومة مع الرئيس نيكسون أو الانصياع إلى مطلبه بتغيير مراسلته الموفدة إلى البيت الأبيض، برادلى هو رئيس التحرير المسكون بمهمة الصحافة كشرط أساسى لاكتمال العملية الديمقراطية، وكأداة للمحاسبة، وكسلطة مراقبة تضمن إنفاذ القانون، وتكفل حق الشعب فى المعرفة، وتؤمن بأن السبيل الوحيد لحماية حق النشر هو النشر.

درس صحفى آخر بين طيات هذا الفيلم تلخصه قضية المسافة التى يجدر أن يلتزمها الصحفى بينه وبين مصدره السياسى، ففى لحظات التردد التى ساورت كاترين قبل اتخاذ قرار النشر، كان برادلى أشبه بضميرها المهنى، وبوصلتها القياسية التى تشير إلى تلك المسافة الإجبارية بين الصحفى والسياسى لمراعاة نزاهة الكلمة والحفاظ على شرف القلم، وبمثل ما كان يحاسبها كان يحاسب نفسه على الصداقة الوثيقة التى ربطته بالرئيس كنيدى فى الماضى.

لكن هذه اليوتوبيا المهنية ما كانت لتكتمل لولا وجود قضاء مستقل ينتصر لأحكام الدستور، ولولا محكمة أمريكية عليا ارتأى محلفوها تبرئة الصحيفة من تهمة خرق حظر النشر المفروض بأمر من الرئيس، وذلك إعلاء لمبدأ ارتهان الصحافة بخدمة مصالح المحكومين لا الحكام. لولا قرار المحكمة ما كان لصحيفة الواشنطن بوست أن تستمر، ولما كان لها بعد أشهر قليلة السبق فى الكشف عن فضيحة وترجيت التى أطاحت بنيكسون ولاستمر بفساده فى منصبه. فأى جلال تكتسيه السلطة القضائية حين تقوم بدورها فى خدمة العدالة! وبهذا الصدد، لعل أقوى مشهد سيبقى فى الذاكرة من هذا الفيلم المثير هو ذلك الذى تخرج فيه الناشرة كاثرين جراهام من المحكمة العليا لتسير وسط تدفق نهر من النساء المتطلعات إليها بإعجاب، كناية عن القدوة الملهمة التى باتت تمثلها لكل هؤلاء الباحثات عن مكان ومكانة تحت الشمس.

***

ثمة تفصيلة استوقفتنى، كواحدة من المنتمين إلى ذلك الجانب من الكرة الأرضية الذى لا تسطع فوقه شمس الحقيقة بنفس الجلاء، فالشخص الذى أمر بإجراء الدراسة السرية التى سربت من وزارة الدفاع هو وزير الدفاع نفسه الذى كان يجتهد فى إخفاء الحقيقة، لكنه أمر بإجراء هذه الدراسة المعمقة بهدف إخضاع أسباب هزيمة الجيش للبحث والدراسة من قبل المختصين بعد انقضاء الحرب لاستيعاب دروس التجربة وتصويب مطاوى الخلل فى أداء الجيش الأمريكى، فكل ترقى فى تلك المجتمعات يبدأ من نقد الذات ومن اقتلاع أسباب الفساد.

وأخيرا، بعد هذه المعالجة التى أردتها أن تكون شبه «مدرسية»، لعلى الآن أرضخ لعادة أورثنى إياها طول اشتغالى بالتعليم، فأطلب من القارئ الكريم حل هذا الواجب المنزلى: اعقد مقارنة بين ما جاء فى هذا الفيلم الأمريكى الطوبوى وبين ما يحدث فى بلادنا العربية، من حيث قضايا النشر والإعلام والعلاقة بين السلطة والصحافة، وأحكام القضاء، مع مراعاة الإجابة على ورقة خارجية، حرصا على مستقبل الكاتبة وعلى مستقبل النشر بهذه الصحيفة!

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني