العنصريون يقتربون من رأس السلطة الفرنسية
لفرط التحذير من خطر الذئب على الغنم من دون جدوى، ها هي فرنسا تكتشف، بهول مصطنع، أنه صار وسط الحظيرة وصار الغنم في متناوله . ونعني بالذئب اليمين العنصري المتطرف بزعامة مارين لوبن . ذلك أن استطلاعات الرأي تعطي هذا التيار نسبة تتعدى 30 في المئة من المقترعين في الدورة الأولى من انتخابات المقاطعات التي ستجري في أواخر مارس/ آذار الجاري . وتفوق هذه النسبة ما سيحصل عليه اليمين والوسط بنقطتين (28 في المئة)، وتتعدى الحزب الاشتراكي الحاكم بعشر نقاط (20 في المئة) . وعلى الرغم من أن التيار المتطرف كان الفائز الأول في الانتخابات الأوروبية الفائتة، وبالتالي كان ينبغي التحذير من صعوده ومن خطره، من دون توقف منذ ذلك الحين، فقد سكتت عنه كل الأطراف، زاعمة أن الأمر يتعلق بانتخابات لايشعر إزاءها الفرنسيون بترابط عضوي، أو فلنقل بحماس مشابه لحماسهم في اختيار ممثليهم داخل حدود الجمهورية .
مانويل فالس الوزير الفرنسي الأول، حمل راية الهجوم على اليمين المتطرف وربط صعوده بصعود التيار الإسلامي، زاعماً أن التيارين ينهلان من بعضهما بعضاً (من دون ارتباط مباشر) وأنهما يشكلان معاً "خطراً على الجمهورية الفرنسية"، وذلك ضمن استراتيجية انتخابية هجومية واستباقية تنطوي بنظر خصومه على رهان بتجميع أصوات اليمين واليسار، في مواجهة مرشحي الجبهة العنصرية في الدورة الثانية للانتخابات، وهو ما تم في الانتخابات الفرعية مؤخراً لمقعد نيابي شاغر، وقد نجح الرهان جراء الخوف الذي بثه اليسار من خطر الجبهة المتطرفة على القيم الجمهورية في استمالة قسم مهم من الناخبين اليمينيين والوسطيين، وبالتالي الفوز بمقعد نيابي ما كان متاحاً لليسار لو سارت الأمور على مايرام، ومن دون ألاعيب ديماغوجية .
بيد أن رهان رئيس الحكومة يصطدم بعقبات من كل نوع، منها أن صعود اليمين العنصري المتطرف هو جزء لا يتجزأ من صعود مدو لحركات الاحتجاج، ولضحايا السياسات الليبرالية يميناً ويساراً في القارة العجوز، فالانتخابات في عرف الناخب الأوروبي، أو الغربي عموماً، هي وسيلة لتغيير واقع الحال من حالة إلى حالة أخرى، وإذ يصر مرشحو اليمين التقليدي على تبادل السلطة والتصرف بها من دون تحقيق إنجازات موعودة في الحملات الانتخابية، فإنهم يطلقون النار عمداً على أرجلهم، ويفتحون الباب على مصراعيه لليمين المتطرف، وهو حزب رسمي معترف به، وبالتالي لا شيء يحول دون أن يزوده المحبطون من الأحزاب التقليدية بأصواتهم، طالما أنه، أي اليمين المتطرف، هو الوحيد الذي يدعو إلى تغيير جذري، ومن بين مقترحاته الانسحاب من اليورو ومن الاتحاد الأوروبي ومن حلف الأطلسي، وزيادة عدد الموظفين وتجميد الموازنة العامة ورهنها لمصلحة الفئات المسحوقة، وزيادة الضرائب على الشركات الفرنسية العملاقة، وفصل المصارف المودعة للرساميل عن المصارف المستثمرة لها، وطرد عشرات الآلاف من المهاجرين، وتطبيق سياسة بوليسية في الضواحي التي تحولت إلى معازل للأجانب . كل هذه الإجراءات تداعب مخيلة قسم متزايد من الناخبين الذين شاهدوا بأم العين كيف تمكن أقصى اليسار في اليونان من الفوز بالانتخابات التشريعية، ضارباً عرض الحائط بالمخاوف الأوروبية والتهويل الألماني والفرنسي، وها هو اليوم يفاوض الاتحاد الأوروبي بشروطه المبنية على إرادة ناخبيه .
والحال ليس قاصراً على اليونان، فنحن نشهد صعوداً لأقصى اليمين وأقصى اليسار في معظم الدول الأوروبية، ما ينبئ بأوروبا جديدة تخرج من رحم القديمة التي بنيت بسواعد الليبراليين والاشتراكيين الديمقراطيين، ولأجل تنمية مصالح الكبار وإهمال مصلحة الصغار والفقراء الذي لا يعدمون وسيلة التغيير في صناديق الاقتراع .
ما من شك في أن انتخابات المقاطعات المقبلة في فرنسا لن تغير الشيء الكثير في ميزان القوى الداخلي، في المدى القريب، إذ من المستبعد أن تمنح المقاطعات سلطة وازنة وراجحة لليمين المتطرف، هذا إن فاز بها كلها، ذلك أن استطلاعات الرأي تقول إن حزب لوبن قد يفوز بمقاطعة واحدة أو مقاطعتين في أفضل الحالات، وبالتالي لن يكون حزباً راجحاً، لكنه سيفوز بلا شك بعشرات أو مئات المستشارين في المجالس المنتخبة، وسيوفر له هذا الفوز مزايا عدة، أهمها أنه سيصبح حزباً متجذراً في عمق الريف الفرنسي، وسيكف عن أن يكون حزباً جاذباً للغضب العابر .
بكلام آخر، سيكون هذا الحزب حاضراً كغيره من الأحزاب في الأرياف، وقادراً على تجميع الناخبين ودفعهم إلى صناديق الاقتراع في الرئاسيات المقبلة عام 2017 . ومن بين المزايا أن حزب لوبن ما عاد منبوذاً كما كان الحال في عهد الأب، وبالتالي ما عاد الناخبون يخجلون من الاقتراع له . ومن بين المزايا الأخرى الاتصال بين البلديات والمقاطعات عبر كوادر الجبهة الوطنية، مع ما يعني ذلك من قدرة على الرهان على الرئاسيات المقبلة بواسطة القوة الذاتية، وبالإفادة من ضعف الخصوم .
يوحي ما سبق بأن اليمين المتطرف سيدخل إلى قصر الإليزيه مظفراً بعد أقل من عامين . هذه الخلاصة مممكنة ولكنها مشروطة باحتمالين مهمين، الأول، هو أن يفشل اليمين واليسار المعتدل في تشكيل حاجز بوجه اليمين المتطرف، كما حصل في العام 2001 عندما اختير جاك شيراك رئيساً للجمهورية بأصوات اليمين واليسار معاً وحصل في مناسبات عدة، ومن غير المستبعد أن تتكرر التجربة مرة أخرى، جراء تخويف الناخبين من التطرف اليميني . والاحتمال الثاني هو أن يتبنى اليمين التقليدي بعض أبرز شعارات اليمين المتطرف، ويقترح على الناخبين مخرجاً للاقتراع له، بوصفه تياراً مضموناً وجمهورياً ولا يثير هلع العالم، ولا يخيف المستثمرين والثورات اللاجئة إلى فرنسا . لكن لهذه اللعبة حدودها وتتطلب مهارة بهلاونية من الصعب التحكم في إيقاعها وسط حقل ينطوي على الكثير من الرمال المتحركة . كائناً ما كانت استراتيجية فالس الانتخابية في انتخابات المقاطعات وما بعدها، فقد صار اليمين المتطرف في قلب النظام الفرنسي، وقد لا يطول الوقت حتى يمسك بأزمته .
المصدر: الخليج