قراءة في خلفيات الافتراق السعودي الأميركي

قراءة في خلفيات الافتراق السعودي الأميركي

بعد رعايتها قوى الثورة المضادة واندلاع “الربيع العربي” سارعت السعودية الى سحب “800 مليار دولار” دفعة واحدة من المصارف الاميركية، في نهاية شهر آذار 2011، من مجموع تراكم ثروة بلغ 3500 مليار دولار لحسابها في اميركا، جلبت لها متاعب سياسية مؤقتة لما شكلته من تداعيات على الاقتصاد الاميركي ادت الى هبوط قيمة الاسهم الاميركية.

في المقابل، كشفت المصادر الاميركية مؤخرا عن وجود قاعدة عسكرية “سرية” في الاراضي السعودية بمحاذاة الاراضي اليمنية، التي ينتهكها الطرفين المذكورين حيثما شاءا، مما يدل على حقيقة العلاقات الثنائية القائمة مع السعودية، حاضرا ومستقبلا، كمرتكز اساسي في بسط السياسة والهيمنة الاميركية ليس في المنطقة فحسب، بل في مناطق اخرى من العالم كما دل الدعم “السعودي” لقوات الكونترا المضادة في نيكاراغوا.

استندت بوصلة السياسة السعودية منذ عدة عقود الى “مبدأين”: الولايات المتحدة هي قوة عظمى باستطاعتها توفير الحماية للعائلة الحاكمة؛ وان الولايات المتحدة تعتمد على تدفق النفط الى اسواقها من الجزيرة العربية. واستمر العمل بالاستناد الى هذه الثنائية بنجاح نظرا لتقاطع مصالح الطرفين، اذ راعت الولايات المتحدة بعض المصالح السعودية في سياستها الشرق اوسطية وحوض الخليج العربي ومناطق اخرى، سيما وانها كانت تصب في خدمة المصالح الاميركية العليا مما يستدعي توفير الحماية لها عند الحاجة.

ينشأ تعارض بين مصالح الاطراف المعنية احيانا نظرا لتغير الظروف والقوى اللاعبة، سيما وان المنطقة العربية لم تشهد وضعا من عدم الاستقرار طيلة القرن المنصرم كما هي عليه راهنا. وتيرة الحراك الشعبي في البلدان العربية مقرونة بالتطرف والارهاب العابر للحدود الاقليمية يهددان استقرار عدد من دول المنطقة. كما ان جهود ايران تقترب من انجاز هدفها بالحصول على قنبلة نووية لو ارادت ذلك. السياسة الاميركية، بالمجمل، يشوبها التخبط والفوضى كافضل تعبير عن انكفاء قوتها التي بشرت بها كقطب احادي على مستوى الكون. كما تجدر الاشارة في هذا السياق الى بروز عوامل الوهن والاعياء على القوات العسكرية الاميركية والتي، امتدادا، لم تعد على ذات الهيبة والمكانة السابقة التي روجت لها طويلا.

نظرا لجملة العوامل المذكورة، والتغيرات التي تفرض نفسها بسرعة اكبر مما قد يتم التحكم بها عن بعد، سيما وان الجيل الاول في العائلة المالكة السعودية قد شارف على الانقراض، فان القوى الصاعدة من الجيل الثاني رأت لزاما عليها تحسس طريقها الخاص في ترتيب سياساتها الخارجية بأشكال وتجليات لم تعهدها من قبل. وعليه، ينبغي الخوض في مسببات الظاهرة المتجددة وما تعنيه من انعكاسات وتداعيات على تحركات “السياسة السعودية” المقبلة في الاقليم بشكل خاص.


بروز اميركا كمنتج عملاق للطاقة


شكل اعتماد الولايات المتحدة على تدفق النفط “السعودي” احد مرتكزات ثوابتها السياسية، وحفزها لانشاء “قوات خاصة للتدخل السريع،” في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي لتوفير الحماية العسكرية للتحكم بمصادر وتسويق الطاقة. ونظرا لطبيعة حجم اقتصادها الضخم وافراط اعتماده على الحركة الدائمة ووسائل النقل الخاصة، لم يكن بوسعها توسيع هامش التنقيب واستخراج النفط من عمق خزان اراضيها ليواكب وتيرة تنامي الاستهلاك، على الرغم من تعدادها كاحد المنتجين الرئيسيين لمصادر الطاقة في العالم؛ النفط السعودي كان اقل كلفة وربما تم استغلال انتاجه لاقصى مستوى ممكن كي تتجه اميركا لاحقا للتحكم مجددا بالاسواق العالمية استنادا الى مخزونها الهائل من موارد الطاقة.

