الفلسطينيون الجدد..
لم يؤخذ هذا التعبير من «المحافظين الجدد»، وهم طغمة اليمين الأمريكي الموغل في وحشيته، الذين ازدهروا في عصر بوش الابن، بل أُخذ من الواقع الفلسطيني، ذلك أن الفلسطينيين القدامى كانوا إذا تصدوا للعمل الوطني يتصفون بالصدق والصراحة، ويتمتعون بموهبة التواصل مع شعبهم، والأهم من هذا وذاك هو حرصهم على الالتصاق بهموم شعبهم وقضاياه الوطنية.
أما الفلسطينيون الجدد الذين يتصدون للعمل الوطني فقد أوغلوا في ممارسة السلطة المتفرّدة، والغطرسة والمداهنة واللعب على الكلمات، ويقولون ما لا يفعلون… فأصبحوا اكثر مقتاً عند شعبهم. وآخر الأدلة على مداهنة الفلسطينيين الجدد هو ما سمي بمشروع القرار الذي قدمه الفلسطينيون الجدد إلى مجلس الأمن الدولي (بدون الرجوع الى المرجعيات الفلسطينية) وذلك لحمل إسرائيل على الانسحاب.
وقبل التعرض الى فحوى القرار لا بدّ من التذكير بأن هناك العديد من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، فضلاً عن قرارات القمم العربية والاسلامية ودول عدم الانحياز، التي طالبت إسرائيل بالانسحاب من الاراضي المحتلة، ولازالت هذه القرارات تملأ سلة مهملات الحكومة الإسرائيلية. فكيف سيكون القرار – لو صدر – مختلفاً عن سوابقه، لاسيما وان الفلسطينيين الجدد لم يطلبوا في مشروعهم إصدار القرار بموجب الفصل السابع من الميثاق لاعطائه صفة الإلزامية.
واذا انتقلنا الى المحتوى يتبين ان الفلسطينيين الجدد استمرأوا لعبة «الهمبكة» (حسب التعبير المصري ولم أجد تعبيراً أدق من ذلك). ففي عام 1988 قامت القيادة الفلسطينية بتحشيد هائل وحملة إعلامية كاسحة تبشر بانعقاد مؤتمر للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، لإعلان قيام «دولة فلسطين»، وهكذا صار، وانعقد المؤتمر وتعانق القادة حين اعلنت «دولةفلسطين» وبكى الجمهور، وتسارعت الاعترافات الدولية بالدولة الوليدة، ثم نكتشف ان كل تلك «الهمبكة» كانت لتمرير الاعتراف بالقرار الصادر عن مجلس الامن الدولي رقم 242 بتاريخ 22/11/1967، بعد ان ظلت منظمة التحرير منذ صدور ذلك القرار تتمسك بموقف لا يلين من انها ترفض ذاك القرار وانها غير معنيّة به.
وعلى غرار «همبكة» اعلان دولة فلسطين عام 1988، جاءت خطوة الفلسطينيين الجدد بالذهاب الى مجلس الأمن لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يطلب من إسرائيل الانسحاب من اراضي «دولة فلسطين» في فتره لا تتجاوز نهاية عام 2017. ولابدّ ان الفلسطينيين الجدد يدركون عقم هذه الخطوة، وانها محكومة بالفشل مسبقاً بسبب التعنت الأمريكي، الضامن الأكبر لمواصلة الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، إلاّ انها محاولة منهم لإعادة انتاج المفاوضات بدون اشتراط وقف الاستيطان، أو على نحو أدق، إعادة إنتاج مشروع كيري الذي فشل في تحقيق أي نتيجة في نهاية ابريل/نيسان 2014، مع وجبة تنازلات جديدة.
قد لا يتسع المجال لمناقشة مشروع القرار بالتفصيل، إلاّ أنه يمكن تسجيل بعض الملاحظات على بعض الفقرات الرئيسة فيه. بعد ثلاث عشرة فقرة تمهيدية (الحيثيات)، وليس مفهوماً لماذا هذا التحشيد اللامنطقي لمجموع القرارات الدولية، لاسيما القرار 181 (ربما تمهيداً للاعتراف بيهودية الدولة)، ينص المشروع في البند الأول منه على أن المجلس «يؤكد على الحاجة لتحقيق، في موعد لا يتجاوز 12 شهراً بعد اتخاذ هذا القرار، حلّ سلمي عادل ودائم وشامل، يضع نهاية للاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، ويحقق رؤية دولتين مستقلتين وديمقراطيتين ومزدهرتين، دولة إسرائيلية ودولة فلسطينية ذات سياده ومتواصله جغرافياً وقابلة للحياة…». الفقره الاولى تبشرنا بأنه بمرور عام من إصدار القرار سوف يتم «تحقيق… حل سلمي وعادل» ويؤدي ذلك الى «وضع نهاية للاحتلال الإسرائيلي». وهذه الفقره تذكرنا باقتراح وزير الخارجية الامريكي، جون كيري، الذي بشرنا في صيف 2013 بأنه في نهاية تسعة أشهر سوف يتم حلّ كل القضايا العالقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وانتهت المهلة ولم يتم تحقيق اي شيء، سوى إضافة طبقة جديدة من المستوطنات. وقد قبل الفلسطينيون الجدد وعد كيري وتنازلوا عن الشرط الذي ظلوا يتمسكون به باستمرار منذ عام 2010 من انه «لا عودة للمفاوضات إلاّ بوقف الاستيطان». فهل اعتقد الفلسطينيون الجدد أن ما فشل به كيري، بكل ما يمثل ومن يمثل، يستطيعون تحقيقه عبر طرح الأمر على مجلس الأمن الذي هو رهينه بالفيتو الامريكي؟ أم ان ذلك اخراج جديد لمشروع فاشل؟ وقبل الانتقال إلى الفقرات التالية يجب التأكيد على أن مشروع القرار يؤكد على «تحقيق» الانسحاب والحل العادل، وبلا شك أن هذا التأكيد هو ذرٌ للرماد في العيون، إذ أنه من السذاجة الاعتقاد أن الانسحاب سوف «يتحقق» في نهاية 2017.
