الأحجية الكردية
يقترب يوم 25 سبتمبر (أيلول)، الموعد الذي حدده أكراد العراق لإجراء استفتاء على الاستقلال الذي تشابكت حوله رماح كثير من اللاعبين الدوليين والإقليميين ممن يخشى اشتعال أزمة جديدة في المنطقة.
من جديد تخرج إلى جدول الأعمال معضلة العالم الأبدية؛ أي: الحفاظ على وحدة الدول أم حق تقرير المصير؟ يبدو كأنه بالإمكان فهم من يقف مع ومن هو ضد. لكن ستوضع على كفة الميزان الحسابات الجيوسياسية المعقدة وقواعد القانون الدولي ومصالح القوى الخارجية. الموضوع حساس لدرجة أنه قل من يتشجع لمناقشته. مع ذلك؛ فمن المنطقي النظر في بعض السيناريوهات الأساسية الممكنة لتطور هذا الوضع.
السيناريو الأول: الاستفتاء سيتم في وقته المحدد رغم عدم وجود اتفاق بين قادة كردستان العراق والحكومة المركزية، وستذهب الحكومة الإقليمية إلى تطبيق نتائجه على أرض الواقع. وليس من الصعب التنبؤ بأن الأغلبية الساحقة من الذين سيدلون بأصواتهم سيكونون مع الاستقلال. يرى الأكراد في ذلك طريقهم لتحقيق حلمهم التاريخي في تشكيل دولتهم الخاصة، وحتى أولئك منهم ممن يشكك في جدوى إجراء هذا الاستفتاء في الوقت الراهن بالذات خشية التعقيدات الممكنة، فإنهم على كل الأحوال لن يستطيعوا أن يصوتوا ضده. على الأغلب أن هؤلاء الناس لن يذهبوا إلى مراكز الاقتراع. لكن من المستبعد أن يكون لذلك تأثير ملموس على نسبة المشاركة التي ستكون بدورها كافية لإتمام الاستفتاء. إلى هذه اللحظة؛ من أكثر المشككين في هذا الاستفتاء هي قيادة «حزب حركة التغيير الكردية (كوران)» التي ترى أنه في البداية يجب على الحكومة الإقليمية في أربيل إصلاح سياستها آخذة بعين الاعتبار تلك المطالب المعروفة التي تطرحها هذه المنظمة منتقدة فيها قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني.
يبقى السؤال متعلقاً بالموقف الذي سيتخذه المجتمع الدولي ممثلا بالحكومات والمنظمات الدولية تجاه الاستفتاء بعد إتمامه. لا تزال أغلبية الدول العظمى، كما هو واضح، تحاول إقناع أكراد العراق بالتريث. أما بعض الحكومات، فترى أن مثل هذا الأسلوب لتقرير مصير المنطقة غير شرعي من دون الاتفاق المسبق بين أربيل وبغداد. يرى أغلبية المحللين أن الحديث لا يمكن أن يدور حول إمكانية اعتراف بغداد بنتائج الاستفتاء بعد أن يتم من جهة واحدة. لكن حتى مع عدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء، فلن يستطيع أحد أن يتجاهلها بوصفها مظهراً من مظاهر تعبير شعب كردستان العراق عن إرادته.
لكن ماذا بعد ذلك؟ هنا تظهر أسئلة أكثر من الأجوبة. هل يمكن التصور أن أكراد العراق ببساطة سيعلنون الانفصال من جهة واحدة عن بغداد ويبدأون بتشكيل هيئات حكم جديدة؟ من الذي سيعترف بالدولة المشكلة بهذه الطريقة؟ لدى عدد كبير من الدول مشكلاتها مع الأقاليم، وعدد كبير من بينها سيبدأ بقياس هذا الوضع على نفسه. من الطبيعي أن جميع حكومات المنطقة تقريباً، وبالدرجة الأولى الدول التي يقطن فيها الأكراد، سينظرون بسلبية حادة تجاه مثل هذا التطور للوضع. فكيف سيكون رد الفعل منهم في الواقع؟ واثق بأنه لن يتجه أحد منهم، بما في ذلك الحكومة المركزية العراقية، لاستخدام القوة لحض أربيل على التخلي عن خطط تطبيق نتائج الاستفتاء. طبعاً نظرياً بإمكان هذه الدول التوجه لاستخدام أساليب أخرى للضغط؛ العقوبات، على سبيل المثال. لكن في الوقت نفسه كيف يمكن أن يتسق هذا مع المصالح التي تربط هذه الدول بكردستان العراق؟ فليس سراً أنه حتى دولة مثل تركيا كانت قد استثمرت موارد هائلة في اقتصاد كردستان العراق. ولكن في المقابل، أو في الكفة الأخرى للميزان، ستوضع العلاقات مع العراق والدول الإقليمية الأخرى.
