أجراس الإنذار التي تدق
الأزمات المتواترة تشي بأن هناك شيئاً غامضاً وخطيراً يلوح في الأفق.
لا أحد يعرف ما هو بالضبط، ولا ما حدوده، ولا متى أو كيف، ولا ما بعده.
في الغموض خطر محدق ينال من أي مستقبل وفي الإنكار مشروع انهيار لا سبيل إلى منعه.
الاعتراف بالأزمة العامة أول اشتراطات مواجهتها والكف عن التبرير من ضرورات رفع منسوب الثقة العامة.
بعض الكلام الإعلامي يعزي الأزمات إلى «مؤامرات» دون أن يكون مهيأ لأي اقتراب من مسؤولية السياسات عن الإخفاق، كما ينسبها إلى الشعب نفسه الذي لا يعمل ولا ينتج ولا يكف عن إبداء المطالب، وتلك دعوة مفتوحة لتمدد الكراهية بغير سقف.
وبعض الكلام الأمني يرجع الأزمات إلى جماعة الإخوان وخلاياها المتخصصة في خلق «مناخ تشاؤمي»، وذلك يضفي على الجماعة قوة ليست لها ويعطل أية فرصة لتدارك الأخطار قبل انفجارها.
وبعض الكلام الرئاسي يحتاج إلى نقاش جدي، فهو يطلب رفع منسوب الأمل دون أن يدخل إلى صلب الأزمة وأسبابها.
إذا لم تكن هناك مراجعة وإعادة فحص للمشروعات والسياسات فإن الأزمة سوف تتمدد إلى نهاياتها المحتمة.
في حديثه الأخير صرح الرئيس بأن الجيش يستطيع الانتشار خلال (٦) ساعات في مصر كلها.
التصريح بنصه وسياقه فيه استشعار أن شيئاً غامضاً وخطيراً قد يحدث بأي وقت.
لا يصعب استنتاج أنه إنذار مقصود لمن يفكر في توظيف أية اضطرابات اجتماعية محتملة للنيل من نظام الحكم الحالي، وأن الدولة سوف تستخدم الحد الأقصى من القوة للحفاظ على الاستقرار.
بنص عبارته: «محدش يفتكر إننا هنسيبها ونسمح إنها تضيع منا ونضيع الناس».
كل حرف له معنى وقابل للتأويل على أي نحو.
المعنى العام أنه يدرك عمق الأزمة وما قد تفضى إليه من تداعيات وعواقب دون تكون هناك مصدات اجتماعية وسياسية تحمي البلد من الانزلاق إلى فوضى لا يعرف أحد ما تنتهى إليه.
التهوين، كالمبالغة، يفضي إلى استنتاجات خاطئة، فهناك خطر حقيقي على الدولة إذا ما سادتها الفوضى، وسيناريوهات ما جرى فى بلدان عربية أخرى غير مستبعدة رغم صعوبته الشديدة بالنظر إلى طبيعة المجتمع المصري.
في التهوين استخفاف بالأخطار حيث هي غير مستبعدة، وفي المبالغة تبرير لأي إخفاق بإدارة الدولة، كأن كل نقد مؤامرة عليها.
بكل احترام أرجو ألا يعود الرئيس مرة أخرى إلى الحديث عن تدخل الجيش لضبط الأمور من أن تفلت.
من واجبات الجيش أن يكون مستعداً وجاهزاً لأية احتمالات خطرة تمس سلامة البلاد، ومثل هذه الخطط موجودة دوما وتحظى بالسرية المعهودة.
الحديث نفسه يفضي إلى عكس ما طلب تماماً، فهو يومئ إلى قلق بالغ بدوائر السلطة العليا من انقضاض محتمل لاختصار مدة الرئاسة الحالية.
في القلق البادي تتولد رسالة عكسية أن الأمور سائلة والاحتمالات مفتوحة، كما أنه لا يساعد على إضفاء أية ثقة فى قدرة الاقتصاد المصرى على تجاوز أزماته.
الاستقرار من أولى ضرورات الثقة، والكلام الرئاسي عن فوضى قد تحدث قريباً تستدعي نزول الجيش مجدداً يضرب دون ضرورة في بيئة الاستثمار وقدرتها على الجذب.
حاول كل من حكم مصر تجنب نزول الجيش، ففى كل نزول تغير التاريخ، كما حدث إثر حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) من إطاحة النظام الملكي كله فى (٢٣) يوليو.