ولو واصلنا قراءة المشروع يتبين لنا أنه حيلة من الحيل التي يصطنعها الفلسطينيون الجدد لإعادة إنتاج مشروع كيري. فالوفود العربية، وعلى رأسها الأمين العام للجامعة العربية، هرعوا الى نيويورك لتغطية مشروع الفلسطينيين الجدد بعباءة عربية، على أمل ان تنطلي هذه «الهمبكة الجديدة»، ذلك ان مطلع مشروع القرار يتناقض مع البنود التي تليه.
فالفقرة الثانية من المشروع تقول «إن الحل عن طريق التفاوض سيتم على أساس المعايير التالية: «ان هذا يناقض ما ورد في الفقرة التي تقول إنه بعد اثني عشر شهراً سوف يتم «تحقيق» انسحاب إسرائيلي وانهاء للاحتلال، فعلى ماذا نتفاوض بعد تحقيق الانسحاب؟ ثم تنتقل الفقرة الى المعايير التي سوف تستند اليها المفاوضات، ومنها «الترتيبات الامنية» التي تحدث عنها كيري في مبادرته، وكان الخلاف على المدة الزمنية بين ما يطالب به الإسرائيليون وما يطالب به الفلسطينيون الجدد، وقد طرحوا في مشروعهم فتره تنتهي في آخر 2017، ثم يتعهد الفلسطينيون الجدد بضمان أمن إسرائيل «عن طريق منع ظهور الارهاب». فكيف سوف يضمنون عدم ظهور الارهاب، لاسيما ان الولايات المتحده بكل طاقاتها وخبراتها وبعد حرب دمويه ضد كل من افغانستان والعراق، تقاتل الآن ارهابيين ينتشرون من الصومال واليمن إلى «داعش» في شمال وشرق سوريا والعراق؟ وهل من نصّ يطلب فيه الفلسطينيون الجدد من إسرائيل ألا يقوم المستوطنون بخطف وحرق محمد حسين ابو خضير آخر؟ وكيف يستساغ أن يتحدث الفلسطينيون الجدد عن حماية إسرائيل عن طريق منع ظهور الإرهاب وكأنهم لم يشاهدوا الارهاب الإسرائيلي الذي تمارسه إسرائيل في كل المحارق التي ارتكبتها ضد فلسطينيي غزة، وآخرها محرقة تموز/يوليو 2014؟ ثم من الذي سوف يعرّف الارهاب المنوي محاربته، وما هي مواصفاته؟
إن هذه الفقره تعبّر عن أشد الأخطار التي يحاول الفلسطينيون الجدد تسويقها في متن مشروعهم، وهي لا تتحدث عما أصاب شعبهم من تشريد واقتلاع وذبح ومجازر، بل انخرط الفلسطينيون الجدد في صف الإسرائيليين – بقصد أو بلا قصد – حين يصفون شعبهم بأنه الخطر الأكبر على إسرائيل وليسوا هم الضحية التي مازالت تنزف لآخر سبعة عقود. إن هذا الانقلاب على وصف شعبهم والتنكر لحقوقه، هو تمسّح ذليل باعتاب الإسرائيليين والاوروبيين، وتأبى الكرامة الوطنية هذا الانزلاق الذي لا يعبّر عن الشعور الحقيقي للفلسطينيين.
والمعيار الآخر الذي يقترحه الفلسطينيون الجدد هو إيجاد «حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين» ويكون ذلك «على أساس … قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، بما فيها القرار 194 (III).» أليس في هذا النص تفريط بحق العوده للاجئين؟ إن حق العودة تم تقنينه في القرار 194 وتمّ تأكيد هذا الحق لأكثر من مئة مرّة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة الى أن أصبح الان جزءاً لا يتجزأ من القانون الدولي العرفي، الذي يكون ملزماً لكافة الدول بدون حاجة الى استصدار تشريع وطني لانفاذه. أما ان تكون العودة «على أساس القرار 194» فهو إهدار لحق قانوني ثابت لأنه يجب تنفيذ القرار ذاته وليس التنفيذ «على أساس القرار.» فهل يتجرأ الفلسطينيون الجدد على التفريط بالحق الأسمى للفلسطينيين؟ وإن مارسوا هذا التفريط، فهل لديهم الصلاحية بذلك، ومن منحهم إياها؟!
