"بليرهاوس" والحرب على سورية !

"بليرهاوس" والحرب على سورية !

عبداللطيف مهنا  _ في زمنهم الرديء ، وفي إطار “السلام خيارهم الاستراتيجي الوحيد” ، قدَّم عرب قمة بيروت عرضهم التنازلي الأول لعدوهم التاريخي .

 تمثل في سلام له وتطبيع كامل معه ، بمعنى تثبيت نهائي لكيانه الاستعماري الغاصب لفلسطين ، وتصفية نهائية لما كانت تعرف بقضيتهم المركزية فيها ، مقابل قبوله بأن ينسحب إلى ما وراء حدود الرابع من يونيو العام 1967 ، كما أشتمل عرضهم على تنازلٍ ضمنيٍ عن حق العودة ، أي جوهر القضية الفلسطينية برمتها ، عبر قبولهم بما وصفوه بحلٍ عادلٍ متفقٍ عليه لمشكلة اللاجئين ! قدموا كل هذه التنازلات منوِّهين بأن المقابل المرتجى ، أي الإنسحاب ، هو ثابتهم الذي لاعودة عنه . وقبل إنفضاض جمعهم البيروتي وصلهم الرد الصهيوني حين دفنت دبابات شارون عرضهم تحت أنقاض مخيم جنين ! ومع الزمن صارت عظام ما عرفت ب”مبادرة السلام العربية” رميماً … لكنما في تالي زمنهم الأردأ ، أي هذه الأيام ، نبش عرب “بلير هاوس” جدث موؤدتهم تلك ليتخلوا عن ثابتها ذاك ، وليبعثوها ثانيةً في كفن عرضهم التنازلي الثاني ، والمتمثل في القبول ب”حدود متبادلة” صوَّغوها بتوصيف بائسٍ هو “تغييرات طفيفة” ، أقل ما تعنيه تشريع التهويد والقبول بكتله الإستعمارية الكبرى . وإذ تخلوا في عرضهم التنازلي الأول مداورةً عن حق العودة ففي هذا الثاني تجاهلوه كلياً ! كما أنه ، وبطبيعة الحال ، إذا كان ذاك الرد الصهيوني على عرضهم التنازلي الأول قد جاءهم في حينها شارونياً ، فإن الرد على هذا الثاني سوف يكون نتنياهوياً بامتياز ، وسيلقى هذا اللاحق مصير ذاك السابق ، ولا ندري ما إذا كان في لجنة عرضه الوزارية لصاحبتها جامعة نبيل العربي من يتوقع لكرمها التنازلي المفرط هذا مصيراً مختلفاً عن أريحية قمة بيروت التفريطية ! لكنما ، وفي كل الأحوال ، يمكن القول أن ما قدمته لجنتهم من عرضٍ يعد منجزاً صهيونياً وثمرة من ثمارجولات كيري المكوكية الظافرة ، وما بينها إطلالة أوباما البهية الأخيرة على المنطقة … منجز سوف يبنى عليه تنازلياً فيما بعد ! دلل على هذا أمران هما صمت نتنياهو بدايةً ، وعندما تكلم قال إن الصراع مع الفلسطينيين ليس على الأرض وإنما على “يهودية الدولة” ، وترحيب تسبي ليفني ، التي من السهل أن يقال عند اللزوم بأنها في تصريحاتها إنما لا تمثل إلا نفسها ! لكنما ، وفي كافة ردود أفعالهم ، ابتهج الصهاينة بمنجز كيري ، الذي رأت المرحِّبة ليفني بأنه “سيسمح للفلسطينيين ، كما آمل ، بدخول غرفة وتقديم التنازلات اللازمة” !!!

ما تقدم يأخذنا إلى سؤالٍ جوهريٍ يلحُّ على كل من تابع هذا المشهد العبثي العربي المشين الذي جرت وقائعه على خشبة “بلير هاوس” ، وهو ، لماذا ، والآن بالذات ، يقدم عرب الأمريكان على نبش جدث قديمهم التنازلي المهمل ورفده بتنازلاتٍ إضافيةٍ جديدةٍ ؟!

