بين “المتن” و”الهوامش”
تفكيك أي قضية مستعصية إلى أجزاء، يمكن أن يقود إلى إعادة تركيبها على نحو يسهل الوصول إلى حلها، عندما تتوفر النية الصادقة للحل، لكن التفكيك ذاته يمكن أن يبعد الحل أكثر مما كان، لو كانت النية هي التعقيد والتتويه وتضييع الحل!
والغرض الأخير هو ما كان وراء النية "الإسرائيلية" عندما اعتمدت تجزئة القضية الفلسطينية، تكتيكاً متبعاً في مفاوضاتهم مع الفلسطينيين، قبل أوسلو وبعدها وحتى اللحظة . وإذا كان هذا المنهج في المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية والجانب "الإسرائيلي"، قد خدم الخطط "الإسرائيلية" في الحفاظ على "الوضع القائم" في كل المراحل، وحقق للحكومات "الإسرائيلية" كل أهدافها المرحلية في كسب الوقت لمصادرة الأرض وتوسيع المستوطنات وتهويد المدن وتحقيق الانقسام وإضعاف الموقف الفلسطيني بعامة، ما أبعد الفلسطينيين عن تحقيق بعض أهدافهم الوطنية، فإنه من أعجب العجائب أن يتبع الفلسطينيون المنهج نفسه في التفاوض في ما بينهم كأنهم طرفان أو أطراف متعادية، وليسوا طرفاً واحداً لديه "اختلافات" على الوسائل والأساليب، وليس "خلافات" على الهدف الذي يفترض أنه واحد!
وقد تجلى اتباع هذا المنهج أكثر ما تجلى في موضوع "المصالحة"، وإن كان موجوداً قبل تموز ،2007 عندما سيطرت حماس على قطاع غزة . ولا حاجة إلى القول إن عشر سنوات هي دهر بالنسبة إلى مصالحة "فصيلين" يعرفان أنهما معاً لا يمثلان الشعب الفلسطيني، وإن ادعى كل منهما أنه وحده يمثله . ووصولاً إلى اليوم، تم الإعلان عن "التوافق" بل و"الاتفاق"، وتم تشكيل أكثر من "حكومة توافق ووفاق واتفاق" في هذه السنوات، من دون أن يتحقق لا التوافق ولا الاتفاق! وأي مواطن فلسطيني، وكثير من أولئك المنتمين إلى الفصيلين المتعاديين يشعرون أن المشكلة ليست في وضع لا يمكن التغلب عليه، بقدر ما هي في قيادات تحكمها الأنانية وقصر النظر، ولا تريد أن تنزل عن عروشها المتهاوية .
يوم الأحد الماضي، وصل "وفد كبير" ضم أغلبية وزراء "حكومة الوفاق" من رام الله إلى غزة، في زيارة جديدة للقطاع . وكما حدث في مرة سابقة، كانت خمس تفجيرات قد توزعت في مناطق مدنية، ربما لإلغاء الزيارة أو تأجيلها، لكنها لم تنجح في تحقيق ذلك هذه المرة، ووصل الوزراء إلى غزة . وكان قد أعلن أن الغرض من زيارة الوزراء هو "لقاء نظرائهم في غزة للاطلاع على أوضاع الوزارات والبحث في توحيد العمل المؤسساتي"، كما كتبت صحيفة مقدسية! وظني أن المواطن الفلسطيني لن يفهم شيئاً من هذا "التوضيح" لغرض الزيارة . فماذا يعني "الاطلاع على أوضاع الوزارات"؟ وماذا يعني "البحث في توحيد العمل المؤسساتي"؟ إن ذلك لن يسمح للمواطن الغزي، أو الفلسطيني بأن يفهم أكثر من أن هذه الزيارة ستنتهي كما انتهت سابقاتها: إلى كلام لن يوصل إلى شيء، وفي أحسن الأحوال إلى بيان يعد بأن كل مشكلة ظلت حتى اليوم ستجد حلاً لها قريباً، لتعود بعد ذلك الاتهامات المتبادلة المعتادة من جديد .
في كل الأحوال، ومع عدم التقليل من أهمية المشكلات اليومية التي يعانيها المواطن الفلسطيني في غزة، وضرورة التوصل إلى حل لهذه المشكلات، يظل الحديث عن "دمج الموظفين" و"توحيد العمل المؤسساتي"، وحتى "إعادة الإعمار" و"فتح المعابر"، كلاماً في "الهوامش" إذا ظل تغييب "المتن" الذي يتمثل في العمل من أجل تحقيق "المصالحة"، لأنه من دونها لن يتم التوصل إلى حل أي مشكلة مهما صغرت أو كبرت، كما أثبتت التجربة أكثر من مرة وعلى مدى سنوات . إن مشكلة "الموظفين القدامى والجدد" في غزة، هي مشكلة كبيرة على صعيد الحياة اليومية، لكن الحديث فيها يظهر كأن المشكلة هي مشكلة موظفين ورواتب! ومثلاً، لقد كان عدم الاتفاق على إطلاق كل من الفصيلين المعنيين من لديه من المعتقلين للطرف الآخر، وعدم ملاحقة أعضاء (حماس) في الضفة، وفتح مقرات (فتح) في غزة، كافياً لتخريب كل ما يعلن عنه من "اتفاقات" قديمة أو جديدة يتم التوصل إليها، ليظل الوضع يدور في حلقة مفرغة .
لقد سبقت الزيارة الأخيرة إلى غزة قصص وروايات عدة، كانت كل منها تمثل اتهاماً كبيراً لحركة (حماس) فتح سجالات ودفاتر بين الحركتين، وما يعنيه ذلك من ردود . فمثلاً، كانت هناك تصريحات محمود الزهار، القيادي في (حماس)، حول السعي إلى إقامة "دولة" أو "حكم ذاتي" أو "إدارة مدنية" في القطاع منفصلة عن السلطة في رام الله . وكان الحديث قبل ذلك وبعده حول "اتصالات تتم مع "الإسرائيليين" والأمم المتحدة" حول "هدنة طويلة"، مقابل "الإعمار" . وبالرغم من أنه تم نفي "الاتهامين"، إلا أن ارتداداتهما لم تنته حتى الآن .
وإذا كان الحديث عن "المصالحة" وضرورة إنهاء الانقسام، وتنفيذ الخطوات اللازمة لتجديد "المؤسسات" وتجديد شرعيتها بمشاركة جميع التنظيمات، وقبل ذلك بإشراك أوسع فئات الشعب في ذلك لم يتوقف، فإن الخلافات الناشبة حول ما يمكن اعتباره أموراً "هامشية" تبدو كأنها تمنع الوصول إلى "المتن"، ليستمر الوضع الفلسطيني، ومعه القضية الوطنية، غارقين في مستنقع الانقسام والضياع . والحقيقة أنه مثلما أن عدم الاتفاق على القضايا الرئيسية لا يسمح بالوصول إلى اتفاق على "الهوامش"، فإن عدم الاتفاق على "الهوامش" يعني أنه لا أمل في التوصل إلى اتفاق على القضايا الرئيسية، ويصبح السؤال: من أين نبدأ؟
المصدر: جريدة الخليج