قراءة في العداء الغربي القديم لروسيا
جورج حداد جورج حداد

قراءة في العداء الغربي القديم لروسيا

بعد سقوط التجربة السوفياتية، فإن المرحلة التي يمر بها العالم اليوم، وبالأخص العالم العربي، هي مرحلة تاريخية جديدة لإعادة بناء النظام العالمي القائم. ولكن دينامية الاحداث، وتسارعها، وتناقضاتها، تجعل الكثير من المراقبين والمحللين الموضوعيين، ناهيك عن المشاركين في كل حدث، يضيّعون البوصلة. وعليه سنحاول الإضاءة على بعض المحركات التاريخية الأساسية للإحداث.

من يكتب التاريخ؟
هناك مقولة مأثورة تؤمن بها الغالبية الساحقة من الناس، وهي: ان التاريخ يكتبه المنتصرون!
ولكن هذه المقولة تلوي عنق الحقيقة ليس فقط ضد المغلوبين، بل وضد المنتصرين انفسهم أحيانا كثيرة، وربما في اغلب الأحيان!
والاصح القول ان التاريخ يكتبه المتسلطون والمتنفذون والانتهازيون.

مثال على ذلك ـ من التاريخ القديم: ان روما هي التي انتصرت على قرطاجة في الحروب البونية، وكان النخاسون اليهود لا اكثر من "شريحة طبقية وظيفية" تمتهن المهنة المحتقرة (مهنة التجارة بالبشر). وكان هؤلاء النخاسون يسيرون بمعية الجيش الروماني، محملين بالأموال وبالاغلال، كي يشتروا منه (بسعر الجملة) الاسرى والسبايا بعد كل معركة، فيصفّدونهم ويسوقونهم كالقطيع الى حيث يقومون بإذلالهم جميعا، وخصوصا الاعتداء على النساء، وتحطيم انسانيتهم، ثم "تدريبهم" على الخنوع وتأهيلهم لحياة العبودية، ثم يبيعونهم فرادى (بأسعار المفرق العالية) الى الامراء والنبلاء والوجهاء. واذا اردنا استخدام بعض تعابير الاقتصاد السياسي، الماركسي او غيره، نقول ان التراكم الاولي للرأسمال لم ينتج عن المتاجرة (او تبادل) بأي سلعة أخرى، مانيفاكتورية او صناعية، كما لم ينتج عن القرصنة البحرية البريطانية، بل نتج، أولا، عن القرصنة الرومانية على البشر، وعن المتاجرة اليهودية بـ"السلعة البشرية" ذاتها. واليهود كانوا اول تجار بشر في التاريخ. ولذلك يعتبرون انفسهم "شعب الله المختار"، تنزه الله عنهم وعن افعالهم واقوالهم.

فمن هو الذي "كتب التاريخ القديم للعالم"؟
هل هو الجيش الروماني المظفر بأكاليل "الغار"؟
ام أصحاب مهنة النخاسة المحتقرة: اليهود؟

ومثال آخر ـ من التاريخ الحديث: في الحرب العالمية الثانية كان الاتحاد السوفياتي (وقلبه روسيا) هو الضحية الأكبر للنازية الهتلرية، وهو الذي قدم الفاتورة الأكبر من التضحيات (ادنى الإحصاءات تقول ان الاتحاد السوفياتي قدم 26 مليون شهيد، أي تقريبا نصف فاتورة الخسائر البشرية في هذه الحرب)، وفي الوقت ذاته فإن الاتحاد السوفياتي (وروسيا) كان المنتصر الأكبر على النازية. ولولا روسيا السوفياتية لاحتلت النازية أوروبا وأميركا والعالم الى اليوم، ولما بقي يهودي واحد على وجه الأرض، كي ـ على الاقل ـ يتاجر بالهولوكوست. وكانت مشاركة "الحلفاء الديمقراطيين" واليهود في الحرب مشاركة هامشية بل واستعراضية فولكلورية (الجبهة الثانية، او ما يسمى انزال النورماندي وما اعقبه، لم تفتح الا في أواخر الحرب سنة 1944، وضحايا اميركا هم 250 الف قتيل، أي اقل من نصف ضحايا بلد صغير كاليونان. وبعد ان اكتسح الجيش السوفياتي ( الروسي) برلين وتجاوزها 400 كلم وأجبر هتلر على الانتحار، وصار في امكان الجيش الأحمر اكتساح أوروبا كلها، وتطهيرها من النازية والرأسمالية، تم ـ على عجل ـ انزال وحدات رمزية من القوات الأميركية والانجليزية والفرنسية بالباراشوت في برلين، كي تشارك في استعراض النصر، وكي يقال ان "جميع!!!" الحلفاء شاركوا الى جانب الجيش الأحمر في فتح برلين، وهو "كذب ديمقراطي ـ يهودي" حلال!).
فهل الاتحاد السوفياتي، وبالأخص تحديدا روسيا، المنتصر الأول وشبه الوحيد، هو او هي التي كتبت التاريخ المعاصر للعالم؟!
كلا! ان التاريخ المعاصر، الذي لا يزال عشرات ومئات الملايين من شهوده احياء، كتب ويكتب ليس فقط بدون روسيا، بل وضدها! وهو مليء بالأكاذيب والشعوذات الديماغوجية ولا سيما "الديمقراطية".