وماذا لو أصبحت نتائج الاستفتاء منصة انطلاق لمحادثات جادة بين أربيل وبغداد؟ في هذه الحالة يتوجب على الأكراد أن يتخذوا قراراً بتأجيل الإعلان عن الاستقلال، مما يمكن أن يشكل مخرجاً منطقياً من الوضع الصعب. حينها سيكون لدى الأكراد موقع رابح في المحادثات التي، في حال التوصل إلى حل وسط خلالها (من الناحية النظرية يمكن التوصل إليه)، سيساعدهم في الحصول على امتيازات جديدة من الحكومة المركزية.
يمكن أيضاً الافتراض بأن يتوجه أحد الطرفين إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة لاتخاذ قرار حول هذه المسألة. نقلُ المسؤولية إلى منظمة دولية يمكن أن يحافظ على ماء الوجه للطرفين، ويجعلهم يمتثلون للقرار في حال تم اتخاذه. في جميع الأحوال؛ لا مفر من تدويل القضية.
سؤال آخر: كيف سيؤثر إجراء الاستفتاء ونتائجه على موقف الطرفين تجاه كركوك؟ بعض المحللين يتساءل: ألا يمكن أن يرغب القادة الأكراد في استغلال الوضع لكي يطرحوا هذه المشكلة من جديد؟
نأمل في أنه ليس هناك من بين الأطراف من له مصلحة في تفاقم الخلاف الحالي وخلق أزمة جديدة، في منطقة تكتظ بالأزمات.
آمل أيضاً أن يحث الاستفتاء تركيا على تعديل سياستها تجاه الأكراد لصالح مراعاة أوسع لحقوقهم ومصالحهم.
من المهم أيضاً معرفة كيف سيؤثر تطور الأحداث في هذا السيناريو على المجتمعات الكردية التي تعيش في دول أخرى... على سبيل المثال: من المعروف أن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في سوريا برئاسة صالح مسلم ينوي في الوقت نفسه تقريباً الذي يخطط فيه لإجراء الاستفتاء في كردستان العراق، البدء في اتخاذ الخطوات المطلوبة لتجسيد القرار الذي تم الإعلان عنه في 17 مارس (آذار) 2016 على أرض الواقع حول تشكيل ما تسمى «جمهورية روج آفا»؛ غرب كردستان والشمال السوري. الجمعية التأسيسية كانت في 29 يوليو (تموز) قد حددت مواعيد إجراء الانتخابات في «روج آفا».
المرحلة الأولى منها الانتخابات المحلية على مستوى «الكومينات» ستجرى في 22 سبتمبر المقبل. خلال الفترة الأخيرة في شمال سوريا، حيث المشروع الفيدرالي كان قد وحد ليس فقط الأكراد، وإنما المجموعات الأخرى من السكان، تعززت مواقع الاتحاد الديمقراطي الذي يرتكز على القوة العسكرية لـ«وحدات حماية الشعب» (YPG) وفصائل الشرطة (أسايش) وهيئات الإدارة المحلية والموارد الاقتصادية، وعلى مصلحة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية في الاستفادة من الفصائل الكردية في تشكيلة «قوات سوريا الديمقراطية» التي تحارب لأجل تحرير الرقة. لكن من جهة أخرى؛ فإن المجلس الوطني الكردي الذي لديه فصائله من البيشمركة يقف ضد مشروع الفيدرالية. نأمل في ألا يقع خلاف جدي بين هذه الفصائل و«وحدات حماية الشعب». أما احتمال التدخل التركي، فلا يمكن استبعاده نهائياً.
السيناريو الافتراضي الثاني: تأجيل الاستفتاء تحت ضغط الدول العظمى والإقليمية الكبرى إلى وقت لاحق. في هذا السيناريو من الطبيعي أنه يجب أن تنطلق محادثات بين بغداد وأربيل. لكن الأكراد على ما يبدو ذهبوا بعيداً في مشروعهم لدرجة أنه سيكون من الصعب عليهم التراجع إلا إذا ظهرت حالة طارئة. فهل يمكن للمحادثات أن توصل إلى حل وسط ما؟
وأخيراً السيناريو الثالث: الاستفتاء سيتم، وسيستغل أكراد العراق ظهور أول إمكانية لهم للتعبير عن إرادتهم، بيد أن قيادة الحكومة الإقليمية لن تستعجل في تطبيق نتائج الاستفتاء على أرض الواقع، محافظة بذلك على الوضع الراهن ومستخدمة هذه النتائج ورقة ضغط.
سيبقى لأصدقاء الشعب العراقي العربي والكردي وجميع المجموعات الإثنية والطائفية التي تقطن هذا البلد، أن يتمنوا للجميع ضبط النفس والعقلانية في هذه المرحلة المهمة من تاريخهم؛ هذه المرحلة التي من خلالها وبفضل شجاعة كفاح شعب هذا البلد قد بدأ يتحرر من شر الإرهاب والتطرف، وهو بحاجة ماسة الآن إلى تكاتف جميع القوة العقلانية.
- رئيس «معهد الاستشراق» التابع لـ«أكاديمية العلوم الروسية» - موسكو
المصدر:الشرق الأوسط