زمن «جنوداً لم تروها» أيها العميان!
منذ أن تعسكر المشهد السوري، لم تهدأ حرب الإرادات، و لعبة عض الأصابع، بين أنصار الحل السياسي وخصومه على كل الجبهات، والمواقع، حرب باردة أحياناً، وحامية الوطيس كما هي الآن، أحياناً اخرى.
في البداية كان الأنصار عرضة للتهكم، والتندر على أساس أنهم، رومانسيون وخياليون، و كان كل طرف من أطراف الحرب، يحسبهم على الطرف الآخر، وراح هذا وذاك يملأ الساحة السورية ضجيجاً، عن قرب انتصار خياراته، حسماً واسقاطاً، فيما كان أنصار الحل السياسي ودعاته، وبما تيسر لهم من إطلالات ومنابر إعلامية، يؤكدون وبمزيد من الثقة، أن الكل آت الى «دار الحق»، إلى الحل السياسي، طواعية، أو بالتي هي أحسن..!
لم يكن بين يدي «الأنصار» الأجلاء، سلاحاً، ولم تكُ خلفهم جيوشاً، ولم تفتح لهم أرصدة في البنوك، ولم يتوسلوا ملكاً، أو أميراً أو دولةً، كل ما كان في جعبتهم أداة معرفية مكّنتهم من معرفة ما يجري في الخضم العالمي، في وقت كان الجهل يضرب أطنابه عند آخرين، وإحساساً بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية، عندما افتقد آخرون الحس والدم والضمير رغم هول ما يحدث، كانت لديهم إرادة لم تنل منها الإغراءات، والتهديدات، في حين ارتضى الآخرون بدور الكومبارس، أو التبّع.
الزمن يمر، و ما الزمن إلا دمٌ في حلبة الثيران السورية، ليس إلا دماراً، ونزوحاً وخراباً، و لكنه أيضاً، زمن «جنوداً لم تروها» زمن التوازنات الجديدة، زمن استانا، والبيان الثلاثي، وموسكو، ومن ثم جنيف...فتراجع الكل عن مواقفه، وبات الكل بحاجة إلى سلم لينزل من شجرة العنتريات التي لم تعد تجدي، و«كلام زمن الحرب، يكاد التوازن الدولي أن يمحيه»، فمن كان يضع شروطاً مسبقة ترك شروطه في الرياض، وقرر أن يذهب دونها، واستعجل المنسحبون من الجولات السابقة تشكيل وفد ممسوخ، و حاولوا أن يقرروا نيابة عن الآخرين، وحتى من كان يرى في من يخالفه من عباد الله «إرهابيين»، بات يسميهم جماعات مسلحة...الحل السياسي هو الحل الوحيد إذاً؟.. أهلا بكم في ديارنا..!
ساذج من يظن، بأن الطريق إلى الحل السياسي لأزمة تشابكت فيها كل التناقضات الدولية والاقليمية والداخلية معاً، سيكون دون تعرجات، لاسيما وأن عقوداً من سيادة المنطق الأعرج في العلاقات الدولية، والاستفراد الامريكي، قد انتهت للتو، وبعض القوم «لم يهدِهم الله بعد» ولا يصدقوا بأن الزمن الأمريكي انتهى، وما زال هناك من يحاول أن تستمر الحرب، متكئاً على تصريح استعراضي لهذا المسؤول الأمريكي أو ذاك، سرعان ما يصرح مسؤول آخر عكسه في اليوم التالي، أو بالاستناد الى وعودٍ في الغرف المغلفة من زعران الاستخبارات الإقليمية، و أنه ما زال هناك من يتوهم بأن البترودولار يمكن أن ينصّب يهوذا «قاضياً أول» في محكمة فَتَلة المسيح، وأنه يمكن لموظف في أروقة «الأمم المتفرقة» أن يبعد أنصار الحل السياسي الحقيقيين، وروّاده، والمبشرين به، عن طاولة المفاوضات.
رغم أنه تم تلقين دي مستورا درساً من المفروض ألا ينساه، و تم تصحيح ما يمكن تصحيحه فيما تبقى من الوقت، بما يتعلق بتشكيل وفد المعارضة، لكنه، لا يمكن أن نجزم بما الذي سيجري في مضارب دي مستورا في اللحظة الأخيرة، فيما يخص آليات اجتماع جنيف، وخصوصاً بعد افتضاح عملية تحويل الدم السوري إلى سلعة للارتزاق قابلة للبيع والشراء في مكاتب الامم المتحدة، رغم انكفاء الارتزاق الدولي والاقليمي الذي دام ست سنوات، ولكن يمكن التأكيد، وبالثقة إياها، التي كانت تؤكد بأن مفاوضات جنيف ستسأنف، وصدقت، وكذّبت الجميع، وبأن مناورات دي مستورا وفريقه في تشكيل الوفد لن تمر، وكان ذلك، بالثقة تلك، ومرة أخرى نقول، جازمين: بأن محاولة تعطيل هذه الجولة من المفاوضات بهذه الطريقة، وإبقاء «اليد العليا لهيئة الرياض» في الوفد، سيطيح بدور دول، وقوى، وشخصيات، ويحيلهم إلى التقاعد السياسي في ملف الأزمة السورية، طواعية، أو بالتي هي أحسن مرة اخرى، «فكلما عرقلوا خسروا» وسيبقى الحل السياسي، يشق طريقه في حقل الألغام الممتد من واشنطن، وبقايا قوى الحرب، ومروراً بأنقرة والرياض وقطر وليس انتهاء برصيد دي مستورا البنكي.. أنه زمن «جنوداً لم تروها» أيها العميان!