أما القدس، فإنه وبعبث واستخفاف شديدين ورد النص على أن تكون «القدس عاصمة مشتركة للدولتين»، وعلى الفلسطينيين الجدد ان يشرحوا لشعبهم من أين جاءوا بهذا النص وقرارات المجالس الوطنية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وتصريحات وبيانات الرئاسة الفلسطينية المتكررة تؤكد ان «القدس الشريف» هي عاصمة دولة فلسطين. وعن أي قدس يتحدثون: هل يضم ذلك القدس الغربية والشرقية، أو أن القدس الغربية لهم والقدس الشرقية لنا ولهم؟ ولعلم السادة الفلسطينيين الجدد فإن القدس الشرقية، ومنذ احتلالها عام 1967، تعتبر «ارضاً محتلة»، وعلى ذلك جاء العديد من قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة وتوّج تلك القرارات الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر عام 2004. فإذا كانت أرضاً محتلة باتفاق العالم أجمع، فكيف يتم التنازل عن ذلك؟ ومن الذي يملك صلاحية التنازل؟
وآخر المعايير التي يقترحها الفلسطينيون الجدد في مشروعهم ان تتم «تسوية متفق عليها من القضايا العالقة الاخرى، بما في ذلك المياه». وقضية المياه ايها السادة الجدد ليست مجرد «قضية عالقة» إنها قضية حياة أو موت «فلسطين» التي تبحثون عنها. الإسرائيليون مازالوا يقومون «بسرقة» هذه الثروة الوطنية منذ احتلال 1967، وحرموا فلاحي فلسطين من الاستفاده منها الاّ النزر اليسير. وحين مارس الإسرائيليون سرقة نفط سيناء، قام الإسرائيليون بتعويض مصر عن سرقة ثروتهم الوطنية، بناء على الحاح السلطات المصرية، التي كانت تدرك حقوقها في ثروتها الوطنية. مياه فلسطين هي ثروتها الوطنية وليس النفط. ان قضية المياه هي الان في مستوى قضية القدس والمستوطنات، ذلك ان معدل استهلاك الفرد الفلسطيني من الماء بالكاد يصل الى ثلثي الكمية التي تشترطها منظمة الصحة العالمية، بينما يصل معدل استهلاك المستوطن الإسرائيلي الى حوالي اربعة اضعاف ما يستهلكه الفلسطيني، وهي مياه مسروقة في معظمها من المياه الفلسطينية. حتى ان حصة الفلسطيني من الماء المقررة في اتفاقية اوسلو الثانية لم يتم الوفاء بها من قبل الإسرائيليين. ومع ازدياد التعداد السكاني، على الفلسطينيين الجدد أن يدركوا أهمية المياه، وهي ثروة وطنية وحق من حقوق السيادة للشعب الفلسطيني بموجب القرارات الدولية. وعلى الفلسطينيين الجدد أن يعلموا أن أول أمر عسكري إسرائيلي بشأن مياه الضفة الغربية، صدر في 7/6/1967، أي قبل انتهاء معارك تلك الحرب، ما ينبئ بخطتهم لسرقة المياه الوطنية. وعلى الفلسطينيين الجدد أن يدركوا أن حاجة شعبهم الى الماء أكثر من حاجة إسرائيل الى الأمن، فالفلسطينيون لا مصدر آخر لهم من المياه الاّ مياههم الجوفية، بينما إسرائيل دولة نووية تنام في حضن امريكا ليلاً وتصحو صباحاً وهي في حضن اوروبا. ولا بدّ من إضافة ان جدار الفصل العنصري – الذي لم يتناوله مشروع الفلسطينيين الجدد – بني وحدد مساره لكي يضم في داخله أهم الاحواض المائية الجوفية في الضفة الغربية.
أيها الساده… ايها الفلسطينيون الجدد، لقد خبرنا عبقريتكم في اتفاقيات اوسلو، التي هي أشدّ أذى من صك الانتداب ومن قرار التقسيم، وهي اتفاقيات، ولاسيما اعلان المبادئ واتفاقيتي اوسلو (1) و (2)، هي صناعة إسرائيلية بحتة، ومع ذلك لم تتمكن إسرائيل من الوفاء بشروط من وضعها هي. فكيف سوف تحققون الانسحاب والحل النهائي، عادلاً كان أم غير عادل؟!
أيها الفلسطينيون الجدد… توقفوا عن أن تكونوا المستشرقين الجدد، فهذه فلسطين وليست مزرعة في ضواحي أريحا!
٭ كاتب فلسطيني وأكاديمي( خبير في القانون الدولي )