وقد أفضى نزولان آخران في يناير (١٩٧٧) وفبراير (١٩٨٦) لضبط الشوارع بعد انتفاضة الخبز وتمرد الأمن المركزي على التوالي إلى تغييرات جوهرية ألقت ظلالها على ما بعدها.
في نزولين جديدين أثناء ثورتى «يناير» و«يونيو» تغيرت حركة القوى وموازينها بصورة جذرية.
قبل ثورة «يناير» دعا رئيس المخابرات الحربية في ذلك الوقت اللواء «عبدالفتاح السيسي» القائد العام المشير «محمد حسين طنطاوي» إلى وضع خطة لتدخل الجيش إذا ما مرر سيناريو «التوريث» ونشأت فوضى عارمة فى الميادين والشوارع.
كل ذلك طبيعي ومفهوم، غير أن التلويح بمثل هذه الخطط قضية أخرى تستحق المراجعة والتوقف.
إذا كان هناك خطر حقيقى يلوح بالأفق فالأولى الاعتراف بالأزمة وأسبابها والعمل على تصحيحها وبناء توافقات وطنية واسعة بالحوار والإقناع لا بالإقصاء والتخويف.
لا يمكن إنكار تراجع مستويات الأداء العام على نحو مذرٍ.. ولا يستبعد أن تدفع الحكومة الحالية فواتير الإخفاق بأقرب وقت ممكن، فكالعادة هناك أكباش فداء.
قبل تغيير الحكومات الحاجة ماسة إلى مراجعة السياسات والأولويات وجدوى بعض المشروعات.
هناك فارق جوهري بين التطرق إلى الأزمات من عند حوافها وبين الدخول إلى صلبها.
في مأساة رشيد بدا أن هناك من لا يريد مواجهة الحقيقة وارتفعت نبرة لوم الضحايا وانتظرت الدولة ثلاثة أيام قبل أن تعزى فيهم.
لم يكن هناك من هو مستعد للاعتراف بطبيعة المأساة من حيث إنها هروب من أحوال تتردى وفقر يخيم بحثاً عن فرصة حياة كريمة على الجانب الآخر من شواطئ المتوسط.
المقامرة بالحياة يأس من الحاضر.
هذه حقيقة اجتماعية مرشحة للتمدد بصياغات أخرى، من بينها ضخ أنصار جدد فى شرايين جماعات الإرهاب.
إن إصدار قانون «الهجرة غير الشرعية» له ضروراته فى التحكم بالظاهرة وحساب الذين يتاجرون فيها، لكنه لا يمنع تكرار مثل هذه المآسي ولا يصل إلى صلبها الاجتماعى.
الأنين الاجتماعي له الصدارة في كل ما يجرى الآن من اتساع دوائر الغضب العام.
وقد كان الكلام الرئاسي عن «الفكة» مثيراً للتساؤلات، فالأخذ من تحويلات المواطنين وحساباتهم في البنوك ضريبة، ولا ضريبة بغير قانون، حتى إذا ما صدر قانون فإنه غير دستورى، فضلاً عن أن الكلام يسحب من رصيد أي رهان على الإصلاح الاقتصادي وفق سياسات وآليات لا تبرعات وجبايات.
الأخطر من ذلك أنه يطرح مجدداً قضية عدالة توزيع الأعباء، فالطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقراً يدفعون وحدهم تقريباً كل فواتير الإصلاح الاقتصادي مثل ضريبة «القيمة المضافة» وارتفاعات الأسعار فوق طاقة التحمل دون أدنى استعداد لفرض ضرائب تصاعدية ينص عليها الدستور الحالي وتعرفها الدول الرأسمالية ولا للأخذ بالضريبة على الثروة لمرة واحدة، الذى اقترحه بعد «يونيو» بعض رجال الأعمال.
ًفي غياب قواعد العدالة أشباح اضطرابات شبه محتمة، وسوف يدفع الثمن باهظا.
إذا أردنا تحصيناً لهذا البلد فلابد من فتح المجالين السياسي والإعلامي للحوار العام، ورفع أية مظالم للمعتقلين بغير تحريض على عنف فى السجون المصرية.
الانفتاح السياسي يحصن بينما الانغلاق الأمني يمهد الطرق لما هو غامض وخطير أجراسه تدق فى المكان.
المصدر: صحيفة الشروق المصرية