تونس ومرحلة انتقال لم تنته بعد
ما كان فوز المرشح الرئاسي باجي قايد السبسي بمنصب الرئيس في الجولة الثانية للانتخابات فوزاً مفاجئاً، كان متوقعاً جداً بمثل ما كان توقع النسبة التي حصل عليها، وكان فوزاً سهلاً أمام منافس لا يتمتع بأي تمثيل شعبي، هو المنصف المرزوقي على الرغم من أنه حصل على أصوات الإسلاميين، وكان معروفاً لدى الجميع أنه المرشح غير المعلن لـ «حزب حركة النهضة».
ولقد كان يسع الرئيس السبسي الحصول على نسبة تأييد أعلى بكثير فيما لو تخلت قوى كثيرة عن موقف الحياد الذي لاذت به، ربما لئلا توفر للمرشح البورقيبي وحزبه فرصة الاعتقاد بالتمثيلية الشعبية الكاسحة .
كتبنا وفي هذا المنبر، معلقين على نتائج الانتخابات التشريعية التونسية، واصفين فوز حزب "نداء تونس" الكاسح بأنه إعلان عن عودة البورقيبية، التي اسقطها زين العابدين بن علي في انقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 وحاول آخرون إلغاءها بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 . ولا تقول نتائج الانتخابات الرئاسية شيئاً آخر غير هذه الحقيقة . الذي أدرك اتجاه الرياح في البلاد فريق واحد هو الإسلاميون، الذين أفلحوا في قراءة ما جرى في الانتخابات التشريعية، وفهموا رسالة الشعب التونسي إلى طبقته السياسية . لذلك أحجم "حزب حركة النهضة" عن تقديم مرشح رسمي لانتخابات الرئاسة، وفضّل أن يكون مرشحه غير معلن، فسقوط المرشح المستعار - الذي يعرف التونسيون أنه غير ذي حيثية تمثيلية - أهون من هزيمة مرشح رسمي باسم "النهضة" تتكرس بهزيمته انكفاءتها السياسية الاضطرارية أمام زحف البورقيبية المتجددة .
هل طوت تونس، بهذه الانتخابات الرئاسية، حقبة الانتقال السياسي التي بدأت منذ أربعة أعوام؟
إلى ذلك يذهب أكثر من يتناولون الأوضاع في تونس بالتحليل والدرس والاستشراف . والحق أن القول بانتهاء المرحلة الانتقالية فيه قدر من التجاوز والتسرع لا يلحظ ما معنى الانتقال على وجه التحقيق، ومتى يصح الحكم على دولة بأنها أنهت مرحلة الانتقال وشرعت في حياة سياسية طبيعية . والنظر إلى الانتقال على هذا النحو، أي بما هو فصل زمني سريع وشكلي ومنظور، فيه قدر من الاستصغار والاستسهال لا يعني سوى أن من يأتيه لا يعرف مفصليته في حياة الشعوب والدول . وهذا، بالذات، ما كان في نزوع قوى "الثورة"، في بلدان "الربيع العربي" كافة، إلى اختصار المرحلة الانتقالية وطبخها سريعاً قصد القفز إلى ما بعدها! وهو جر عليها تبعات سياسية عدة مازالت ترزح في معضلاتها حتى اللحظة، ولعلها قد لا تخرج منها في الأمد المنظور إن (هي) لم تعد النظر في الأخطاء التي أوقعتها فيها .
مشكلة القائلين بانتهاء مرحلة الانتقال في تونس أنهم يعّرفون الانتقال بأنه مجرد حالة استثناء سياسية تتعطل فيها المؤسسات الدستورية، أو يتعطل فيها العمل بالقوانين، وأنه ما إن ينطلق مسلسل تشكيل المؤسسات المعطلة (من برلمان وحكومة ورئاسة)، وتفعيل المنظومة الدستورية والقانونية، حتى تنتهي المرحلة تلك، وتؤذن بعودة الأوضاع إلى حالها الطبيعية . وهذا - في ما يحسبون - ما ينطبق على تونس، بعد انتخاباتها الرئاسية الأخيرة، وما سينطبق على مصر بعد انتخاباتها التشريعية المقبلة .