الأكاذيب الشائعة

ومن الأكاذيب العالمية الشائعة ان العداء الغربي لروسيا ليس قبْليا (a pri-o-ri) بل هو نشأ بسبب تبنيها لـ"الشيوعية" في مرحلة تاريخية معينة في نهاية الحرب العالمية الأولى وما بعدها.

ولكن الصحيح هو العكس تماما: ان "الشيوعية" هي علم اجتماع معاد للرأسمالية والاستعمار، ولد في الغرب ذاته، وان روسيا كانت عدوة للغرب "قبل ولادة الشيوعية"، وهي قد تبنت "الشيوعية" كرد فعل على عداء الغرب الرأسمالي الاستعماري لها. وها هي روسيا اليوم لا تزال عدوة للغرب الرأسمالي الاستعماري بعد انهيار مرحلة تبني "الشيوعية". فروسيا لم تصبح عدوة للغرب لأنها "تبنت الشيوعية"، بل الاصح القول انها "تبنت الشيوعية" لأنها ـ أي روسيا ـ هي من الأساس كانت وستبقى عدوة للغرب الرأسمالي الاستعماري، الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا.

واذا كلف أي مفكر او باحث عادي نفسه عناء تقليب صفحات التاريخ، سيكتشف الحقائق ببساطة، كبساطة شروق الشمس من الشرق وغروبها في الغرب.
الانقسام العدائي التاريخي بين الغرب والشرق. في 146 ق.م سقطت قرطاجة بأيدي الرومان، وقتل 300 الف من اهاليها ذبحا وحرقا، اما بقية السكان أي الـ 400 الف الذين شاء سوء حظهم ان يبقوا احياء، فقد بيعوا عبيدا للنخاسين اليهود، ثم دمرت المدينة تدميرا كاملا ومحيت تماما من الخريطة. ومنذ ذلك التاريخ انقسم العالم نهائيا الى غرب وشرق (بالمعنى الحضاري والجيوستراتيجي):
ـ غرب جشع طامع للاستعباد والاستعمار؛ وشرق غني ومستكفٍ ولكنه محط أطماع الغرب.

وفي ظل هذا الانقسام التراجيدي للعالم ، فضلت كليوبترا ان تموت في مصر بسم الافعى على ان تعيش في روما ملكة مستذَلة و"واجهة" لاستعباد الشرق.
وانقسام الكنيسة، واذا تجردنا عن الجوانب اللاهوتية والليتورجية التي ليست من اختصاصنا، ولا علاقة لها بموضوع هذا البحث، نجد ان جوهر الانقسام (شرق ـ غرب) يجد انعكاسه في الانقسام اللاحق للكنيسة الى جناحين:

أ ـ المسيحية الشرقية (الارثوذكسية) (وكل المسيحيين الشرقيين هم في الأساس ارثوذكس. واذا كان موارنة لبنان اليوم يتبعون روما، فإن القديس مار مارون ورهبانه انفسهم كانوا سريانا ارثوذكسا معادين لروما وسلطتها وامبراطورها. والا لما قامت الإمبراطورية البيزنطية المترومنة بمحاربتهم وقتل رهبانهم الاطهار وتدمير اديرتهم وكنائسهم. ولا تزال اللغة السريانية تستخدم الى اليوم في القداديس المارونية). وهذه المسيحية الشرقية هي مسيحية "عربية" (بالمفهوم الحقيقي، أي المفهوم الحضاري، لا المفهوم القبلي ـ السلالي ـ الاستيطاني للعروبة) أي هي مسيحية ارامية الأصل، بوصف الارامية، التي تكلم وبشر بها السيد المسيح، كانت تمثل "ثقافة" و"دين" الشعوب الشرقية "العربية" التي كانت تناضل ضد روما وضد اليهود.