شكلت هذه الخلفية عاملا اساسيا محركا لتوفير اميركا الحماية لآبار النفط “السعودية” لضمان الولاء، بل تبعية السعودية لتحقيق مصالحها. في هذا الاطار، يمكننا رؤية تحرك ادارة الرئيس اوباما سياسيا بشكل حثيث في ملفات المنطقة كتعبير عن التعويض لتراجع النفوذ الاميركي، دشنته في رعايتها “لاستئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية واسرائيل.”

العامل الآخر في تباين المصالح السعودية والاميركية هو ما توصلت اليه تقنية استخراج النفط بالتفتيت الصخري من تطور والافاق الواعدة لزيادة انتاج اميركا من النفط، معطوفة على زيادة الانتاج في ابار النفط التقليدية، لا سيما في ولاية تكساس، مما يضع الولايات المتحدة في مرتبة جديدة لتبوأ موقع احد المصدرين الكبار للطاقة على المستوى العالمي.

من اليقين ان تلك التطورات ستترك تداعياتها على عموم دول مجلس التعاون الخليجي التي تهاونت مجتمعة بتبديد ثرواتها الطبيعية بسرعة قياسية. وقد سجلت بيانات الاستيراد الاميركي من النفط تراجعا ملحوظا لشهري كانون الثاني وشباط من السنة الجارية، اذ استوردت من الدول الخليجية معدلات اقل مما كانت عليه العلاقة على امتداد 20 سنة مضت. وقد تنبأت وكالة الطاقة الدولية، في شهر تشرين الثاني 2012، ان انتاج الولايات المتحدة من النفط سيفوق معدلات انتاج الدول الخليجية مجتمعة كاكبر منتج للنفط مع حلول عام 2020. ونتيجة لتعزيز قدرة الولايات المتحدة الانتاجية لصناعاتها النفطية “الغير تقليدية،” من المتوقع ان تتربع اميركا على مركز الصدارة في انتاج النفط لسنوات خمس مقبلة.

على هذه الخلفية، لا ينظر لدول الخليج النفطية ان تلعب دورا مؤثرا او قويا في المدى الابعد. اذ اوضحت وكالة الطاقة الدولية ان واردات الولايات المتحدة من نفط الشرق الاوسط ستتراجع من معدل 1.9 مليون برميل يوميا، عام 2011، الى ما لا يتعدى 100،000 برميل يوميا عام 2035 – اي ما يشكل نحو 3% من مجموع استيرادها النفطي.

وعليه، تتطلع العائلة السعودية الى البحث عن زبون وحليف دائم على المدى البعيد، والذي تشير التقديرات الراهنة ان الصين يمكنها ان تلعب هذا الدور، سيما وانها تعد لاعب اساسي حاليا في مجال استخراج النفط في العراق وايران. وبالنظر الى تزايد معدلات شهيتها النفطية لتلبية تنامي احتياجات اقتصادها ينبغي على الصين البحث عن مصادر اخرى، مما يضع الآبار “السعودية” تحت انظارها.

عانت الصين من عوارض الازمة الايرانية فيما يتعلق بعقود النفط، اذ علقت ايران العقود المبرمة مع الصين لتطوير حقل بارس الشمالي للغاز، عام 2011، بحجة عدم احراز تقدم، مما حدى بالصين الى سحب اطقم خبرائها الخاصة بتطوير المرحلة الحادية عشرة (11) من حقل بارس الجنوبي، الذي يعد من اكبر حقول مخزون الغاز الطبيعي في العالم (وفق احصائيات عام 2012)، عقب تهديد ايران بالغاء العقد المبرم نظرا لعدم احراز تقدم. كما ان صناعة النفط الصينية تخلفت عن اتمام الجدول الزمني لتطوير حقلي ازاديغان ويادافارن النفطيين. فضلا عن ان اجراءات العقوبات الاقتصادية التي تعاني منها ايران تركت آثارا بينة ادت الى تراجع قدرة الشركات النفطية الصينية توفير المعدات والتقنيات الضرورية لادارة اعمالها في ايران، اضافة لعدم رضاها عن شروط العقود المبرمة، وعدم تيقنها من مستقبل برنامج ايران النووي والذي قد يؤدي الى اندلاع مواجهات عسكرية، بالاضافة الى توجيهات القيادات الصينية العليا بابطاء وتيرة التقدم هناك.

الوضع داخل “السعودية” يختلف جذريا عما هو في ايران، اذ توفر الاولى للصين حقولا انتاجية وفيرة مقابل توفير الصين دعم عسكري محدود للسعودية، على الرغم من ان التقنية الصينية ليست بذات الكفاءة العسكرية مقارنة مع نظيرتها الاميركية. واستطاعت الصين بيع السعودية عددا من الصواريخ الباليستية، التي كشفت النقاب عنها الصحافة الاميركية قبل وقت قريب، علاوة على العلاقات الطيبة التي تربط الصين بايران مما يوفر الفرصة للسعودية، ولو نظريا، لممارسة نفوذ ما على السياسة الصينية نحو ايران، كما سعت لتحقيقه مع الولايات المتحدة في الملف عينه.


