فضيحة سنودن تكشف عن المزيد من الارتباك في سياسات أوباما الداخلية والخارجية
تكفّل أوباما مؤخرا بتخفيض ترسانة الولايات المتحدة العسكرية خلال زيارته لبرلين متمنيا اقتداء روسيا بالمثل "في المفاوضات المقبلة لخفض المخزون العسكري،" سبقه لقاءه مع الرئيس الصيني زي جين بينغ على الأراضي الأميركية اذ وصفه بخطوة إيجابية للوثوب قدما في علاقاتهما المشتركة.
ما لبث ان تلبدت الأجواء عقب افشاء الخبير في مجال التقنية الالكترونية، ادوارد سنودن، تجسس وكالة الأمن القومي (بالغة السرية) على المواطنين الاميركيين والعالم، في الداخل والخارج، مما عكر مشاعر الاميركيين ودول أخرى بسببها، لا سيما في بكين وموسكو. كان لافتا مدى قلق الصين لما ورد بتجسس الولايات المتحدة عليها مما حفزها إلى اغفال طلب واشنطن تسليمها سنودن والسماح له بمغادرة هونغ كونغ بحرية.
روسيا أيضا شاطرتها مشاعر الامتعاض وسمحت له المرور بمطار موسكو، كما يقال، ورفضت ترحيله، بينما الغت واشنطن جواز سفر سنودن.
عقبات عدة تواجه مساعي الولايات المتحدة لاستعادة سنودن خاصة بعد توجيهها اتهامات له تستند إلى قانون التجسس، اذ يعتبر الخبراء القانونيون ما قام به سنودن يمثل جناية سياسية، فضلا عن الثغرات المتعددة التي تشوب معاهدات تسليم المطلوبين بين الدول.
الحيرة والارتباك هي الميزة العامة للرئيس أوباما الذي ما فتئ يعد المرة تلو الأخرى ببذل جهود عالية لاصلاح سمعة اميركا عبر العالم وإعادة النظر في علاقاتها مع الخصوم الدوليين في الوقت عينه. تضعضعت صورة الدولة القوية لاميركا في نظر العالم جراء كشف سنودن عن عمليات التجسس.
استعادة سنودن للمثول امام القضاء الأميركي أضحت هدفا رئيسا للسياسة الأميركية، مقابل فشل جهودها في التزلف ومداهنة كل من الصين وروسيا لاغرائهما بالتعاون وتسليم المطلوب لها. برز تبلور الازمة في هونغ كونغ، الخاضعة للسيادة الصينية، اذ ادلى الناطق باسم البيت الأبيض، جاي كارني، بتصريح مطول حول سلسلة الاتصالات التي أجريت مع هونغ كونغ الخاصة بطلب اعتقال سنودن مؤقتا.
وأوضح كارني ان سلطات هونغ كونغ "تسلمت الطلب الأميركي يوم 17 حزيران. وعلى الرغم من تعدد المحاولات، فان سلطات هونغ كونغ لم تبدِ تجاوبا لأي طلب بمزيد من الوثائق او المعلومات، مكتفية القول ان المسألة قيد النظر ورفضت الخوض في التفاصيل. وفي يوم 21 من حزيران، طلبت سلطات هونغ كونغ معلومات إضافية تتعلق بالتهم الأميركية والاثباتات. ودأبت الولايات المتحدة على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة فيما يتعلق بتلك الاستفسارات " واضاف وكنا بصدد الرد عليها حينما علمنا ان سلطات هونغ كونغ سمحت للطريد مغادرة أراضيها".
وأردف كارني ان الولايات المتحدة "غير مقتنعة بأن ما جرى مثّل قرارا اجرائيا أقدم عليه مسؤولو دائرة الهجرة في هونغ كونغ. بل انه قرار مدروس من قبل الحكومة لإطلاق سراح هارب (من العدالة)، على الرغم من توفر مذكرة صالحة لإلقاء القبض. تلك الخطوة لها انعكاس سلبي على العلاقة الأميركية الصينية دون جدال."
وغضبت الولايات المتحدة مرة أخرى لسفر سنودن بالطائرة متجها إلى روسيا. وأوضح المتحدث باسم البيت الأبيض ان الولايات المتحدة "علمت مغادرة (سنودن) هونغ كونغ بالأمس وقد حط في روسيا. فيما عدا ذلك، دعوني ارشدكم التوجه بالاستفسارات حول مكان اقامته إلى السلطات الروسية."
بالرغم من مشاعر الاستياء والامتعاض البارزة في أروقة وزارة الخارجية، الا انه لا تتوفر أي جهود للتدخل من قبل الرئيس أوباما، كما أوجز الناطق الرسمي كارني بالقول "لا تتوفر اتصالات على المستوى الرئاسي،" مما يشير إلى عدم اجراء أوباما اية اتصالات مع الزعماء الصينيين او الروس.