ب ـ والمسيحية الغربية، الرومانية والمترومنة، بوصفها دين الدولة الرسمي للامبراطورية الرومانية (ومذنبها بيزنطية في مرحلتها الأولى قبل استقلالها التام عن روما). أي ان المسيحية الغربية كانت الأداة الدينية الرسمية لسلطة الدولة الاستعمارية ـ الاستعبادية الرومانية ومن ثم ورثتها.

خارج التقويم الروماني
وبعد تدمير قرطاجة واكتساح مصر وسوريا ومملكة مقدونيا توسعت الإمبراطورية الرومانية شمالا حتى بريطانيا وجنوبا حتى شواطئ البحر الأسود وشبه جزيرة القرم، وطبعت "روما" بـ"ثقافتها" المسيحية المزيفة، العنصرية ـ الاستعمارية، كل أوروبا الغربية. ولكن التوسع الروماني توقف ـ بسبب الثلوج وبسبب المقاومة ـ عند اطراف ما يسمى اليوم روسيا. ومع ان القبائل الروسية المتفرقة كانت عرضة للغزوات والسلب والنهب والاسر والسبي، من الجنوب (الخزر والمغول والتتار والعثمانيون) والشمال (الجرمان والسويديون والبولونيون وغيرهم)، وبيع رجالها ونسائها عبيدا، الا ان "شعب الثلوج" هذا (أي الروس) بقي خارج التقويم التاريخي الروماني، وخارج "الثقافة الرومانية"، و"ضدها". وفي الوقت ذاته بقيت الاراضي الروسية فائقة الغنى مطمعا يحلم به الى درجة الهذيان جميع المستعمرين الغربيين و"الشرقيين" على السواء. وباختصار ووضوح شديدين يمكن التأكيد على الحقيقية الوجودية التاريخية التالية: ان روسيا (ارضا وشعبا)، ورغم كل صروف الدهر، ورغم اتساعها وغناها، بقيت الرقعة الجغرافية الشرقية الكبرى الرئيسية التي لم تستعمر لا من قبل روما، ولا من قبل من جاء بعد روما من الغزاة والمستعمرين. وكل غاز دخل الأرض الروسية، دخل وسحق الى الابد، اما على الأرض الروسية، واما عليها وفي عقر داره معا. وبقي الشعب الروسي العظيم الحامل الأول للواء المقاومة ضد العبودية والاستعمار، ولاجل حرية الشعوب، منذ فجر التاريخ الى يومنا الحاضر. وهذا هو السبب الجوهري للحقد التاريخي الدفين للغرب ضد روسيا والشعب الروسي والمسيحية الشرقية.

روسي "سلافي" = عبد
ولدى انبثاق الامبراطوية الرومانية، التي قامت على غزو واستعباد الشعوب، والتي دشنت عصور الاستعمار السوداء في التاريخ البشري، لم يكن للروس حينذاك دولة، بل كانوا قبائل وثنية متفرقة، عرضة لغزوات السلب والنهب والسبي، التي استمرت ضد الروس حتى بعد تأسيس دولتهم. وكانت اكبر تجارة في تلك العصور السوداء هي التجارة بالعبيد (الرجال وخصوصا النساء) وبالأخص العبيد الروس (السلافيين). وأصبحت كلمة "سلافي" (Slav, slave) تعني "العبد" بجميع قواميس لغات أوروبا الغربية (وأميركا طبعا). وكانت "قطعان" الاسرى والسبايا الروس تصب أخيرا في ايدي اليهود الخزر، الذين كانوا بدورهم يبيعونهم الى اليهود العبرانيين (الذين يسميهم العالم الرحالة العربي احمد بن فضلان في كتابه "رسالة ابن فضلان": "التجار المسلمين") والذين كانوا يمسكون بزمام التجارة الدولية والداخلية من الاندلس حتى سور الصين.

