الهبَّة الشعبية وسؤال إلى أين؟
انقضى الشهر الأول من عمر الهبة الشعبية في فلسطين المحتلة، والحصيلة فيه حسب وزارة الصحة الفلسطينية (72) شهيداً وأكثر من (7200) جريح، عدا عن (1500) من المعتقلين، ممن ألقت قوات الاحتلال القبض عليهم بحجج شتى.
المراقبون «الإسرائيليون»، في ظل الرعب والهلع الذي استولى على المستوطنين، ليس لديهم تقدير إلى متى ستستمر هذه الهبة التي ينظرون إليها كانتفاضة ثالثة، والإجراءات «الإسرائيلية» القمعية في تصاعد على كل الجبهات، من تشديد للعقوبات وتشريع للقتل على الاشتباه، بل ومن دون اشتباه، وإمعان في الحصار ومزيد من الحواجز وتقطيع أوصال المدن والقرى، وفوق ذلك توسيع للمستوطنات ومصادقة على بناء مستوطنات جديدة، وأخيراً شن الأكاذيب والتحريض على الفلسطينيين في الداخل والخارج وفي المحافل الدولية.
في الجانب الفلسطيني؛ حيث الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية على حاله من حيث رفضه لفكرة الانتفاضة، يعاني الارتباك وفقدان الحيلة ما جعله، مع تأكيده على مواقفه المتخاذلة وتمسكه باتفاق أوسلو، وما اشتمل عليه من تنسيق أمني، يحاول أن يظهر كمن يقف إلى جانب الهبّة وشبابها، مختبئاً وراء المطالبة العبثية ب«حماية دولية» للشعب الفلسطيني! يضاف إلى ذلك مواقف مترددة وخجولة تصدر عن بعض الفصائل وبحجج لا تختلف في المضمون عن حجج السلطة! أمّا في الجانب الشعبي، فبالرغم من التأييد والتعاطف وبعض أشكال المشاركة التي يلقاها شباب الهبة من مختلف فئات الشعب، فإن بعض الأصوات بات مختصاً في إثارة الغبار، وما يمكن أن يشوش على الشباب ويؤثر في معنوياتهم، ففي الوقت الذي لم تلحظ هذه الأصوات في الهبة إلّا «نواقصها»، مثل «العفوية وغياب القيادة والمرجعيات»، بشرت بانتهائها من دون نتيجة، بل رأوا أنها ربما تعطي الاحتلال «مبررات» للإقدام على ما لم يقدم عليه بعد!
طبعاً ليس هناك من لا يتمنى لو كانت هناك «قيادة» لهذه الهبة تنظم تحركاتها، وتضع لها برنامجاً لتطويرها والارتقاء بها إلى مستوى «الثورة»، وليس فقط الانتفاضة، لكن ما ذنب هؤلاء الشباب إن كانت «القيادات» قد أوصلتها إلى اليأس منها، وعدم الثقة بها بعد كل السنين التي تولت فيها الأمور؟! لقد نظر الشباب حولهم فلم يجدوا «قيادات» بل وجدوا متسلطين «متعاملين متعاونين مخبرين» عند الاحتلال يسهلون مهماته، ويحفظون أمنه ويلاحقون من يمس جنوده أو مستوطنيه بسوء!
ومنذ الأيام الأولى وبداية الهبة الشبابية، انشغل البعض في «التنظير»: هل هي هبّة شعبية محدودة أم انتفاضة شعبية شاملة؟! وعلى عجل بدأنا نسمع ونقرأ تحليلات وتعليقات في الصحف والفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي على حد سواء، تركيزاً على السؤال الذي يُطرح دائماً في كل وأي مناسبة: إلى أين؟ طبعاً هناك من يطرح السؤال من باب «البروزة والتثاقف» لا أكثر، وهناك من يطرحه ولا ينتظر جواباً، لأنه ينطلق من جواب جاهز لديه يبثه في ثنايا تنظيراته، ومفاده أنْ لا فائدة من كل ما يُجرى، وسينتهي الأمر كما بدأ، وكما انتهى في كل مرة سابقة أكثر من ذلك، فهذا النفر يعلنها صراحة أن ما يقدم عليه الشباب من عمليات طعن يستشهدون بعدها ليست إلاّ «عمليات انتحار»! هذا النفر لا يجب أن يؤخذ في الاعتبار، فغايته معروفه وانحيازه مكشوف، وهو إذ يزعم أنه حريص على الدم الفلسطيني، ويطالب بالاستفادة من دروس الماضي، لن يخدع أحداً! لكن يظل هناك من يطرح السؤال من باب الخوف الحقيقي أن تذهب التضحيات ودماء الشهداء والجرحى في آخر المطاف هدراً ودون طائل. لذلك يحاول أن ينبه إلى ما يعتبره مزالق يجب تجنبها حماية للشباب وهبتهم. ولهؤلاء أقول:
* أولاً، الشباب الذين خرجوا إلى شوارع المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية حاملين الحجر أو السكين أو المفك أو «النقيفة»، خرجوا كرد فعل، ودفاعاً عن كرامة شعبهم التي تُهان على أيدي قوات الاحتلال والمستوطنين في كل يوم على الطرقات والحواجز، بل وفي البيوت وأخيراً في المسجد الأقصى، وكل مكان يتواجدون فيه. بمعنى آخر، لم يكن خروجهم على سبيل «تغيير الجو» أو النزهة، بل أخرجتهم ممارسات الاحتلال وقواته وقطعان مستوطنيه بعد أن طفح الكيل ألف مرة، لذلك لم يخطر ببالهم أن يسألوا أنفسهم: إلى أين؟!
* ثانياً، هؤلاء الشباب لم يدر في خلدهم أنهم بالإقدام على ما يفعلونه سيحررون فلسطين، أو سينهون الاحتلال في الضفة، أو حتى ربما أنهم سيخرجون المستوطنين من القدس الشرقية.
* ثالثاً، وهذا هو الأهم، وبصرف النظر عن أين ستصل الهبة الحالية، فإن لها رسالة واحدة، وعاها الشباب الذين تحملوا عبئها أو لم يعوها، وجلهم تحت العشرين، لابد أن تصل إلى التجمع الصهيوني في فلسطين، قيادات وأحزاب ومستوطنين، وهي: أن الفلسطينيين لن يتنازلوا عن وطنهم أو عن حقوقهم فيه، وأن المحتلين لن ينعموا بالأمان أو الاستقرار، وسيعيشوا «على السيف» كما أخبرهم رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو، وعليهم أن يتيقنوا أن من يعيش على السيف لابد أن يموت به، طال الزمان أو قصر!
هذا هو الدرس الأول والأهم الذي كرسته الهبة الباسلة، سواء ظلت هبة أم تحولت إلى انتفاضة شاملة، وسواء امتدت أشهراً أو انتهت غداً! هذا الدرس هو للصهاينة؛ وعليهم أن يعوه جيداً، وكلما أسرعوا في وعيهم له كلما كان لهم أفضل! وحتماً سيعون..
المصدر: جريدة الخليج