التواطؤ البريطاني من بلفور وحتّى الآن
مرّت مائة عام على إعلان بلفور الذي قدّم الدعم البريطاني الرسمي للمشروع الصهيوني الذي كان هدفه إقامة «دولة يهوديّة» في فلسطين. وبعيداً عن اللامبالاة، كانت الحكومة البريطانية في حينه حريصة على الحفاظ على وجودها الاستعماري في المنطقة، وقد حكمت فلسطين ابتداءً من نهاية الحرب وحتّى عام 1947. عبّدت السلطة البريطانية في فلسطين خلال ذلك الوقت الطريق لبناء وتنمية مستعمرات الاستيطان الصهيونيّة في فلسطين لتصبح ما سيعرف لاحقاً باسم «دولة إسرائيل».
تعريب وإعداد: هاجر تمام
لقد كانت عواقب الاستعمار في فلسطين مدمّرة لسكانها الأصليين: الفلسطينيين. لقد تمّ بين عامي 1947 و1949 تدمير أكثر من أربعمائة قرية فلسطينيّة وتهجير أهلها على يد الميليشيات الصهيونيّة التي كانت حجر الأساس في تشكيل ما يعرف اليوم باسم «الجيش الإسرائيلي». لقد تمّ طرد ثمانمائة ألف فلسطيني أو إجبارهم على مغادرة منازلهم فيما عرف بـ«التطهير العرقي لفلسطين».
إنّ تركة الحكم الاستعماري البريطاني، ولا سيما القمع العنيف للاحتجاج، موجودة في نظام الفصل العنصري «الإسرائيلي» للسيطرة على الفلسطينيين اليوم. وقد تمّ تبني الاحتجاز الإداري، وهو أوّل ما قُدّم على يد القوات البريطانية في عام 1945، في التشريعات القانونية «الإسرائيلية» كي يستخدموها ضدّ الفلسطينيين. يتمّ اليوم احتجاز المئات من السجناء في الاحتجاز الإداري دون توجيه تهم لهم ودون تحويلهم للمحكمة، ومن بينهم أطفال.
وبصرف النظر عن المخلفات القانونية وغيرها من التفاصيل الإدارية، يستمرّ الإرث الاستعماري البريطاني بطرق هيكليّة متنوعة أكثر، وخاصة عبر التواطؤ المستمر القائم بين المملكة المتحدة وانتهاك حقوق الفلسطينيين.
المملكة المتحدة أبعد ما تكون عن الحياد:
لقد انتشرت في الفترة القريبة الماضية عشرات المطبوعات والأفلام الوثائقيّة والتقارير الإخباريّة التي تُظهر معلقين بريطانيين يتحدثون إلى الفلسطينيين و«الإسرائيليين» حول «صراعهم»، وينتحون موقفاً جانبياً كما لو أنّ بريطانيا ليست طرفاً في الأمر وبأنّها مجرّد فاعل خير يتمناه للجميع. لا يمكن لإظهار موقف بريطانيا بأنّها مجرّد متفرّج حسن النيّة أن يكون مخادعاً أكثر من هذا. فالشركات البريطانية والحكومة البريطانية تساعد بشكل فعّال على إدامة وبناء الهياكل «الإسرائيلية» التي تخدم الاحتلال والفصل العنصري.
ومن الأمثلة الصارخة على ذلك هو صفقات الأسلحة بين المملكة المتحدة و«إسرائيل». ففي الأعوام الثلاثة الماضية وحدها، منحت الحكومة البريطانية الضوء الأخضر لتوريد أسلحة بقيمة 223 مليون جنيه إسترليني إلى «إسرائيل». تضمّن هذا مجموعة واسعة من الأسلحة واللوازم التكنولوجيّة التي تستخدمها «إسرائيل» بشكل يومي في عنفها ضدّ الفلسطينيين، ومن بينها لوازم القوارب المطاطية وحاملات الطائرات والطائرات المسلحة دون طيار وبنادق القناصة وغيرها.
علاوة على ذلك، تُرحب حكومة المملكة المتحدة بانتظام بشركات الأسلحة «الإسرائيلية» مثل شركة «أنظمة إلبيت Elbit systems» سيئة السمعة، من أجل اختبار أسلحتها في المملكة المتحدة، وتقبل عروض الشراكة معها. إنّ لدى شركة إلبيت مصانع فرعيّة في المملكة المتحدة حتّى. بعبارة أخرى: تربط الصناعات العسكرية «الإسرائيلية» علاقة مزدهرة مع حكومة المملكة المتحدة. والذين يدفعون الثمن في هذه الأثناء هم الفلسطينيين، فالمهمّة الرئيسيّة لـ«الجيش الإسرائيلي» هي الحفاظ على الاحتلال وقمع الفلسطينيين.
كما تلعب الشركات البريطانيّة دوراً رئيساً في قمع «إسرائيل» للفلسطينيين. فمصرف (إتش.إس.بي.سي HSBC) الذي تنتشر فروعه في الشوارع الكبرى في المملكة المتحدة، يملك أسهماً بقيمة 831 مليون جنيه إسترليني في الشركات التي تبيع الأسلحة والخدمات الأمنيّة للكيان، ومن ضمنها «أنظمة إلبيت». كما أنّ بنك HSBC يملك «مصرف متطابق Correspondent bank» (وهو مؤسسة ماليّة تقدّم خدماتها بالنيابة عن مؤسسة ماليّة أخرى)، يدعى مصرف «ليومي Leumi». يقوم ليومي بتقديم الخدمات الماليّة للمستوطنات غير القانونية «الإسرائيلية» ولشركات بناء المستوطنات.
الاعتذار لاحقاً، والمقاطعة الآن:
قامت منظمات فلسطينية في عام 2005 بدعوة الشعوب ذات الضمير حول العالم من أجل الاضطلاع بحملات فضح التواطؤ الدولي مع الكيان في فلسطين المحتلة، وللضغط على الشركات والمؤسسات والحكومات من أجل إنهاء دعمها لقمع الفلسطينيين. لقد كان الردّ صرخة قويّة من التضامن حول العالم، حيث انطلقت الكثير من الحملات لتحدّي من يؤيدون الكيان.
في المملكة المتحدة، دفعت الحملات الشعبية التي ركزت على شركة الأمن الخاصة البريطانية (G4S) بنجاح إلى قطع العلاقات مع السجون «الإسرائيلية» حيث يتم احتجاز الفلسطينيين. وبشكل مماثل، تمّ الضغط على الشركة الفرنسية (Veolia) لكي تنهي اشتراكها في نظام السكك الحديدية المُصمم لتوسيع البنى التحتيّة للمستوطنات غير الشرعيّة.
لقد بدأ صدى جهود الناس العاديين يتردد في محافل أخرى أيضاً. لقد بعثت مفوضيّة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة مؤخراً رسائل إلى 150 شركة، تحذرهم فيها من أنّه سيتم إضافة اسمهم إلى قاعدة بيانات الأمم المتحدة للشركات التي تجري أعمالاً في المستوطنات «الإسرائيلية» غير الشرعية. سيكون لمثل هذا الظهور في هذه القائمة تداعيات خطيرة على الشركات، حيث سيعني الأمر بأنّها تقوم بشكل علني بأنشطة تنتهك القانون الدولي، ممّا يمثل خطوة هامّة في العمل الدولي ضدّ الكيان.
بعبارة أخرى: لقد بدأ العمل في حملات المقاطعة يؤتي ثماره، لكننا بحاجة للمضي قدماً. نحن بحاجة لنبني أرضيّة لدعم حملات المقاطعة بشكل يشبه الحملات التي ساعدت على إسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا منذ عقود. وعلينا كي نصل لنقطة التحوّل هذه أن نؤسس، بشكل يتخطّى دوائر «الناشطين»، لفهم سبب الأفعال الإجراميّة «الإسرائيلية». يبدأ هذا مع فهم التواطؤ البريطاني، ورفض تأطيره ضمن إطار حكم محايد.
رغم الأسى الذي تجلبه مثل هذه المناسبات، فليس علينا أن نسمح لانعكاسات الماضي والمزاودة به أن تقف في طريق العمل. إنّ قرناً من التواطؤ البريطاني مع «إسرائيل» هو قرن طويل جدّاً. ليس هنالك من اعتذار سيغيّر الماضي، ولكنّ الاستمرار في التواطؤ سيجعل الأمور أسوأ وحسب.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني