لا تنسوا تصريح أوباما...
بعد إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية، ونجاح دونالد ترامب غير المتوقع أمام منافسته هيلاري كلينتون، صرح الرئيس المنتهي ولايته باراك أوباما، بالقول، أتمنى أن تجري عملية «انتقال سلمي للسلطة».. و «الحفاظ على وحدة الولايات المتحدة» تصريح أوباما بكل ما ينطوي عليه من معنى، مرت عليه وسائل الإعلام مرور الكرام على غير عادتها، ولم يعر هذا التصريح الخطير، انتباه أحد، إلا من رحم ربي، الذي يكشف الله لهم السر في الملمات، والنائبات؟!
أوباما العارف أكثر من غيره بالتناقضات داخل الإدارة، وهو الذي كان على رأسها لدورتين انتخابيتين، لم يطلق مثل هذا التصريح عبثاً، وجاءت فوضى التصريحات والقرارات من قبل الإدارة الجديدة، لتوضح لمن يريد أن يفهم، حال النخبة الأمريكية الرسمية منها وتلك التي في الظل، و جدية التصريح المشار اليه آنفاً.
رئيس تحت الضغط
تبين أن النموذج الأمريكي الذي قدم لنا على أنها دولة مؤسسات، ويشكل الرئيس رأسها دستورياً، من الممكن أن تكون تحت الضغط، أم أن الرئاسة مؤسسة شكلية أصلاً؟ الأهم من ذلك، ما هي مآلات هذا التباين، الذي دخل مرحلة التناقض الملموس كما يبدو في الأزمة الخليجية، والمرشح لأن يتحول إلى صراع مكشوف حول الأولويات والأجندة، خصوصاً مع الإيقاع السريع لتطور الأحداث، وربما يكون من الأهمية بمكان هنا أيضاً، السؤال عمن يمكن أن يتسلل من هذه التشققات بين النخبة الأمريكية، ويحصل على غنائم حرب؟ ومن يمكن أن يكون «فرق عملة» سواء كان في الداخل الأمريكي أو على الصعيد الدولي؟
البعبع الجديد
أمام كل إجراء أو توجه تقوم به «مؤسسة الرئاسة» تشهر ورقة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، و علاقة ترامب وطاقمه مع بوتين وروسيا.. هذه الورقة التي تستخدمها قوى الضغط في الصراع الداخلي الأمريكي، تشبه إلى حد بعيد ورقة ضغط أخرى جرى ويجري استخدامها على المستوى الدولي، وهي ورقة الإرهاب، فكل من يخرج عن النسق المرسوم أمريكياً، هو مع داعش والقاعدة، حتى لو كان من أنصار بوذا، وكل من يخرج عن نسق سياسات قوى رأس المال في الداخل الأمريكي هو صديق روسيا، حتى لو كان الرئيس الأمريكي نفسه، ليصل الأمر إلى درجة الابتذال، مما أدى بالناطقة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز، إلى تعنيف وسائل الإعلام: «أعتقد أن الرئيس يود أن يراكم تركزون اهتمامكم أكثر على جدول الأعمال التشريعي ومشاريع القوانين المقترحة، فلو نظرتم إلى التغطية في وسائل الإعلام، من مايو/أيار وحتى يونيو/حزيران، وخاصة في وسائل الإعلام الرئيسة، فستجدون حقيقة أنها خصصت من تغطيتها دقيقة واحدة فقط في أخبار المساء للحديث عن الإصلاح الضريبي، و3 دقائق للبنية التحتية، و 5 دقائق للاقتصاد وخلق فرص العمل، و 17 دقيقة للصحة، ولكنها أتاحت 353 دقيقة من بثها المسائي لمهاجمة الرئيس ونشر قصص كاذبة حول روسيا».
وهذه «البهدلة» اليومية للرئيس الأمريكي، من طرف الأذرع الإعلامية لقوى رأس المال، ليست لها علاقة بمؤهلات ترامب، بل لأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، فالرجل تسلم سدة البيت البيضاوي في مرحلة لا يحسد عليها، مرحلة اضطرار النظام الاقتصادي – الاجتماعي السياسي إلى دفع الاستحقاقات المترتبة عليه نتيجة سياسات المرحلة السابقة، مرحلة الهيمنة على العالم التي استنفذت نفسها، خصوصاً مع بروز خصوم عنيدين جداً يمتلكون كل أدوات المواجهة، إن إصرار الإعلام الأمريكي على شيطنة الطرف الروسي، هي محاولة بائسة لمنع حدوث أي تقارب، أمريكي - روسي قد يساهم في حل الملفات الدولية، وإيقاف جنون العسكرة والحرب، فحل النزاعات سلمياً، وتهدئة بؤر التوتر هي الضربة القاضية للتيارات الفاشية في الإدارة الأمريكية، باعتبار أنها تعتاش على الحرب، وهذه الأخيرة باتت مصدر رزقها الوحيد، وأداتها الوحيدة في الحفاظ على منظومة الهيمنة السابقة، لأن عدم استمرار هذه المنظومة يلغي مبرر وجودها، ولكن التمدد الأمريكي عالمياً، خلال العقود الماضية، كان في جانب منه تقاسم بين الاحتكارات الأمريكية نفسها، واليوم مع ظهور قوى دولية جديدة، تغلق الأبواب بحكمة وثبات أمام هذا التمدد اللاعقلاني، الذي يخالف كل منطق عرفته البشرية، من الطبيعي أن تظهر قوى تتضرر مصالحها بالمعنى المباشر، وأن يكون رد فعلها كالذي نراه، لينعكس ذلك تخبطاً عاماً، ولينال من الهيبة الأمريكية، ويؤدي بها إلى الحضيض، حتى لو كان جورج واشنطن نفسه يتربع على كرسي الحكم.
الطاعون والكوليرا
أحد جوانب المشكلة، تكمن في أن الصراع الداخلي الأمريكي ينعكس توتراً في العلاقات الدولية، و في الملفات جميعها ، ومنها الأزمة السورية، وفي جانب آخر، فإن خطوط التماس بين الأجنحة المتصارعة، قلقة وغير ثابتة ومتحولة، وإذا كان القاسم المشترك بين الأجنحة تلك جميعها هو استمرار الهيمنة، فإن الأدوات تختلف، والأولويات تختلف، ناهيك عن أن القوى العتيقة في المنظومة مدركة أكثر من غيرها، بأن ذلك النموذج المهيمن بقوة هيمنة الدولار المحمي بفرط القوى العسكرية بات في حكم المستحيل، ومن هنا فإنه لا يمكن المفاضلة بين هذا الجناح أو ذاك، والاختيار هنا أشبه باختيار الطاعون أو الكوليرا...
الثعلب في موسكو..
في ذروة توتر العلاقات الأمريكية – الروسية، وفي ظل استمرار التحقيقات حول علاقة ترامب المزعومة مع روسيا، ورغم كل محاولات منع انعقاد قمة أمريكية – روسية، يمكن أن تكون بداية مرحلة جديدة من العلاقات، بين الدولتين، أعلن البيت الأبيض عن لقاء مزمع بين الرئيسين على هامش قمة العشرين، التي ستنعقد في المانيا خلال المرحلة القريبة القادمة، الإعلان الذي لاقى ترحيباً روسياً، تزامن مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق إلى واشنطن للعب دور الوساطة بين الدولتين، وإذا أخذنا موقع كيسنجر في رسم الاستراتيجيات الأمريكية، ودوره كأحد الآباء الروحيين للعديد من الإدارات الأمريكية، ببراغماتيته المعهودة يمكن أن نستنتج بأن قوى الاعتراف بالأمر الواقع الجديد، وصعود الدور الروسي الصيني، عززت مواقعها أكثر فأكثر لدى النخبة الأمريكية، فالثعلب العجوز كما يلقب كيسنجر، لا ينطق عن هوى، ولا يتصرف إلا في المآزق الاستراتيجية، وهو ابن الرابعة والتسعين