الطور السياسي- الاجتماعي من الأزمة الأوروبية: النموذج الإيطالي
في عملية متناغمة مع التطورات التي تشهدها الساحة الأوروبية، دعا رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينزي، إلى استفتاء شعبي حول مجموعة من «الإصلاحات» السياسية التشريعية التي تضمن تقليص سلطة التشريع في مجلس الشيوخ، وهو المجلس التشريعي الثاني في إيطاليا بعد مجلس النواب، لمصلحة تعزيز السلطة التنفيذية.
إن الهدف المعلن والواضح من الاستفتاء الإيطالي المذكور، الذي من شأنه أن يوطد صلاحيات رئيس الوزراء، هو فتح الطريق للقيام ببعض الإجراءات الاقتصادية، المستعجلة من وجهة نظر الحكومة الإيطالية، بعيداً عن «التعطيل» الذي يمارسه كل من مجلسي النواب والشيوخ، في إطار المحاولات لإصدار مشاريع قرارات تتعلق ببعض الإجراءات الاقتصادية السياسية، كمسألة «التقشف» وتخفيض سقف الدين.
الاستفتاء على السلطة التقليدية ومدى شعبيتها
قالت مراكز استطلاع إيطالية: أن نسبة كبيرة من الإيطاليين المستطلعة آراؤهم لم يعلموا مضمون التعديلات الدستورية المطروحة للاستفتاء، وأنهم صوتوا من أجل تقييم الحكومة التي خسرت الاستفتاء، وعلى هذا الأساس، قدم رئيس الحكومة الإيطالية استقالته، ويتوقع أن تجري انتخابات مبكرة في العام 2017.
من المجحف القول، بأن هذا الفشل هو فشل مقتصر على حكومة رينزي، إنما هو فشل للنخبة السياسية الإيطالية التقليدية كلها، التي حكمت البلاد طول السنوات الخمسين الماضية، حتى استنفدت نفسها وشعاراتها. وفي ظل الأزمة الاقتصادية الكبرى، التي بدأت في العام 2008 وفشل السياسات التقليدية بحل نتائج الأزمة، وبسبب ظهور ترامب في الولايات المتحدة الذي يعتبر فوزه عملية فتح لهوامش احتمالية كبرى في السياسات الأمريكية، تاركة بذلك حلفاءها في حيص بيص، يجري الآن على مستوى القارة، وخاصة على مستوى إيطاليا، التحضير من قبل النخب المالية والاقتصادية لتعويم شخصيات وأحزاب من خارج الأطر التقليدية الإيطالية.
وهنا، يجري الحديث عن زعيم «حزب النجوم الخمسة»، الكوميدي الإيطالي الشهير، بيبي غوريللو، الذي تقول استطلاعات الرأي: أنه يستطيع الفوز بسهولة بالانتخابات الرئاسية القادمة، وتهدف هذه العملية إلى تحميل الناس مسؤولية الفشل الاقتصادي، والتهرب من استحقاقات إخراج الناس من مستنقع الديون، التي تشكل في إيطاليا 135% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من تريليوني دولار أمريكي.
لذلك فإن عملية الاستفتاء، ومحاولة تغيير الوضع السياسي الداخلي، ترمي فعلياً إلى إيصال تلك القوى السياسية القادرة على امتصاص سأم الناس من السياسات الفاشلة المتراكمة على مدار عقود، وهي القوى ذاتها التي تحمل تصورات استراتيجية لا تصب إطلاقاً في مصلحة «وحدة البيت الأوروبي» بصيغته المتمثلة بالاتحاد الأوروبي- اتحاد النخب الحاكمة.
«يمين متطرف»؟؟!
تصدرت الصحف الغربية المتشائمة مجموعة من مانشيتات الأخبار حول الاستفتاء. البعض رأى: أن «إيطاليا تستفتي على الخروج من الاتحاد الأوروبي»، وآخرون قالوا أن «اليمين الشعبوي المتطرف يتصدر استطلاعات الرأي في إيطاليا»، وطبعاً غالباً ما تأتي هذه المقالات بوصفات تحذيرية من خطورة وصول هؤلاء إلى السلطة.
لكن السؤال المطروح: هل بالفعل أن هؤلاء يشكلون خطراً يزيد عن الخطر الذي تمثله الأحزاب الحاكمة الآن؟ من يسمع وسائل الإعلام الأوروبية اليوم، يخيّل إليه كما لو أن أحزاب اليسار الماركسي اللينيني الفعلي تمسك اليوم بزمام الأمور، وأن هناك موجة يمينية تريد إزاحتها من المشهد. إلا أن نظرة عن كثب، تدفعنا إلى القول: أن أحزاب السلطة الإيطالية، بمعزل عن أوصاف «اليمين واليسار» المجانية، هي أحزاب يمينية بالمعنى السياسي الاقتصادي، وهي التي تمثل خطراً حقيقياً على المجتمعات الأوروبية.
الاستفتاء لا يعني خروج إيطاليا من الاتحاد الأوربي، بل تعديل في تكتيك القوى المالية والاقتصادية الإيطالية والعالمية، حيث أن عملية خروج إيطاليا من الاتحاد الأوربي هي عملية معقدة، ولا تشبه الخروج البريطاني، الأقل ارتباطاً ودمجاً بالاتحاد الأوروبي، ولأن إيطاليا مرتبطة بديونها بهذا الاتحاد، فإنها لن تخرج منه، إلا عندما تكون موازين القوى العالمية تسمح لروما أن تقلب الطاولة على اتحاد النخب الأوروبية.