روسيا تظهر على المسرح فوق انقاض المملكة اليهودية الخزرية
وظهرت اول دولة روسية (المسماة: كييف روس) في النصف الثاني من القرن العاشر في كييف عاصمة أوكرانيا الحالية.
وكان اول "عمل دولة" قامت به الدولة الروسية الجديدة هو تدمير إيتيل ـ عاصمة مملكة الخزر اليهودية ومحوها من الخريطة. وكانت هذه الـ إيتيل تمثل السوق الرئيسية وعاصمة تجار العبيد، اليهود الخزر. وهؤلاء اليهود الخزر هم انفسهم من يسمون اليوم "الاشكنازيم" او "اليهود الغربيين". وهم الذين تعود لهم الكلمة الأولى في إسرائيل. وهم كانوا يهيئون مملكتهم كي تقضم بالتدريج الأرض الروسية، وكي تبتلع من الداخل (بواسطة اليهود"العرب" = العبرانيين) الخلافة العربية ـ الإسلامية، وان تتحول الى اضخم واغنى مملكة على الأرض، تحكم العالم باسره الى الابد. فجاء الروس وحطموهم وحطموا معهم مطامعهم العالمية وحولوها الى اضغاث أحلام. ولهذا فإن الخزر = الاشكنازيم = اليهود الغربيين يحقدون على الروس اضعاف اضعاف ما يحقدون على العرب والمسلمين، مع ان الشعب الروسي هو الذي انقذهم من براثن النازية وهتلر في الحرب العالمية الثانية.

الأرثوذكسي: المسيحي المستقيم
وبعد ان دمرت "كييف روس" مملكة الخزر اليهودية على بحر قزوين، التفّت حولها مختلف القبائل الروسية، وتأسست الدولة الروسية الكبرى التي اختارت تبني الديانة المسيحية على المذهب الشرقي الأرثوذكسي (ليس لان هذا المذهب هو الافضل دينيا، بل ببساطة لان اليهود (= الخزر) والمسلمين (= المغول والتتار والعثمانيين وحتى الشركس)، في الجنوب، والكاثوليك في الشمال، كانوا "أعداء وجوديين" للروس، وكانوا هم الأعداء الذين يغزون ويسبون ويستعبدون الروس).

وتم التنصير العام، الأرثوذكسي، للروس في الربع الأخير من القرن العاشر. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت روسيا هي القطب الرئيسي، الشرقي عامة والشرقي المسيحي خاصة، في مواجهة الغرب، الاستعماري والكاثوليكي "المسيحي المزيف" في نظر الأرثوذكسي "المسيحي الصحيح او المستقيم".

روسيا: القطب الشرقي الرئيسي
وفي ذلك الزمن كانت غالبية شعوب بيزنطية وما حولها في البلقان واسيا الصغرى (الاغريق، المقدونيون، الصربيون، البلغار، الالبان والرومانيون) وكذلك شعوب الشرق الأوسط في الأراضي المقدسة وسوريا ولبنان والعراق واليمن ووادي النيل وشمال افريقيا والتلة الحبشية، قد أصبحت أيضا مسيحية شرقية ارثوذكسية، تحت تأثير العداء المتأصل ضد الإمبراطورية الرومانية التي قتلت السيد المسيح ويوحنا المعمدان وقتلت واضطهدت المسيحيين الأوائل، والتي كانت تستعبد تلك الشعوب. واضطلع المسيحيون الشرقيون "العرب" (بالمعنى الحضاري الواسع للكلمة أي: الاراميون، الكنعانيون، السريان، الاشوريون، نصارى اليمن والجزيرة العربية، الاقباط، الليبيون)، بالإضافة الى الاحباش الخ، بدور جسر روحي، حضاري، ثقافي، اجتماعي واقتصادي، مميز، لطي صفحة العداء السابقة، والشروع في إقامة علاقات حسن جوار وتعاون وتفاعل اقتصادي واجتماعي وثقافي بين شعوب الامة العربية خاصة والعالم العربي ـ الإسلامي عامة وبين بيزنطية والشعوب المسيحية الشرقية في البلقان. وقد أدى ذلك الى تعميق التباعد بين بيزنطية وروما، وزيادة التقارب بين بيزنطية والعالم العربي ـ الإسلامي. وشكلت علامة بارزة في ذلك العلاقات الثقافية العميقة التي كانت قائمة بين الاندلس والقسطنطينية، منارتي الحضارة الإنسانية قاطبة في العصور الوسطى.

وقد شكلت روسيا القطب الرئيسي في العالم الشرقي المسيحي ـ الاسلامي القديم.

وحدة الشرق خطر على مطامع الغرب الاستعماري
وفي تلك الظروف، ومن وجهة النظر الغربية عامة، والبابوية خاصة، نشأ "خطر!" ان تتصل روسيا بالاراضي المقدسة وبالمسلمين عبر المسيحيين الشرقيين، من جهة، وان تتصل ببيزنطية والشعوب المسيحية الشرقية في البلقان، من جهة أخرى، وينشأ عن ذلك "محور عالمي" متعاون ومتفاعل ومتحالف روحيا وحضاريا واقتصاديا وعسكريا، يمتد من القطب المتجمد الشمالي الى الشواطئ الافريقية للمحيط الأطلسي، ما يشكل سدا منيعا نهائيا في وجه المطامع الاستعمارية الغربية في الشرق.

وامام هذا "الخطر"، اصبح الهاجس الأول للغرب منع وصول روسيا الى الأراضي المقدسة في الشرق وإقامة تحالف بينها وبين المسلمين والمسيحيين الشرقيين. وليس ما يسمى "طموح روسيا للوصول الى المياه الدافئة" سوى تعبير غربي موروب عن الخوف من طموح روسيا للاتصال بالأراضي المقدسة، وتكوين المحور الشرقي المسيحي ـ الإسلامي الكبير.


"
اللغز الأكبر" للحروب الصليبية

ولدى التنصر الارثوذكسي للروس كان تعلقهم بالقدس والأراضي المقدسة شديدا، وكانوا يأتون بالآلاف للحج الى مهد وقبر المسيح، والكثير منهم كانوا يأتون سيرا على الاقدام وبعضهم ينذرون ان يأتوا حفاة وبدون زاد ويشحذون طعامهم خلال الطريق الذي يمتد آلاف الكيلومترات. وقد ارتعبت البابوية من التواصل بين روسيا والأراضي المقدسة وإمكانية إقامة الجبهة الشرقية الكبرى بين العالم السلافي (وقلبه روسيا) والعالم الهيليني (وقلبه الدولة الاغريقية ـ المقدونية) والعالم العربي ـ الإسلامي (وقلبه القدس وفلسطين الى جانب مكة المكرمة)، ما يشكل سدا شرقيا منيعا بوجه الغزو الغربي للشرق. فأسرعت البابوية غداة الانقسام التام للكنيسة (في 1054م) الى شن الحملات "الصليبية الشرقية" لاحتلال فلسطين وقطع الطريق على وصول روسيا اليها، والحملات "الصليبية الشمالية"، لمهاجمة روسيا من اقصى الشمال من الخلف والهائها عن القدوم الى فلسطين.

البابوية واليهود يتواطأون مع العثمانيين

وبعد فشل الحملات الصليبية الشرقية، بفضل الدور الإيجابي الذي اضطلع به المسيحيون الشرقيون العرب، الى جانب إخوانهم المسلمين، وبعد تمكن الروس من سحق الحملات الصليبية الشمالية سحقا تاما، عملت البابوية واليهود على تحريض ودعم العثمانيين لاغتصاب الأراضي التي تشكل اليوم الجزء الأوروبي من تركيا، ثم الاستيلاء على القسطنطينية، وذبح وطرد أهالي تلك الأراضي، المسيحيين الشرقيين الأرثوذكس (لا يزال احفاد اللاجئين اليونانيين من القسطنطينية يحتفظون بمفاتيح بيوت اجدادهم القديمة، كما اللاجئين الفلسطينيين). وكان الهدف حصار روسيا خلف اسوار البوسفور والدردنيل، ومنعها من الوصول الى الأراضي المقدسة برا وبحرا.