هذا تعريف "شكلي"، صوري، للمرحلة الانتقالية . مرحلة الانتقال ليست مرحلة تعطيل المؤسسات والاضطرار - تبعاً لذلك - للعمل بأخرى مؤقتة، وطبقاً لقواعد عمل انتقالية فقط، إنها - فوق هذا وقبله - مرحلة بناء طويلة الأمد من أجل إعادة صوغ قواعد النظام السياسي الذي ينبغي تكوينه بعد الثورة . إذا صح أن التوافق هو الآلية التي يعمل بها في مراحل الانتقال لا المنافسة المفتوحة على قاعدة الأغلبية والأقلية، وهذا صحيح، فإن السؤال الذي يقترن بهذه الحقيقة هو: على ماذا يجري التوافق؟ على حكومة مؤقتة؟ على إعلان دستوري؟ على قانون انتخابي؟ على رئيس مؤقت؟ على اجراءات العدالة الانتقالية؟ على كتابة دستور؟ على مواعيد انتخاب المؤسسات . . إلخ؟ هذا كله مهم وضروري من أجل الخروج من حال الفراغ المؤسسي والدستوري والقانوني، لكنه ليس كافياً لبناء نظام سياسي جديد وتمثيلي ومستقر . إن وظيفة مرحلة الانتقال هي، بالذات، إنضاج شروط التوافق على أساسيات ذلك النظام الجديد، لا على إدارة لحظة الفراغ، وملئها بالمؤقت والانتقالي .
لقائل أن يقول إن التوافق على دستور وعلى مدونة قوانين انتخابية هو عينه ذلك التوافق على أساسيات النظام الجديد . قول غير صحيح: الاتفاق على الأساسيات يسبق الاتفاق على دستور أو على قوانين، وهو شرطه الذي يؤسسه . ويسمى الاتفاق هذا تعاقداً أو اتفاقاً على عقد اجتماعي أو سياسي تشتق منه مادة الدستور والقوانين . وهو العقد الذي إليه تنتهي كل ثورة إن هي أرادت أن تكون ثورة حقيقية لبناء نظام جديد، لا ثورة لإسقاط نظام قائم . إسقاط النظام لا يفتح الباب، بالضرورة، أمام تشييد نظام جديد، وهو قد يعيد إنتاج النظام السابق عينه، مع تعديلات لا تمس الجوهر . لا يكون الإسقاط ذاك ممراً ومعبراً إلى بناء نظام جديد إلا بالتوافق على عقد مجتمعي مشترك من قبل جميع أولئك الذين جمعتهم إرادة التغيير والثورة على الأوضاع القائمة، والحلم بإقامة نظام جديد .
كتبنا في هذه المسألة باستفاضة، في العام الأول ل "الربيع العربي"، ولا نبغي مزيداً . يكفي التذكير أننا حذرنا من مغبة استسهال معنى المرحلة الانتقالية أو اختصارها في زمن منظور واستعجال الانتقال إلى ما بعدها، مثلما دعونا إلى الاعتصام بالتوافق فيها، وعدم مقاربة السلطة أثناءها بمنطق المنافسة والأغلبية والأقلية، واستغلال مرحلة الانتقال لإنضاج توافق استراتيجي حول العقد الاجتماعي - السياسي المشترك والجامع، منبهين إلى أن ذلك أخذ من شعوب عدة عقوداً كثيرة حتى تنضج أسباب ولادة النظام الجديد (أخذ ذلك من فرنسا ستين عاماً بين ثورتها الأولى وثورة العام 1848) . ومن أسف أن شيئاً مما انتظرناه لم يحصل، فشهوة السلطة كانت غلابة عند الجميع وأخذت ذلك الجميع إلى إضاعة فترة الانتقال .
هل فات الوقت للتدارك؟ لم يفت بعد إن قرّ العزم على حسبان مرحلة الانتقال ممتدة . وبالعودة إلى تونس، لنا أن نتصور مشهداً للتدارك والتصويب تقرر فيه النخبة السياسية الجديدة في البلاد أن تعمل بهذا المقتضى . وحينها، سيكون عليها أن تبتعد عن المنطق السياسي الذي يوحي بأن البلاد خرجت نهائياً من مرحلة الانتقال، وأن تستأنف العمل بما يقتضيه الانتقال من حوار وطني موسع، ومن توافق على أساسيات النظام السياسي المراد بناؤه . وهذا يقتضيها تعطيل العمل بثنائية الأغلبية والأقلية، وتعليقه على النجاح في اشتقاق عقد مشترك، والانصراف إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تتمرن فيها تونس على ثقافة الحد الأدنى المشترك: التي هي شرط سياسي ونفسي لأي توافق وأي تعاقد . وثمة الكثير من مسائل الخلاف التي لا يحلها منطق الأغلبية والأقلية، وإنما يكبتها إلى حين . إن فعلت تونس ذلك، ستكون، فعلاً، قد قدّمت الدرس السياسي الثاني بعد درس الثورة.
المصدر: الخليج