تطويق فشل السياسة الخارجية الاميركية


في الظروف الدولية الاعتيادية يبرز استبدال زبون “نفطي” بآخر كأمر لا يثير قدرا من الجدل، الا ان المأزق “السعودي” في مبادلة موقع اميركا بالصين، نفطيا، ينطوي على تعقيدات جمة بالنظر الى طبيعة القوة العسكرية الصينية التي لا توازي مثيلتها الاميركية في توفير، او الرغبة لتوفير، قدر حماية شامل لقطاع النفط السعودي. وما يفاقم الازمة ايضا عامل تفكك السياسة الخارجية الاميركية في عهد الرئيس اوباما مما ادى لبلورة عدة نقاط ملتهبة في الاقليم، يتعين على “السعودية” التعامل المباشر معها عوضا عن ايلاء الأمر في عهدة الولايات المتحدة كما كان يجري دوما.

من بين القضايا والملفات والتحديات البارزة نشأت الازمة المصرية وحالة عدم الاستقرار في اكبر دولة عربية، عسكريا وبشريا وحضاريا، بجوار “السعودية،” التي ترعى ظواهر بروز التطرف الاسلامي برمتها منذ اعتلاء الثورة الايرانية سدة الحكم، 1979، وعدم الرغبة في استيلادها في ساحات اخرى لما تشكله من تهديد وجودي على كيانها.

من ناقل القول ان سياسة الرئيس اوباما نحو مصر اتسمت بالتقلب وعدم انتظام مسارها: اذ “قبلت” التخلي عن عمادها الاساسي في شخص الرئيس المخلوع، حسني مبارك، وحافظت على دعم وتوطيد حكم جماعة الاخوان المسلمين، الأمر الذي دفع الادارة الى توجيه نقدٍ قاسٍ للقوات العسكرية المصرية ووزير دفاعها اللواء عبد الفتاح السيسي، مع ملاحظة عدم انقطاع سيل الدعم الاجنبي بالكامل. لم يكن بوسع اوباما الا الاعلان عن تعليق المناورات العسكرية المشتركة المقررة مع القوات المصرية، والتلويح بتعليق مؤقت لبرنامح المساعدات الاميركية للقوات المسلحة المصرية. بيد ان اتخاذ مسار او اجراء اكثر وضوحا مما تقدم لا يلوح في الافق، الامر الذي وفر قدرا من الاطمئنان لجماعة الاخوان بان عودتهم للسلطة لا تزال واردة وبقاء التعويل على استمرار دعم ادارة الرئيس اوباما لهم. وهذا العامل بالذات هو ما ادى الى تفاقم الاوضاع مجددا ووقوع مزيد من الضحايا نظرا للمراهنات الخاطئة من الاطراف الموالية للولايات المتحدة.

تعويل البعض على موقف اشد حزما من وزير الخارجية جون كيري لم يؤتِ ثماره، الذي انتظر فترة زمنية طويلة نسبيا، نحو ثلاثة اسابيع، بعد احتجاز الرئيس المعزول محمد مرسي قبل اطلاق تصريحات رسمية تتحايل على تسمية ما جرى بانقلاب وفق رغبات التيارات السياسية المتشددة داخل الحكومة الاميركية. بل اوضح كيري خلال جولته في باكستان ان ما جرى في مصر هو ثمة خطوة “لاستعادة الديموقراطية،” مما اشعل لهيب ردود افعال جماعة الاخوان واضطرار كيري للتراجع بعض الشيء عن توصيفاته السابقة، مطالبا “كافة الاطراف العودة الى طاولة الحوار” مجددا.

الجيل الثاني من العائلة الحاكمة في السعودية توصل الى قناعة مفادها بأن الولايات المتحدة “تمارس دورها القيادي من الخلف،” مما يترتب عليه مبادرة “سعودية” سريعة لحماية مصالحها في مصر وملء الفراغ الناجم عن خروج قطر كممول مالي وداعم سياسي للسلطة الجديدة. بل ذهبت “الزعامة السعودية” الى تحذير الغرب باكمله من مخاطر دعم جماعة الاخوان المسلمين، او السعي لتقويض سيطرة القوات المسلحة على الحكومة الجديدة بزعامة اللواء السيسي. واوضحت ايضا للوضع الجديد في مصر عزمها على توفير الدعم المالي الذي قد تخسره مصر من المساعدات الاميركية.