فشل الغزو "السلمي" لروسيا

واذا اتينا الى المرحلة التاريخية الراهنة يمكن القول: "ما اشبه اليوم بالبارحة"! فإن كل السياسة الغربية، وعلى رأسها الأميركية، تتمحور حول القضاء على الدولة الروسية وغزو ونهب الأرض الروسية اللامتناهية الغنى.

ولدى انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية في أوروبا الشرقية، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، انتشرت خرافة القطب العالمي الأوحد الأميركي، واعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الاب عن بناء "النظام العالمي الجديد"، وهي فكرة مأخوذة حرفيا عن هتلر. ولكن اخذا بالاعتبار فشل النازية في غزو روسيا عسكريا، قامت اميركا، بمشاركة جميع حلفائها، الأوروبيين واليهود و"الإسلاميين"، بشن حملة غزو مشتركة، سياسية ـ اقتصادية ـ "ثقافية" ـ مافياوية ـ امنية ـ إرهابية، ضد روسيا، وحققت نجاحات كبرى على هذا الصعيد، واصبح عميلها بوريس يلتسين رئيسا للجمهورية الفديرالية الروسية واصبح من يسمون "الاوليغارشيين" الروس ولا سيما اليهود الصهاينة يتحكمون بمصائر روسيا. ولكن هذا المخطط انتهى بسحق "التمرد الشيشاني"، واقالة بوريس يلتسين في اليوم الأخير من 1999، وقتل العشرات من الاوليغارشيين ولا سيما اليهود، واعتقال وسجن اكبرهم مخائيل خودوركوفسكي، وفرار العشرات الاخرين الى بريطانيا وأوروبا وإسرائيل.

"
الفوضى البناءة " الاميركية تمتد

وبعد هذا الفشل، دبرت الأجهزة السرية الأميركية والإسرائيلية جريمة تفجير البرجين التجاريين في نيويورك. وعلى طريقة وضع "لي اوزوالد" "الشيوعي" في واجهة اغتيال الرئيس كينيدي سنة 1963، تم التضحية ببعض الشبان العرب المسلمين ووضعهم في طائرات التفجير، واستخدام ذلك ذريعة لشن حملة غير مسبوقة ضد العرب والمسلمين والدين الإسلامي الحنيف ذاته. وبلغت الوقاحة برئيس بلدية نيويورك حينذاك الموالي لإسرائيل ان يرفض شيكا تبرع به لاهالي ضحايا البرجين الأمير السعودي الوليد بن طلال، لمجرد انه عربي ومسلم. وكانت هذه الحملة العنصرية، المعادية للدين الإسلامي، كمكوّن أساسي من مكونات الشرق، مقدمة لشن الحرب على أفغانستان، ثم العراق، وللشروع في ما سمته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة غونداليزا رايس "الفوضى البناءة"، الأميركية طبعا، ومن ثم إطلاق ودعم ما سمي "الربيع العربي"، لزعزعة الاستقرار وزرع الفوضى في البلدان العربية، بما فيها ذات الأنظمة الصديقة تقليديا لاميركا.

وبعد ان اتهمت الإدارة الأميركية بدعم وتمويل وتسليح وتدريب المنظمات الإرهابية، فهي تحاول الان التنصل من هذه التهمة، عن طريق الغارات الجوية الاستعراضية ضد ما كان يسمى "داعش". وهي تعمل من ضمن مختلف السيناريوهات للتقريب بين مختلف المجموعات السياسية والعسكرية الفاعلة على الأرض والتقرب منها. وتستفيد الأجهزة السرية الأميركية الان من الاوضاع المضطربة في الشرق الأوسط للشروع في تطبيق سياسة "الفوضى البناءة" في أوروبا الشرقية والجنوبية أيضا. وظهر ذلك أولا في أوكرانيا، ومؤخرا في المظاهرة المناهضة للحكومة التي جرت في مطلع تشرين الثاني في هنغاريا، و"مسيرة الاستقلال" ومحاولة احراق السفارة الروسية في فرصوفيا في بولونيا في 11\11\2014، والنشاطات الاستفزازية للمنظمة الفاشستية اليونانية "الفجر الذهبي" وقتلها احد الموسيقيين الشباب اليساريين، لاستدراج ردود فعل وتوسيع الفوضى، ودعم استفتاء الاستقلال في كاتالونيا في اسبانيا. والبقية ستأتي في القوقاز والجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى ودول البلطيق.