واستدرك المتحدث الرسمي بالقول "بيد انه من الطبيعي اننا نجري اتصالات مع نظرائنا على المستويات المطلوبة." وجرت عدة تحركات من قبل مسؤولين اميركيين رفيعي المستوى نحو نظرائهم الروس في غضون بضع ساعات من تصريحات كارني. اذ افاد مسؤول أميركي ان مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، روبرت ميوللر، أجرى اتصالات مع نظيره الروسي مرتين في ذات اليوم؛ إلى جانب جهود مماثلة قام بها السفير الأميركي لدى موسكو، مايك ماكفول، ونائب وزير الخارجية الأميركية، ويليام بيرنز.
يدرك الرئيس أوباما ضعف موقفه التفاوضي مع كل من الصين وروسيا، سيما توجيهه اتهامات للصين بالقرصنة الالكترونية على الدوام. اذ أوردت وكالة الانباء الصينية الرسمية ان "الساسة الاميركيين ووسائل الاعلام وجهوا اتهامات تباعا ضد الصين بالتجسس عبر شبكة الانترنت، في الأشهر القليلة الماضية، سعيا لوضعها في مرتبة المرتكب الأكبر لاعمال التجسس على الانترنت. بل جرى التوكيد على تلك الاتهامات خلال لقاء القمة الذي كان يعوّل عليه بين الرئيس زي جينبينغ ونظيره الأميركي باراك أوباما مطلع الشهر الجاري في كاليفورنيا، الذي تم التحضير له لتسهيل مجريات التعامل بين أكبر اقتصاديْن في العالم لبلورة نمط علاقات جديدة للقوى الكبرى." وأضافت الوكالة في تعليقها ان "الكرة الآن في ملعب واشنطن. من الأفضل لواشنطن التحرك لتهدئة مخاوف الدول الأخرى."
بالمقابل، موقف أوباما مع روسيا ليس بأفضل حال. فقد أعلن على الملأ عن نيته حفض مستويات الأسلحة التقليدية والنووية، مما يحد من قدرته على المناورة في المفاوضات مع روسيا اذ شكلت تلك الترسانة ورقة ضغط استغلها كل الرؤساء الاميركيون في محادثاتهم مع الروس. القادة الروس، من جانبهم، تحدوهم الرغبة للتعرف على حجم وطبيعة المعلومات التي بحوزة ادوارد سنودن فيما يتعلق بجهود تجسس وكالة الأمن القومي الأميركية على روسيا، خاصة بعد كشفه عن جهودها التجسسية ضد الرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف خلال قمة الدول العشرين الصناعية قبل بضعة سنوات.
اما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد نفى أي علاقة مع سنودن قائلا في مؤتمر صحفي عقده خلال زيارته لفنلندا "اجهزتنا الخاصة لم تعمل مع سنودن في السابق مطلقا ولا تعمل معه اليوم." يذكر ان تصريح بوتين جاء ليؤكد على عدم توفر معاهدة متبادلة لتسليم المطلوبين بين روسيا والولايات المتحدة؛ وعليه، عدم تمكنها من التجاوب مع الطلب الأميركي. وأوضح بوتين ان "السيد سنودن حر طليق، وكلما أسرع باختيار محطته الأخيرة سيعود بالفائدة علينا وعليه."
في المحصلة العامة، اغفال روسيا ورئيسها بوتين الرغبات الأميركية فيما يتعلق بسورية وإيران يدل على عدم تأثير قضية سنودن على سياستها البتة.
التداعيات الداخلية
قضية سنودن تترك بصماتها بوضوح على المشهد الأميركي الداخلي وتقوض شعبية الرئيس أوباما، سيما لحالة الانقسام بين الساسة والمسؤولين الاميركيين الراغبين بتسلم سنودن وتقديمه للقضاء، وبين النبض الشعبي الذي لا يجمع على ذلك. تجدر الإشارة إلى تأييد "حزب الشاي" المتطرف والناخبين الشباب لما قام به سنودن. اذ أشار استطلاع للرأي أجرته شبكة فوكس للتلفزة مؤخرا ان نحو 67% من أنصار حزب الشاي ينبذون إجراءات الدولة للتجسس عليهم، فضلا عن نحو 58% من الفئة العمرية ما دون 30 عاما، و57% من المستقلين يشاطرونهم الرأي للتنديد بجهود التجسس. بل أعرب نحو 71% من المستطلعة اراءهم عن ريبتهم من تنامي نفوذ الحكومة الأميركية في الشأن العام، وأوضح نحو 62% عن رأيهم بعدم الثقة بالحكومة المركزية. تلك المؤشرات لا تنبيء خيرا للرئيس أوباما فيما تبقى من ولايته الرئاسية.