واستطيبت “السعودية” اخفاق جماعة الاخوان باطلاق وزير خارجيتها سعود الفيصل وصف مصر بانها “الوطن الثاني لنا،” مؤكدا ان عائلته الحاكمة ستعمل كل ما بوسعها للوقوف بوجه اي محاولات اجنبية لنشر عدم الاستقرار في مصر. وقال “فيما يخص اولئك القائلين بوقف دعهمهم لمصر او التهديد بوقفها، فالامة العربية والاسلامية الغنية بمواردها البشرية وقدراتها المادية ستقدم يد العون الى مصر.”

التوجه السعودي نحو مصر، رغم ما ينطوي عليه من مغامرة تبرز تباينه مع توجهات السياسة الاميركية، كما تؤشر على مدى القلق السعودي من تعاظم قوة الاخوان المسلمين في ادارة اهم واكبر دولة عربية. ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن استاذ العلوم السياسية في الجامعة الاميركية بالقاهرة، جمال سلطان، قوله ان التوجه السعودي الجديد “ليس بدواعي التوسع. فالسعوديون يلجأون لمثل تلك الاجراءات بدافع الخوف وليس بدافع الجشع.”

عامل الاستقرار في الاقليم ليس العنصر الوحيد الذي يقلق السياسة السعودية. ففي سورية، تدور حرب شعواء تدعمها السعودية بكل ما تملك من امكانيات ونفوذ اقليمي ضد منظومة حكم تأبى الخضوع للنزوات السعودية.

في سورية ايضا، تتباين المصالح السعودية مع حاميتها الاميركية. اذ تخشى الولايات المتحدة تنامي قدرة القوى الاسلامية المتطرفة لبسط سيطرتها على الاراضي السورية، واستخدامها كمنصة انطلاق لعمليات ارهابية تشن من هناك، تنظر السعودية الى قوى المعارضة كطرف موازٍ للنفوذ الايراني المتصاعد في سورية. في مصر، يلاحظ تنامي التفوذ السعودي مرحليا مقابل تردد وارتباك ادارة الرئيس اوباما في تقديم العون المطلوب لقوى المعارضة السورية ومفاضلة مجموعة على اخرى.

على خلفية هذا المشهد، جنحت السعودية الى تحقيق اهدافها السياسية بذاتها عوضا عن رهن اعتمادها على الولايات المتحدة. وعليه، لا زالت السعودية على قناعة تامة بأن ايران تشكل مصدر التهديد الاكبر لها وليس كيان العدو الصهيوني وتهديده التاريخي للأمة العربية،ارضا وشعوبا ومقدرات.

وتمضي السعودية لتحقيق رؤيتها بتعزيز علاقاتها مع الصين لموازنة النفوذ الايراني، مما يوفر لها مصدرا اضافيا لاسلحة نوعية تشمل الصواريخ الباليستية التي لا تسمح لها الولايات المتحدة باقتنائها. كما من شأن توجهها نحو الصين، كما تعتقد، تخفيف حوافز الاخيرة لبيع اسلحتها لايران وخشيتها من تداعيات اقفال مضيق هرمز امام الملاحة الدولية على متطلباتها الاقتصادية. وامتدادا، من شأن ذاك السياق دفع توجه الصين نحو الاستقرار في اوضاع الخليج بدل الالتفات لدعم ايران بشكل حصري.

هاجس “الخطر الايراني” يشكل بوصلة توجه السياسات السعودية ايضا نحو الدولة السورية ومنظومة الحكم هناك، لاعتقادها ان مصالح العائلة السعودية المالكة في سورية ستكون في منأى عن التهديد في ظل حكومة موالية للسعودية بدلا من منظومة وطنية وقومية عقائدية.

وفي ذات السياق، يرى الجيل الصاعد للحكم في السعودية ان مصالحه في مصر ستكون في مأمن تحت حكم تسيطر عليه القوات المسلحة بدلا من نظام ينادي بالخلافة الاسلامية مركزها تركيا العثمانية.

الحكم او الجزم على احقية السياسة السعودية “الجديدة” سابق لاوانه، سيما وان معالمها لم تكتمل بعد، وخاصة لعدم استقرار مركز وهوية الملك القادم بعد العاهل الراهن، عبد الله بن عبد العزيز، وتحديد الهيئات ومراكز القوى الداعمة له. مع كل تلك العوامل، ينبغي الاقرار باننا نشهد نوعا من التحول في بعض تطبيقات السياسة الخارجية السعودية للابتعاد بعض الشيء عن السياسة الاميركية في المنطقة، سيما وهي تترنح امام بروز اقطاب دولية اخرى هامة، تزاحمها على قيادة عالم متعدد الاقطاب.



المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي