سيناريو أمريكي غير محسوم في آسيا
وصلت العلاقات المشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية وفيتنام إلى آفاقٍ جديدة، في ظل صعود الصين سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي. ولم يثر الصعود الصيني في منطقة البحر الجنوبي انتباه جيرانه في منطقة «آسيا- الباسفيك» فحسب، بل وكذلك صناع السياسة الخارجية الأمريكية المعنيين بالاطمئنان الدائم على التحالفات العسكرية الخمس للولايات المتحدة في
في حين تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بالتمحور استراتيجياً حول الصين، وهو ما تسميه أوساط التحليل الغربي بـ«محور آسيا الأمريكي»، تنفتح هوامش المناورة الواسعة وغير المتوقعة مسبقاً أمام دول جنوب شرق آسيا.
حلفاء الأمس اتخذوا مساراً آخر
يقوم هذا «التمحور» الأمريكي على الجمع بين اتخاذ سياسات تندرج تحت بند «القوة الصلبة»، وأخرى تجري تسميتها بـ«القوة الناعمة»، في مقابل مستويات مختلفة من الترهيب والترغيب الذي تمارسه الولايات المتحدة وحلفاؤها بحق دول جنوب شرق آسيا.
واعتمدت الولايات المتحدة تاريخياً على كلٍّ من الفليبين وتايلاند لحماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. غير أن شراكتها مع هذين النظامين قد توترت في الآونة الأخيرة، نظراً للمستويات العالية من التقلبات الداخلية التي تعيشها هذه الدول، عدا عن الاتجاهات ذات النزعة الوطنية التي تضطر سلطات هذه البلاد إلى اتخاذها في محاولة منها لكبح جماح الحراك الشعبي الرافض لحالة التبعية المطلقة التي تظهرها الأنظمة الحاكمة في هذه الدول للولايات المتحدة الأمريكية.
في هذا السياق، أظهر الرئيس الفليبيني، رودريجو دوتيرتي، توجهاً حذراً على طريق بكين خلال تصريحات متكررة له تهدف إلى الحد من العلاقات الفليبينية الأمريكية. وفي الوقت ذاته، ينظر المحللون الأمريكيون بعين الشك إلى المجلس العسكري التايلاندي، حيث يغدو شيئاً فشيئاً شريكاً أمنياً لا يمكن الاعتماد عليه.
هانوي ذراع ضاربة؟
نتيجة لذلك، عملت الولايات المتحدة على تنويع نظام «التمحور» الذي تعتمده استراتيجياً في المنطقة، وذلك من خلال تسريع التعاون الأمني مع فيتنام، وذلك بهدف إيجاد توازن ما من شأنه أن يواجه الصعود القوي للصين في المنطقة. وخلال زيارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، إلى العاصمة هانوي، في الذكرى العشرين للعلاقات بين البلدين، جرى الاحتفال بـ«الشراكة الشاملة» بينهما، وهو إطار تم إنشاؤه في عام 2013، بهدف تعزيز العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وفيتنام في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن بين القضايا الرئيسة المثيرة للقلق تبرز: المنافسة الفيتنامية المتزايدة مع الصين حول المياه المتنازع عليها، وبطء النمو الاقتصادي للدولة، فضلاً عن ارتفاع موجة الاحتجاجات ضد النظام الحاكم في فيتنام.
وفي إطار تنفيذها لسياستها التوتيرية، رفعت حكومة الولايات المتحدة الحظر المفروض على بيع الأسلحة لفيتنام منذ ما يزيد عن أربعين عاماً. وفي الواقع، جندت واشنطن هانوي كشريك رئيس جديد تكمن مهمته الأساسية في إزعاج الخصمين الاستراتيجيين لواشنطن، وهما روسيا والصين، من خلال افتعال تلك المشاكل التي تعمل على إلهاء كلٍّ من هذين الخصمين حول حدود أمنهما الوطني والقومي. ومن أجل ضمان خضوع فيتنامي كامل، دفعت واشنطن في اتجاه إغداق بعض الأموال على هانوي، حيث شملت الصفقات 18 مليون دولار في شكل «مساعدة» جديدة لدعم القدرات البحرية لفيتنام، و11 مليار دولار من أجل طائرات بوينغ، ومشروع طاقة الرياح الذي بلغت قيمته 94 مليون دولار بين شركتي جنرال إلكتريك وكونغ لي، وتمويل برنامج «فولبرايت» لتدريس الاقتصاد، ناهيك عن تغيير التأشيرات الرامية إلى تيسير إقامة روابط تجارية قصيرة الأجل بين الدولتين.
الاتجاه ليس محسوماً
هذا لا يعني إن «زواج مصلحة» قد جرى بين البلدين فحسب، بل هي خطوة من شأنها أن تفتح فصلاً جديداً في العلاقات بين فيتنام والولايات المتحدة منذ ما بعد الحرب الباردة. وتظهر استطلاعات للرأي بأن الفيتناميين باتوا يلمسون أن انقلاباً في العلاقات يجري اليوم بين البلدين، غير أن حالة من الشك لا تزال قائمة في أوساطهم.
ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى هذا التقدم بوصفه «أمراً مفروغاً منه»، حيث إنه يتطلب قدراً كبيراً من الوقت والجهد قبل أن يتمكن البلدان من القول بأنهما متجهان إلى مرحلة التحالف المشترك على أرضية موثوقة حول المسائل السياسية المتعلقة بالدول المطلة على البحر الهادئ. وهنا، لا بد من القول بأن هانوي ذاتها لم تحسم أمرها بعد، فإن مضت في تحالف مع واشنطن، فمن شأن ذلك أن يتركها معزولة (مجدداً) في آسيا، فيما تنفتح آفاق التطور الاقتصادي والسياسي والعسكري لفيتنام في حال وجدت نفسها داخلة في تحالفٍ مع القوى الصاعدة عالمياً، كروسيا والصين.