أوكرانيا والتقسيم القادم
يبدو أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية في «جمهوريتي» دونيتسك ولوغانسك، منطقة دونباس بجنوب شرق أوكرانيا، والتي جرت الأحد الماضي، ستُعقّد الأزمة الأوكرانية والصراع الدائر بين روسيا والبلدان الغربية حول أوكرانيا. فقد قررت سلطات كييف إعادة النظر في القانون الذي أُقر مؤخرا بشأن الوضع الخاص لهذه المنطقة تمهيداً لإلغائه، واعتبرت إجراء هذه الانتخابات انتهاكاً لاتفاقات مينسك في أيلول 2014. من جانبه، انتقد الغرب هذه الانتخابات وهدد روسيا بتشديد العقوبات ضدها إذا اعترفت بها.
وكان دميتري بيسكوف المتحدث الصحافي للرئيس الروسي، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، قد لمّحا الأسبوع الماضي الى احتمال اعتراف موسكو بحقيقة إجراء انتخابات جنوب شرق أوكرانيا، ولكنهما لم يُشيرا الى الاعتراف بنتائجها رسميا. ولذلك نلاحظ أن موسكو، عبر بيان للخارجية الروسية يوم الاثنين الماضي، اكتفت بالحديث عن «احترام روسيا لإرادة سكان جنوب شرق أوكرانيا». وهذه هي الصيغة نفسها التي استخدمتها موسكو في ايار الماضي، بشأن الاستفتاء على استقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. واللافت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يتطرق الى موضوع الانتخابات في جنوب شرق أوكرانيا خلال كلمته في الرابع من تشرين الثاني الجاري في الكرملين بمناسبة الاحتفال بعيد «وحدة الشعب»، بينما أعرب مجلس الدوما الروسي عن التأييد الكامل لنتائج الانتخابات. ودعا قادة الكتل النيابية الأربع الممثلة في الدوما، أثناء كلماتهم خلال الاحتفال بهذا العيد، القيادة الروسية إلى الاعتراف باستقلال دونباس.
وفي غالب الظن أن تطور الأحداث لاحقا سيتعلق، بدرجة مهمة، بموقف موسكو في ظل تعرضها للضغوط من قبل الغرب ومن قبل القيادات المنتخبة حديثاً في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، حيث بات موضوع رفع مستوى العلاقات مع روسيا المهمة الأولى لهذه القيادات بعد إجراء الانتخابات.
إن إلغاء قانون الوضع الخاص لمنطقة «دونباس» يأتي كإشارة واضحة على استعداد كييف لتشديد سياستها مجددا تجاه لوغانسك ودونيتسك، لا سيما أن الانتخابات البرلمانية المبكرة في أوكرانيا في 26 تشرين الأول الماضي أفرزت فوز الأحزاب الأوكرانية الموالية للغرب والمناوئة، بدرجات متفاوتة، للدب الروسي. ومع الأخذ في الحسبان أن «حزب» الرئيس بوروشينكو لم يحقق فوزا ساحقا خلال تلك الانتخابات المبكرة، يمكن القول إن الرئيس الأوكراني لا يملك خيارات كثيرة، فإما التشدد تجاه لوغانسك ودونيتسك، وإما فقدان السيطرة على سياسة كييف تجاه جنوب شرق أوكرانيا. ولا يُستبعد، هنا، أن تعلو أصوات ما يسمى بـ«حزب الحرب» لحسم الأزمة بدلا من السير في طريق الحل السلمي للتسوية. وقد تجعل الانتخابات في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المفاوضات صعبة تماما بين الطرفين المتنازعين داخل أوكرانيا، وهو ما قد يمنح كييف فرصة للتملص من مسؤولياتها تجاه هذه المنطقة وتحميل روسيا المسؤولية.
وفي ظل التصعيد المحتمل مجددا للأزمة الأوكرانية بعد انتخابات دونيتسك ولوغانسك، لا يمكن استبعاد زيادة حدة الانقسام الداخلي في أوكرانيا بين أنصار روسيا في الجنوب والشرق، من ناحية، وحكومة كييف ومعها غرب ووسط أوكرانيا والدول الغربية من الناحية الأخرى. وقد يجعل ذلك اتفاق مينسك غير قابل للحياة، كما حدث من قبل مع اتفاق «جنيف الأوكراني». ومن ثم تُصبح روسيا والولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي عاجزة عمليا عن تطبيقه، وتكتفي بإدارة الصراع في أوكرانيا لا تسويته. ولذلك، نعتقد أن أوكرانيا اليوم تقف أمام مفترق طرق صعب، حيث إن قبولها بنتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في لوغانسك ودونيتسك قد يُسهل انفصال هاتين المنطقتين مستقبلا، خصوصاً أنهما أعلنتا عن تأسيس جمهورية «نوفوروسيا الاتحادية»، أو جمهورية روسيا الجديدة الاتحادية، كاتحاد كونفدرالي غير معترف به لجمهوريتين غير معترف بهما في أيار 2014. وهذا الكيان الاتحادي يسعى بقوة إلى الانضمام لروسيا حداً أقصى، أو نيل اعتراف موسكو باستقلاله حداً أدنى. ولكن الكرملين، حتى الآن، لم يعترف رسميا بهذا الكيان. وهذا يعرّضه للكثير من الضغوط من قبل بعض عناصر التيار القومي داخل روسيا نفسها. فهذا التيار، وإن كان يؤيد دعم الكرملين لـ«نوفوروسيا» بطرق مختلفة ومتعددة، إلا أنه يطالب القيادة الروسية بالذهاب أبعد من ذلك، أي بضم هذا الكيان أو الاعتراف باستقلاله عن أوكرانيا.
ويمكن ملاحظة أن أوكرانيا تسير بقوة نحو التقسيم، حيث إن مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك باتتا عمليا خارج سيطرة كييف، بغض النظر عن وضعهما القانوني الذي يمكن أن تكتسباه مستقبلا. وقد يكتفي الغرب وروسيا بمحاولة تجميد الوضع في أوكرانيا على ما هو عليه الآن، وقد يجري التصعيد بينهما بقوة أكثر في ظل إصرار الرئيس الروسي على عدم فقدان السيطرة على التوجهات الخارجية والدفاعية لأوكرانيا. وهناك رهان كبير في موسكو على ابتلاع الغرب للتطورات الأوكرانية الحالية والإقرار بالأمر الواقع، الذي يحرم كييف عمليا من حُلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي و«حلف شمال الأطلسي» برغم كل الوعود الغربية.
ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، استبعاد السيناريو الأسوأ والمتمثل في انفجار الأوضاع الداخلية في أوكرانيا على نطاق أوسع خلال الفترة المقبلة، لتتجاوز ما يمكن أن نتوقعه أو نتصوره في اللحظة الراهنة. فالحرب الباردة الجديدة، التي نشهد معالمها اليوم، قد تتحول إلى حرب ساخنة مباشرة بعدما ظلت بالوكالة خلال الفترة الماضية. ويبدو أن الروس والأميركيين يعلمون ذلك جيدا، ويستعدون له عبر استعراض العضلات، وعبر لوم بعضهما البعض على زيادة حدة التوتر حول أوكرانيا. فكلاهما ينتظر تقسيم أوكرانيا، برغم إعلان تمسكهما بوحدة أراضيها.
المصدر: السفير