مفتاح الإجابة يمكن العثور عليه في ثنايا تعقيبٍ فوريٍ للداهية بيرز إثر وروده خبر الحدث ، قال : ” إنه من الجيد أن العرب عادوا إلى المبادرة في هذا الوقت ” ، ومعنى هذا الوقت البيريزي ، لايعني سوى هذه اللحظة العربية غير المسبوقة في تهافتها وترديها ، وفي كونها الأنسب لأعداء الأمة ليحصدوا المزيد من التنازلات التي لا يبخل بها تحالف المال العربي مع المشاريع المعادية للعرب ، وتكالب هذين الحليفين المفرط لإعادة متراجع السطوة والهيبة للهيمنة الأميركية على دنيا العرب إلى سابق عهدها بعد تآكلٍ إثر تمريغ غطرستها في رمال العراق وشرشحة هيبتها على سفوح جبال الأفغان . أما الإجابة ذاتها فليست إلا برد هذا المشهد “البلير هاوسي” فقط إلى كونه من عجائب مستحقات هذه اللحظة العربية المهينة ، التي يتنازل فيها عرب جامعة العربي عن فلسطين ويناضلون من أجل هدفٍ أثيرٍ لديهم هو تدمير سورية … تدمير سورية ، الدولة والجيش ، الوطن والمجتمع ، الدور والحضور ، والسعي لشطبها من المعادلات الإقليمية ، ومحاولة إنهاء مركزية الدولة فيها ، بل والحؤول دون قيامتها مستقبلاً … وكذا اللحظة ، التي لات ُفصل عن سابقتها ، والتي يستبدل فيها عرب “بلير هاوس” عدوهم الصهيوني بالفارسي ، وتفحُّ فيها أفاعي مفتي الفتن المذهبية التي من شأنها أن تقسِّم الإنسان العربي في أوطانه المجزأة سايسبيكوياً ، كإسهامٍ مطلوبٍ في دورمرسومٍ في معركة النزع الأخير ، التي تخوضها وحدانية القطبية الأميركية ، في سياق صراعها الكوني المحتدم لتبطئة تسارع أفولها المحتوم ، ومحاولاتها المستميتة لمنع تشكُّل نظامٍ كونيٍ جديدٍ بدأت معالمه ترسم ملامح مستقبلٍ مغايرٍ لعالمنا المبتلي بالفجور الغربي .
وعليه ، لقد مضى الوقت الذي كان يمكن وصف ما يجري في سورية بالأزمة ، ولم يعد بالإمكان وصفه الآن بغير الحرب الغربية وملحقاتها الإقليمية والعربية عليها ، وغير أنه في ساحها الآن يؤرخ لانعطافةٍ قد تكون الفاصلةٍ بين راهن دوليٍ آفلٍ يتآكل ومستقبلي قادم يتشكَّل . وإلا لماذا كل هذه السيناريوهات العدوانية المتبدلة والمتخبطة لأشكال التدخل الغربي القائم والمزمع فيها ، وكل ما نشهده من تبادلٍ شيطاني غربي إقليمي للأدوار لإطالة أمد النزف السوري ، ومنع السوريين من الإلتقاء على كلمةٍ سواء تؤدي إلى تسويةٍ سياسيةٍ تحفظ ما بقي من سورية ، وتؤسس لتوافقٍ وطني على بنائها مستقبلاً ، ووفقما يجمع عليه كل السوريين .

… في “بلير هاوس” لم يكن ثمة من حسٍ تاريخيٍ … ومن أين ذلك لمن لا تهمَّه أحكام التاريخ ولا تعنيه حقائق وثوابت الجغرافيا !!!

 

معلومات إضافية

المصدر:
نشرة كنعان