مصر وصراعها الوجودي مع شبكات الفساد
تحل هذا الشهر الذكرى الرابعة للانتفاضة الشعبية المجيدة في 25 كانون الثاني 2011، التي أطاحت الرئيس المخلوع حسني مبارك بعد ثلاثين سنة كاملة من حكم مصر.
هكذا توالى على حكم مصر منذ شباط 2011 أربع شخصيات متباينة الأصول والمشارب والاتجاهات: المشير حسين طنطاوي بوصفه رئيساً للمجلس العسكري 2011-2012، ثم الدكتور محمد مرسي ممثلاً عن جماعة «الإخوان المسلمين» 2012-2013، ومن ثم الرئيس المؤقت عدلي منصور بعد إطاحة الجماعة على أثر «انتفاضة 30 حزيران» في الفترة 2013-2014، وانتهاء بالمشير عبد الفتاح السيسي منذ الانتخابات الرئاسية في العام 2014 وحتى الآن. يدل التبدل في شخصية الرؤساء الأربعة خلال أربع سنوات فقط على حيوية سياسية ما، مقارنة بأربعة رؤساء سابقين خلال ستين عاماً هي الفترة الواقعة بين تموز 1952 وحتى «انتفاضة يناير» 2011 وهم: محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك. وبرغم من تبدل الوجوه والشخصيات على سدة الرئاسة في السنوات الأربع الأخيرة، لم تشهد مصر تغييراً جوهرياً في سياساتها الخارجية؛ إلا تحطيم المحور «الإخواني» – التركي - القطري وإعادة العضوية في المحور المصري - الخليجي مع استمرار السقف الدولي ذاته.
كما لم تشهد بنية السلطة الاقتصادية - الاجتماعية فيها تغيراً نوعياً، وذلك بسبب استمرار شبكات الفساد المتكونة من تحالف رجال الأعمال الكبار مع قمة أجهزة الدولة البيروقراطية ومع مؤسسات «الدولة العميقة» وأذرعها الأمنية، في التحكم بمقدرات المصريين: الغذاء والمحروقات والإسكان والمصارف ووسائل المواصلات والتوظيف والتأمين الصحي.
السيسي وخطته السياسية - الاقتصادية
يراهن السيسي على المشاريع الضخمة الجاري تنفيذها مثل «قناة السويس الجديدة»، في الحصول على شرعية سياسية تغازل ذاكرة المصريين في المشاريع الضخمة مثل السد العالي، وشرعية اجتماعية لقدرتها على تشغيل أعداد متزايدة من العاطلين من العمل. وبرغم استمرار السياسات الاقتصادية - الاجتماعية السائدة في مصر في العقود الأربعة الأخيرة، أي رفع الدعم وخصخصة الخدمات واجتذاب الاستثمارات الاجنبية وتحصينها من دون تحديد القطاعات ذات الأولوية للاقتصاد المصري، والتصالح معها برغم وجود أحكام قضائية ضدها، فهناك محاولات لتخفيف الآثار الاجتماعية لهذه السياسات عبر توسيع قاعدة التأمين الاجتماعي واستخدام المساعدات النقدية وإصلاح الخلل في منظومة دعم المواد التموينية لتصل إلى مستحقيها. وبالتوازي مع ترتيب الأولويات الاقتصادي - الاجتماعي ذاك، يشهد المجال العام المصري المزيد من القيود والتضييق، في تصادم صارخ مع بديهيات الشرعيات السياسية. والدليل على ذلك أن المشروعية السياسية للحكم الحالي تأسست على التظاهرات المليونية في 30 حزيران 2013 التي أطاحت حكم «الإخوان المسلمين»، باعتبارها تعبيراً عن إرادة الشعب، فيما كان قانون حظر التظاهر أول القرارات التي أصدرها الحكم الجديد، وهي مفارقة تستعصي على التفسير والتجسير. هكذا يقبع في السجن ثلاثة وعشرون شاباً وشابة ـ لا ينتمي أي منهم للتيار الإسلامي بالمناسبة - لقضاء فترة سنتين في الحبس كعقوبة لاشتراكهم في مسيرة سلمية للاحتجاج على قانون التظاهر، في الوقت الذي أفرجت فيه المحكمة عن الرئيس المخلوع حسني مبارك وكبار مساعديه وبرّأته من التهم المنسوبة إليه أو أسقطتها بالتقادم.
تبدو خطة النظام الحالي مختصرة في ترشيد الأداء الاقتصادي وضبط المصالح الاقتصادية المتنافرة تحت سلطة الدولة، بالتوازي مع تضييق المجال السياسي وخلق برلمان جديد «غير سياسي»، وليس فيه كتلة سياسية كبرى تحد من نفوذ الرئيس أو تتشارك معه في سلطات النظام السياسي. لم تجر الانتخابات البرلمانية بعد، ولكن قانون تقسيم الدوائر الجديد الذي يفتت الدوائر في بعض المناطق ويوسعها في البعض الآخر ويمزج بين الانتخاب بنظام الفردي والقائمة، يبدو مصاغاً للخروج ببرلمان يعكس سيطرة الفئات التقليدية من وجهاء الريف ورؤساء العائلات والعشائر والمال السياسي من دون رابط سياسي أو أيديولوجي، وهي التركيبة ذاتها التي حكمت برلمانات مبارك بما فيها برلمان 2010 الساقط. يكمن الفارق فقط في الشخصيات التي بُعثت في الحياة السياسية من جديد لترسم وتهندس القوائم السياسية المرضي عنها من النظام في البرلمان القادم، أمثال كمال الجنزوري رئيس الوزراء الأسبق وعمرو موسى وزير الخارجية الأسبق، بالاشتراك مع تشكيلة من الأحزاب التقليدية التي ارتضت في السابق أن تكون ديكوراً لنظام مبارك. المفارقة الأخرى أن توصيف «ثورة الشباب» الذي أطلق على «انتفاضة 25 يناير» 2011 ينتهي على نحو صادم، ليتصدر البيروقراطيون ورجال النظام الذين تعدوا الخامسة والسبعين من عمرهم بمعية بعض متوسطي العمر الطامحين للوصول إلى كراسي البرلمان للحصول على وجاهة سياسية في معية النظام الجديد! باختصار، تبدو خطة النظام متمثلة في خلق برلمان غير سياسي، متنافر في تشكيلته حتى لا يشكل خصماً من صلاحيات الرئاسة في النظام السياسي، مع ترك هامش للقوائم لتتنافس على القرب من النظام لا مواجهته.
