خروج بريطانيا.. لا شيء شخصياً!
تكثر الآراء والتأويلات والتحليلات المتعلقة بنتائج الاستفتاء البريطاني حول مسألة البقاء في الاتحاد الأوربي أو الخروج منه. فيما يلي تعرض قاسيون مقالاً للكاتب والباحث الروسي ألكسندر دوغين، المعروف بتوجهاته القومية الروسية، وإن كانت قاسيون لا تتفق مع كامل التحليل المقدم إلّا أنها تجد فيه زوايا هامة في قراءة الحدث تساعد في تعزيز فهمه..
ترجمة قاسيون
بداية، فإن مسألة الاستفتاء بحد ذاتها هي مسألة مهمة. الاتحاد الأوروبي وجد دون استشارة الناس ودون أخذ رأيهم، كان إنشاؤه قراراً مدعوماً من واشنطن ومن متعصبين للعولمة من أمثال جورج سوروس. كان هنالك الاتحاد السوفياتي ولذلك فإنّ التكامل الأوروبي كان هدفاً للوقوف في وجه دولتنا (روسيا) وبلدان أوروبا الشرقية. على كل حال فقد انهار الاتحاد السوفياتي بأسرع مما كان متوقعاً، والاتحاد الأوروبي كان ينبغي عليه بالتالي أن يكتمل ضمن شروط مختلفة كلياً عن تلك التي وجد على أساسها بداية.
في أوائل التسعينات، كان نشوء اتحاد أوروبي أمراً قد يدعو الأمريكان للدهشة والاستغراب. فبعدم وجود أعداء في الشرق فإنّ النخب الوطنية الفرنسية والألمانية كانت تستهدف إنشاء نظامها الأمني المستقل، جيشها الخاص، هيكلها الأوروبي، مع رؤيةٍ هدفها الخروج من تحت تحكم الناتو، وعلى الأقل من تحت تحكم الولايات المتحدة. منطقياً، ومنذ حلّت موسكو حلف وارسو، فإن الوقت كان قد حان لحل حلف الناتو أيضاً. وكانت أوروبا مرشحة للتحول إلى لاعب جيوسياسي مستقل، حتى وإن كان هذا اللاعب غير موال لروسيا فإنه على الأقل وبشكل واضح غير موال لواشنطن.
حينها دخلت بريطانيا الحلبة بوصفها شريك الولايات المتحدة الأساسي في العالم القديم. وأمريكا نفسها كانت يوماً ما مستعمرة بريطانية، ولكن في القرن العشرين، كانت القواعد قد تغيرت.. والآن ووفقاً للمصطلحات السياسية والاستراتيجية، فإن بريطانيا قد غدت تابع واشنطن الذليل، تلك هي الحقائق القاسية للجيوسياسة. مركز الناتو قد انزاح نحو الغرب أكثر كثيراً من السابق. لذلك انتقدت بريطانيا جميع الاقتراحات الفرنسية والألمانية لتشكيل أوروبا حقيقية، أوروبا أوروبية، وليس أمريكية أو أطلسية. وقد أدت بريطانيا هذا الدور بشكل ممتاز، فهي لم تعرقل العمل الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، ولكن حيثما أظهرت قوى أوروبية أن موقفها/موقعها يمكن أن يكون مختلفاً عن أمريكا، سارعت بريطانيا لإنقاذ واشنطن، دورهم التابع والذليل دفعهم للقيام بذلك.
كذلك كان الأمر خلال فترة الحرب على العراق، فالبريطانيون لم يكتفوا بالإبقاء على الجنيه دون اليورو بحيث بدوا كأنهم ليسوا جزءاً من الاتحاد، بل وبمجرد ظهور ملامح موقف مختلف للدول الأوروبية، ملامح لموقف أوروبي حقيقي، سرعان ما فعّلت لندن دورها، وفعّلت ذلك غالباً بالوقوف إلى جانب «الأوروبيين الغرباء»، أولئك الذين في دول البلطيق وأوروبا الشرقية الذين سرعان ما بدلوا سيداً بآخر (اتحاد سوفييتي بأمريكا)، والتحقوا بسكة الهجوم على النظام القديم. والأجندة كانت معدة في واشنطن بطبيعة الحال.
الآن قرر البريطانيون المغادرة، ورغم أن الناس لم يتم سؤالهم في البداية، ولكن للحقيقة فإن بريطانيا لم تخسر إلا قليلاً من وجودها في الاتحاد الأوروبي. ولكن هذا الأمر كله (حديث الخسارة والربح الاقتصادي المباشر من الوجود ضمن الاتحاد الأوروبي) مجرد تفاهات. المسألة في مكان آخر. فمن ذا الذي يحتاج إلى أوروبا موحدة بعد الآن؟ الأحزاب المتشككة من الاتحاد الأوربي، اليميني منها واليساري، تصعد تحذيراتها في كل أوروبا، ولذلك فقد غدا من الواضح أن الميل العام هو باتجاه نهاية الاتحاد الأوروبي.
هنالك شيء واحد واضح: نتائج الاستفتاء تعني أن تلك القوى التي أنشأت الاتحاد الأوروبي نفسها، النادي العالمي نفسه، هم أنفسهم الذين يقومون الآن بحله لأغراضهم هم
ولمصلحتهم هم، وذلك لأنهم أصيبوا بالخيبة أو لأنهم يبحثون الآن عن استراتيجية مختلفة. بأي حال فإنّ هذا الأمر سيؤدي وضوحاً إلى فوضى. مثل هذه الفوضى مضى على وجودها وقت طويل في الشرق الأوسط والعالم العربي، ولكن الآن الدور هو على أوروبا، وكل شيء جرى تحضيره لهذه اللحظة. البريطانيون قد يكونون ببساطة من أولئك الذين يلقون بأنفسهم من المركب الغارق، ولكنهم مع ذلك ليسوا بمأمن تماماً، حشود المهاجرين التي تعبر البحر الأبيض المتوسط والقناة الانكليزية، لا تزال تحتاج إلى التعامل معها على جبهتين: في النفق وعبر الماء، وهذا سيعلم البريطانيين درساً.
إذا بقي البريطانيون ضمن الاتحاد الأوروبي، فهذا يعني أن واضعي الاستراتيجية في واشنطن ستظل لديهم مخاوف من قدرة أوروبا على الخروج من تحت السيطرة، وأنّه تحت تأثير أزمة قاتلة يمكن للأوروبيين أن يقبلوا بالتحالف المقترح مع روسيا مثلاً. علاوة على ذلك فروسيا أكدت أنه وأياً كانت الحال فإن عرض الصداقة الموجه للأوروبيين لا يزال قائماً.
الديمقراطية الأوروبية لم تعد أبداً حكماً للشعب، ولكن حكماً للنخبة. ولذلك فالناس لا يقررون شيئاً، هم مجتمع من المتفرجين، وأي ديمقراطية هي فقط غطاء للنخبة، واليوم أصبح هذا الأمر واضحاً للجميع.