المعضلة التي يواجهها أوباما تتجسد في مهارته لوقف تدهور هيبة بلاده في الخارج وحصد دعم سياسي في الداخل الأميركي. في ظل هذه الثنائية يبرز تساؤل مشروع حول ان كان استحضار سنودن سيخدم رصيد الرئيس أوباما، سيما وانه يميل للاحجام عن القاء القبض على أعداء بارزين وتقديمهم للقضاء نظرا لاعتبارات قضائية وتعقيدات سياسية تنطوي عليها تلك الجهود، مما يسلط الضوء على خياره المفضل باستخدام طائرات الدرونز للقيام بهجماتها على اهداف منتقاة في الشرق الأوسط وافريقيا.
لو افترضنا جدلا قيام روسيا بتسليم سنودن، سيترتب على الرئيس أوباما التعامل مع المظاهرات والاحتجاجات المؤيدة لما قام به سنودن، وخفض مساحة التغطية الإعلامية المخصصة للبيت الأبيض من بعض وسائل الاعلام المتعاطفة معه. كما تخشى السلطات الأميركية اضطرارها لإفشاء معلومات حساسة تفضح اساليبها حال انعقاد محاكمة علنية لسنودن.
القاء القبض على سنودن، لو تم، لن يضع حدا لجهود تسريب المعلومات الخاصة بالجهود الحكومية، سيما وان الصحافي الشهير في الغارديان اللندنية، غلين غرينوالد، أوضح ان "غالبية جهود البوح بمعلومات هامة لم تتم بعد،" مما يدل على ان بحوزة الصحيفة قدرا اعلى من المعلومات التي من شأنها احراج الأجهزة الأمنية الأميركية. وقد تلجأ الصحيفة المذكورة إلى نشر مزيد من المعلومات ان أقدمت الولايات المتحدة على اعتقال سنودن.
السماح لسنودن بالمغادرة إلى الاكوادور مرورا بكوبا قد يكون اهون الشرين بالنسبة للولايات المتحدة، فضلا عما تشكله من ضربة في صميم المصداقية الأميركية، فان خياراتها تبقى محدودة للغاية. قد تلجأ الولايات المتحدة إلى اعتراض الطائرة المدنية التي تقل سنودن في الأجواء الدولية، وما سيترتب عليها من أزمات ديبلوماسية مع الدولة المالكة للخطوط الجوية المعنية. اما الرئيس أوباما فقد صرح انه "ليس بوارد الهرولة لاستخدام سلاح الجو لإلقاء القبض على قرصنة قام بها شخص ذو 29 عاما."
اما تداعيات قبول الاكوادور توفير اللجوء السياسي لسنودن فستنعكس اقتصاديا عليها، اذ أوضح النائب الجمهوري عن ولاية ميتشيغان، ساندر ليفن، ان التبادل التجاري بين الاكوادور والولايات المتحدة سيتعرض للمجازفة في حال منحت لجوءا سياسيا لسنودن. وقال "ان قامت (الاكوادور) بذلك، لن نجد أرضية لمجرد النقاش معهم بشأنه." تجدر الإشارة إلى ان الولايات المتحدة تلوح بتهديد مماثل ضد أي دولة قد تمنح سنودن ملاذا.
ان نفذ سنودن رغبته بالتوجه إلى احدى بلدان اميركا اللاتينية المناوئة للولايات المتحدة، الاكوادور او كوبا او فنزويلا، قد يكلفه خسارة بعض المتعاطفين معه، اذ من العسير إطلاق وصف "مؤيد للحرية" عليه في أي من تلك البلدان، خاصة بعدما اختفى عن الأنظار في روسيا والصين. الضرر المترتب على جهوده سيبقى يلاحق وكالة الأمن القومي، بيد ان الدلائل على مخالفات الوكالة سيطالها التلوث جراء الخطوة التي أقدم عليها سنودن.
فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي ستترك بصماتها على سير ونتائج الانتخابات النصفية التي ستعقد في العام المقبل، يرافقها الفضائح السياسية الأخرى للرئيس أوباما إلى جانب تردي الحالة الاقتصادية. وكلما سعى الرئيس أوباما اثارة المسألة سترتد عليه سلبا نظرا لتذكر الناخبين لها عند الادلاء بأصواتهم.
تصدر وزير الخارجية جون كيري جهود التراجع عن التصريحات النارية ضد موسكو. ويسود الاعتقاد بان يدا البيت الأبيض ليستا طليقتين لاتخاذ ما يلزم باستثناء تجميد العمل بتسليم اي محتجزين لروسيا، لكن الشك لا يساور أحدا بأن ليس من بين اولئك ما يوازي الأهمية التي يشكلها سنودن بالنسبة للحكومة الأميركية. أوراق أوباما التفاوضية في تراجع على مستويات السياسة الخارجية والداخلية، وليس هناك ما يدعو للاستغراب من نزوعه المبكر لصرف النظر عن المسألة.