السيسي وشبكات الفساد
أثبتت سياسات الترقيع والتسكين واحتواء الانتفاضة الشعبية (2011-2012) أنها تتساكن مع شبكات الفساد متلطية بشعار «الحفاظ على الدولة»، مثلما انكشفت سياسات المهادنة الإخوانية مع شبكات الفساد تحت شعار «المهادنة حتى التمكين» (2012-2013) بكونها كومبرادورية ملتحية لا علاقة لها بالثورة وطموحات الشعب سوى القفز على السلطة. وإذ انقضت السنة الانتقالية 2013-2014 بكونها تنشغل بتأسيس مرحلة جديدة مقبلة، إلا أنها قننت الفساد وشبكاته وأعطته من المزايا التشريعية ما يشي برغبتها في التعايش معه، أو تأجيل المواجهة معه إلى مرحلة لاحقة في أفضل التوصيفات. وبرغم وضوح الخطة السياسية - الاقتصادية للنظام الجديد، والتي لا يدخل في أولوياتها ضرب شبكات الفساد، بل ترويضها لتدخل تحت سقف النظام ومتطلباته، فإن هذه الشبكات التي تملك تأثيراً طاغياً في الاقتصاد والإعلام، لا تبدو راضية عن خطة السيسي وتقييد الأدوار التي تتضمنها. ويظهر ذلك في الانتقادات المبطنة التي توجهها للنظام وسائل الإعلام المملوكة لكبار رجال الأعمال، وفي المقاومة الشرسة التي تبديها أجهزة الدولة لمحاولات السيطرة عليها، وأوضحها عرقلة تنفيذ الحد الأقصى للأجور، وفضائح التسريبات الصوتية، التي تنتشر من بعض أجهزة الدولة على الأرجح وليس من جماعة «الإخوان المسلمين» كما يُعتقد. وتعد القوائم الانتخابية لرجال الأعمال وفلول النظام السابق التي يجري الإعلان عنها هذه الأيام دليلاً إضافياً على الصراع الذي تخوضه شبكات الفساد مع النظام الجديد، لتثبيت مواقعها والاستقرار فيها من دون تحجيم أدوار. ويأمل مهندسو الانتخابات البرلمانية القادمة في النهاية تعزيز مواقع الرئيس باعتباره نقطة توازن بين كل القوى السياسية والاقتصادية الموجودة على الساحة البرلمانية، التي تتصارع في ما بينها على المقاعد وقربها من النظام، لا على برامج سياسية أو قضايا العدالة الاجتماعية أو مسائل الديموقراطية والحريات. بمعنى آخر وفي أفضل تفسير ممكن، لا يبدو أن هناك تهديداً حقيقياً لنفوذ وسلطة شبكات الفساد في مصر، بل محاولات للترويض والتحجيم وتأجيل المواجهة للتصدى للإرهاب وإنجاز المشاريع الكبرى، وبالتالي تأسيس مشروعية سياسية تسمح بالتعامل معها من موقع أفضل لاحقاً.
دروس التجربة المصرية خلال أربع سنوات
تعلمنا التجربة المصرية ثلاثة دروس: الأول أن صراع الدولة العادلة التي تصون كرامة مواطنيها وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هو صراع وجودي لا ينتهي إلا بالقضاء على أحد طرفيه. والثاني أن شبكات الفساد تعرقل - بحكم مصالحها - أي تنمية اقتصادية حقيقية يمكن أن تتمتع بثمارها الغالبية الكاسحة من المصريين، فتمنع هذه الشبكات، ببنيتها وبقدراتها الاقتصادية والإعلامية وتأثيرها الشديد على عملية صنع القرار السياسي، مصر من الانطلاق نحو سياسات إقليمية ودولية تنسجم مع مصالح شعبها وحقه الطبيعي بالمشاركة في تقرير مصير الإقليم باعتباره الكتلة السكانية الأكبر في كامل الشرق الأوسط. ومرد ذلك أن شبكات الفساد لها تحالفاتها الإقليمية والدولية، التي تثبتها في مكانها وتعيد إنتاجها بالخصم من قدرات مصر الكامنة وطموحات شعبها. والثالث أن الحرب على شبكات الفساد هي معيار الحكم على الحركات الشعبية وإطلاق النعوت بلفظة «الثورة»، وهو بالتحديد ما يمنع توصيف الانتفاضتين الشعبيتين الكبيرتين، «25 يناير» 2011 و «30 يونيو» 2013 بالثورات، برغم عشرات الملايين التي شاركت فيهما، لأنهما لم تجترحا تغييراً جذرياً في بنية السلطة، حتى ولو تغيرت وجوه الجالسين على مقعد الرئاسة!
المصدر: السفير