المصالحة و«التصور غير العملي»
ما عرفناه عن لقاءات الدوحة، حتى كتابة هذه السطور، أنه تم التوصل بين حركتي (فتح) و(حماس) إلى ما وصف بأنه «تصور عملي لآليات وخطوات لاتفاقيات المصالحة سيتم تداوله والتوافق عليه في المؤسسات القيادية للحركتين وفي إطار الوطن مع الفصائل والشخصيات الوطنية ليأخذ مساره إلى التطبيق العملي على الأرض» (القدس- 9/2/2016).
وكانت الحركتان قد اتفقتا على ألا يتحدث أي منهما في الإعلام عن التفاصيل حتى ينتهيا بشكل كامل، ويصدر عنهما بيان رسمي، وحتى يصدر «البيان الرسمي»، لن نعرف ماذا تحقق بالفعل.
وكانت الحركتان المسؤولتان عن حالة الانقسام الفلسطيني قد قررتا اللقاء للبحث في «سبل تطبيق ما سبق الاتفاق عليه»، وكان الاعتقاد أن البحث سيتناول سبل تطبيق ما تم الاتفاق عليه في «اتفاق الشاطئ» بوصفه آخر الاتفاقات، وها هم يخبروننا غير ذلك، فمن شأن «التصور العملي» أن يوسع إطار البحث، وهو ما يعني أن اتفاقاً ينهي الانقسام صار أبعد مما كان.
معروف للجميع أن المشكلة لن تجد حلها من خلال «النوايا الطيبة»، إن وجدت، المشكلة منذ البداية سياسية، وحلها سياسي، وهذا ما لم تستطع الحركتان التوصل إليه حتى اليوم، ولا يبدو أن «التصور العملي» سيوصل إليه. إن كل الأطراف الفلسطينية تعرف الأضرار التي ألحقها الانقسام بالقضية الوطنية، والحركتان المعنيتان أكثر من يعرف وأكثر من يتحدث عن هذه الأضرار، لكنها معرفة بلا فائدة طالما أنها لم توصلهما إلى الاتفاق الحقيقي الناجز. ومن حق المراقب أن يفهم من الحديث عن «تصور عملي» أن كل التصورات السابقة لم تكن عملية، وهو ما يشف عن مبررات اللقاءات وموجبات «الاتفاقات» السابقة والحالية.
لقد جاء لقاء الدوحة الأخير في ظروف تواجه فيها الحركتان أكثر من مشكلة، داخلية وخارجية. وقد وضعتهما الهبة الشعبية المستمرة منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في مأزق أمام الشعب الذي كشفت الهبة أنه لم يعد يثق بأي منهما. فلا جماعة أوسلو بقي لديهم ما يختبئون وراءه من مزاعم، حتى أصبح همهم مجرد البقاء في السلطة، وخيارهم الوحيد مزيد من التنازلات، ولا جماعة المقاومة أظهرت قدرة على أكثر من الحفاظ على «الوضع القائم» في غزة، مع العجز عن إيجاد حل لأي من مشاكل الناس فيها، وخيارهم الوحيد الاستعداد لحرب جديدة قد لا تحمل معها أية حلول.
والسؤال: هل انطوى «التصور العملي» على جديد؟
من الصعب جداً أن يرد المراقب على هذا السؤال بالإيجاب. ومع أننا لم نعرف التفاصيل بعد، إلا أن ما ذكر يؤكد أنه كغيره من الاتفاقات ينظر للمشكلة «إدارياً»، ويهملها سياسياً، وذلك ما منع التوصل إلى حلها في الماضي، وما زال يمنع حلها اليوم، وسيمنعه في المستقبل، ما دامت الحركتان تتمسكان بمواقفهما وقناعاتهما، و«مصالحهما»، ومنذ اليوم الأول، أي منذ انتخابات 2006، كان هناك من قال، ولا يزال يقول، إنه لا يمكن الاتفاق بين حركتين لكل منهما برنامج سياسي مختلف، وكل منهما تنطلق من موقف إيديولوجي مختلف. وكان هناك من قلل دائماً من أهمية «البرنامج السياسي»، لكن الأحداث والوقائع أثبتت أنه دون الاتفاق على هذا البرنامج لا يمكن السير معا خطوة واحدة.
لنراجع بسرعة نقطة واحدة في «البرنامج» الذي يفترض أن تعتمده «حكومة الوحدة الوطنية» التي يقال إنها أول أهداف «التصور العملي». حركة (فتح) دعت إلى اعتماد «برنامج منظمة التحرير الفلسطينية» أساسا لعملها، وتعني برنامج المنظمة بعد التعديلات، أي برنامج «اتفاق أوسلو». حركة (حماس) رفضت هذا الأساس، وترفض «اتفاق أوسلو» وبرنامجه. السلطة الفلسطينية ترى نفسها «الدولة الفلسطينية» ولها وحدها حق «احتكار السلاح»، بمعنى أن فصائل المقاومة كلها في غزة عليها أن تسلم أسلحتها ل«الأمن الوطني» التابع للسلطة، والمنسق مع الأجهزة الأمنية «الإسرائيلية»، هل يمكن أن يتحقق اتفاق في ظل هذه المطالبات المتبادلة ؟ وبصرف النظر عن عشرات الأسئلة التي يفرزها الحديث عن «البرنامج الموحد»، يظل السؤال قائما: ماذا قدم «التصور العملي» للإجابة عن هذه الأسئلة؟
عشية لقاءات الدوحة، دعا الناطق باسم حركة (حماس) حركة (فتح) إلى «وضع آليات حقيقية لتطبيق المصالحة، ودعم الانتفاضة، وحل مشاكل غزة» حتى تؤخذ رغبتها على محمل الجد. «تطبيق المصالحة»، أي تطبيق ما تم الاتفاق عليه في السابق لم يطبق، وماذا تغير اليوم، وهل تضمن «التصور العملي» ما يجعل تطبيقه ممكناً؟ «وضع آليات حقيقية»؟ ما هي هذه الآليات التي لم توضع من قبل؟ ولماذا تضعها (فتح)؟ وهل وضعتها اليوم؟ «دعم الانتفاضة»؟ مواقف السلطة ورئيسها من «الانتفاضة» معروفة، وهي باختصار ضد دعمها، بل هناك من يقول إنها تتآمر عليها وتعمل على إجهاضها، وتصريحات ماجد فرج تكفينا مؤونة الاستطراد، (حماس) كانت اعتبرت دعوة (فتح) لاعتماد «برنامج منظمة التحرير» شروطاً مسبقة. هل هناك ما يدهش إن اعتبرت حركة (فتح) ما تطالب به حركة (حماس) شروطاً مسبقة؟، وإذا كانت الحركتان ترفضان «الشروط المسبقة»، فكيف يتعامل «التصور العملي» مع هذه «الشروط»؟ وإذا كانتا تعتبرهما دليلاً على «عدم الجدية»، ألا يعني ذلك أن كلا الحركتين لا تأخذ كل منهما الأخرى على محمل الجد ؟ وفي هذه الحالة كيف يمكن أن يرى المواطن الفلسطيني ما يقولانه جاداً وجدياً؟.