موسكو ـ واشنطن: إلى «ما وراء الأفق»
بين التوترات العسكرية في أوروبا الشرقية، وما تعكسه من إشارات سياسية متصاعدة بين الولايات المتحدة وروسيا منذ أكثر من أربعة أعوام، وما يتخلل ذلك من جوانب التنافس السياسي والاقتصادي والعسكري بين الجانبين، تعيش أوروبا اليوم «هاجساً جديداً» يدفعها نحو حسم خياراتها الاستراتيجية.
عملياً، تنقلب واشنطن اليوم على معاهدة «روسيا- الناتو 1997»، التي تعهَّد فيها حلف شمال الأطلسي بعدم نشر قوات عسكرية كبيرة وواسعة في عموم بلدان أوروبا الشرقية. ويعبِّر هذا الانقلاب عن نفسه في حملة «التسريبات الصحافية» المتكررة لدى الصحافة الأمريكية، والتي تشير إلى عزم البيت الأبيض على نشر أسلحة أمريكية ثقيلة على الحدود الغربية للخصم الروسي.
إثقال أوروبا.. والابتكارات الروسية
في التفاصيل، تؤكد «التسريبات» أن الولايات المتحدة بصدد نشر صواريخ مجنحة وبالستية في أوروبا الشرقية من جهة، وأسلحة نووية في بريطانيا- الحليف «الأقوى» أوروبياً للولايات المتحدة حتى الآن- من جهةٍ أخرى، فضلاً عن نية البنتاغون تزويد أكثر من خمسة آلاف جندي أمريكي موجودين الآن في شرق أوروبا بعددٍ من الدبابات والعربات المصفَّحة ومعدات عسكرية أخرى، بالإضافة إلى العمل على زيادة الوجود العسكري الأمريكي والقواعد العسكرية له في ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، وكذلك بولندا التي أكد وزير دفاعها، توماس شيمونياك، أن بلاده أجرت سلسلة من اللقاءات مع الولايات المتحدة، وعقدت العزم على تكثيف الوجود الأمريكي على أراضيها.
وفي وقتٍ افتتحت فيه الحكومة الروسية منتدى «الجيش 2015» في مدينة كوبينكا (إحدى ضواحي العاصمة موسكو)، بأكثر من 5000 ابتكار عسكري جديد، جاء الرد الروسي على استفزازات واشنطن في الحدود الغربية للبلاد مركباً، ضمن خطين اثنين. فمن جهة، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في افتتاح المنتدى أنه «إذا وضع أحد ما بعض مناطقنا تحت التهديد، فهذا يعني أننا سنوجه قواتنا المسلحة وقوتنا القتالية الحديثة نحو تلك المناطق التي يأتي منها التهديد.. حلف الأطلسي هو القادم إلى حدودنا، ولسنا نحن من تحرك إلى أي مكان». إلا أنه، ومن جهةٍ أخرى، أكد بوتين على أنه لا يرى في الوقت الحالي سبباً لقلقٍ شديد بخصوص تحركات البنتاغون، إذ أنها «مجرد إشارات سياسية موجهة لروسيا» من واشنطن وحلفائها، «أما ما يثير القلق الحقيقي لموسكو فهي منظومة الدرع الصاروخية التي يتم نشرها حالياً» يقول بوتين، قبل أن يعلن «مفاجأة من العيار الثقيل»، بكشفه أن القوات النووية الروسية سوف تحصل في عام 2015 على أكثر من 40 صاروخاً بالستياً جديداً عابراً للقارات، ستكون قادرة على اختراق أية منظومات دفاعية حديثة، في إشارة بالغة الوضوح إلى منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا، وأنه «خلال الأشهر القادمة سيجري الاختبار الحكومي لمنظومة رادار جديد كاشفة لما وراء الأُفق».
شد العصب الأوروبي.. مقابل التراجع
في ظل استحالة قيام حرب عالمية ثالثة، بالشكل التقليدي السابق لها، تجد واشنطن نفسها مضطرة للجوء إلى وسائل الضغط غير التقليدية عبر القارة الأوروبية، بغية منع محاولات التكامل الأوراسي الاستراتيجي الآخذة بالتصاعد. من جهة، يستميت البيت الأبيض لإطالة أمد النزاع الأوكراني، ومن جهةٍ أخرى، يرفع حالة التأهب لدى دول أوروبا الشرقية عبر التلويح بـ «خطر البعبع» الروسي.
من هنا، تبدو موسكو، ومعها حلفاؤها داخل منظومة «بريكس» وخارجها، مدركة لانسداد الأفق التاريخي أمام واشنطن، بما تمثله من حماية لرأس المال المالي العالمي. وتغدو سياستها الرامية إلى إطفاء فتيل النزاعات في بؤر التوتر العالمية، استراتيجية واضحة تهدف إلى دفع الولايات المتحدة نحو «الانهيار في المكان»، من دون أن تدفع شعوب العالم ثمن تراجعها.