مقدمات التحضير لحرب عالمية ضد روسيا

ومن خلال كل هذا الاختلاط في هذه الصورة السوريالية المشوشة، فإن "الفوضى البناءة" الأميركية تهدف الى تحقيق ما يلي:
أولا ـ على المدى القصير والمتوسط: إحاطة روسيا بزنار ملتهب من البلدان المضطربة، ومنعها من إقامة علاقات إيجابية ( اقتصادية وثقافية وسياسية) مع تلك البلدان، بعد ان زالت الحواجز الأيديولوجية السابقة بين روسيا وبين تلك البلدان. وفي الوقت ذاته تعمل الدبلوماسية الأميركية، بالتنسيق التام مع الأجهزة السرية الأميركية والاسرائيلية والأوروبية والتركية والعربية، من اجل فرز القوى السياسية داخل كل بلد يتم تمزيقه، واستمالة و"تحييد" القوى المعادية لاميركا وإسرائيل وتركيا، وإقامة علاقات أميركية وثيقة مع القوى المعادية جذريا لروسيا والمستعدة للقتال ضدها في كل الظروف.

ثانيا ـ وهو الهدف الابعد والرئيسي: تشخيص القوى اليهودية و"المسيحية" و"الإسلامية" المعادية لروسيا، والعمل لإزالة التناقضات فيما بينها، والتنسيق فيما بينها وتوحيد صفوفها، وهنا يوجد دور خاص تقوم به السلطتان التركية والإسرائيلية، الطامحتان الى التوسع، والعمل لتوحيد تلك القوى في جيش دولي "متعدد الفيالق" "الدينية" و"القومية"، يشرع في شن مجموعة حروب إقليمية وارهابية ضد روسيا، تشكل في مجموعها حرب استنزاف متمادية لروسيا، وتكون بدورها تمهيدا لحرب دولية عالمية ثالثة جديدة تشنها اميركا والناتو ومن يمكن ان ينضم اليهما من الدول ضد روسيا لتمزيقها اربا اربا ونهبها وتقسيم أراضيها وثرواتها الكبرى.

يبقى ان نقول: من وجهة النظر الاقتصادية البراغماتية البحت، فإن الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين ـ ودون الانتقاص من اسهامات أي شعب ـ كانا يشكلان عبئا ثقيلا على الشعب الروسي. فكل عبارة فوق ساقية صغيرة، وكل السدود والبحيرات الاصطناعية كسد اسوان وبحيرة ناصر، وكل المفاعلات النووية وكل الطرقات والسكك الحديدية والمصانع والمنشآت وغيرها وغيرها وغيرها، بنيت في أوروبا الشرقية واسيا الوسطى والقوقاز، بعد الدمار الهائل في الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن بناء الجيوش، كل ذلك قد تم بمساعدة مالية وتكنولوجية وخاماتية وكوادر بشرية، روسية. ولا شك ان انهيار الاتحاد السوفياتي وما يسمى تجربة "بناء الاشتراكية" مثـّـل نكسة كبرى للإنسانية جمعاء. ولكنه في الوقت ذاته ازاح عن كاهل الشعب الروسي حملا اقتصاديا لا يتحمله الا شعب جبار كالشعب الروسي. والان فإن كل ثروات روسيا تبقى فيها، وهي موجهة كلها نحو البناء العسكري أولا وبامتياز، أي نحو بناء الجيش الحديث المؤلل والالكتروني بالكامل، وبناء وتطوير المجمع الصناعي ـ العسكري.

وللذكرى فقط انه بعد قيام الثورة الروسية في نهاية الحرب العالمية الأولى أرسلت 14 دولة اجنبية قواتها لمحاربة الجمهورية السوفياتية الفتية، فهزمت جميعا وولت الادبار. والان توجد في روسيا مزدوجة: "ثورة قومية" و"ثورة صناعية ـ حربية" ما بعد حداثية. والعقيدة العسكرية للجيش الروسي الحالي تنبني على القاعدة التالية: لو ـ افتراضا ـ وقع المستحيل وتحالفت جيوش العالم كلها لخوض حرب برية ـ بحرية ـ جوية ـ فضائية ضد روسيا... تـُـفنى جيوش العالم، وتبقى روسيا!

 

المصدر: العهد