حتى المصارف الكبرى في أمريكا... تدير ظهرها لسندات الخزانة وتتجه للذهب!
موقع MarketWatch - تشارلي غارسيا* موقع MarketWatch - تشارلي غارسيا*

حتى المصارف الكبرى في أمريكا... تدير ظهرها لسندات الخزانة وتتجه للذهب!

يبدو أحدث تقرير صادر عن مجلس الذهب العالمي أشبه بمراجعة سلبية على موقع «يِلب» لسياسة النقد الأمريكية: «الطعام سيّئ والخدمة أسوأ. سننتقل إلى المطعم المقابل».

ترجمة قاسيون

الدولار الأمريكي يعيش عاماً يُشبه حالة المريض الذي غُيّر دواؤه سراً — فقد تراجع بحوالي 10% منذ بداية 2025، في أسوأ أداء له منذ أن أطاح ريتشارد نيكسون بالمعيار الذهبي.

ففي عام 2024، أتمّت الصين وروسيا صفقات تجارية بقيمة 245 مليار دولار- أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي لعدد كبير من الدول- عبر نظام دفع جديد يُسمى «المسار الصيني» يتجاوز نظام «سويفت» وشبكات المال الغربية كلياً. وقد اعتمد الطرفان على اليوان والروبل والذهب - أي على أيّ شيء سوى العملة التي يُفترض أنها تدير العالم. نحو 95% من هذه التعاملات جرت تسويتها باليوان والروبل بدلاً من الدولار. هذا لا يُعبّر عن مجرد تنويع تجاري، بل عن «طلاق علني» مع منظومة الدولار.

وفي الوقت نفسه، اشترت البنوك المركزية حول العالم 1,044 طناً من الذهب العام الماضي. أي أكثر من ألف طن في رسالة واضحة تقول: «لم نعد نثق بكم»، مصبوبة في سبائك صغيرة ولامعة. ولأول مرة منذ عام 1996، فضّلت البنوك المركزية «الحجارة» على سندات الخزانة الأمريكية. وعندما يبدأ صانعو النقود أنفسهم بتفضيل معدن لا يمكن طباعته، فالأمر لم يعد مجرد تحوّط بل حكم قاسٍ.

أمّا الذهب فقد تجاوز عتبة 3,600 دولار للأونصة، مرتفعاً بأكثر من 35% منذ بداية العام. والفضة سجّلت أعلى مستوياتها منذ 14 عاماً، إذ إنّها تتحرك عادةً كـ «الأخ الأصغر المفعم بالكافيين» للذهب. في الوقت ذاته، يخطط 95% من البنوك المركزية لشراء المزيد من الذهب، تقرير مجلس الذهب العالمي الأخير يكرر نغمة المراجعة الساخرة: «الطعام سيّئ، الخدمة أسوأ. سنجرّب المطعم المقابل».

لم يعد هذا الخطاب من قبيل «نظريات المؤامرة»، بل أصبح صادراً من رجال يرتدون بذلات «بروكس براذرز» ويحملون إيصالات من «تيفاني». الولايات المتحدة ما تزال تُقيّد الذهب في دفاترها بسعر 42.22 دولاراً للأونصة، لأنّ أي تعديل سيعني الاعتراف بأنّ نيكسون كان أكثر كذباً في شؤون المال مما كان عليه في فضيحة «ووترغيت».

الانتقال الفوضوي بين عملات الاحتياط

التحولات بين العملات الاحتياطية لا تتم عبر تسليم سلس. إنّها أشبه بعمليات طلاق طويلة وفوضوية تستمر لعقود.

الاعتقاد الشائع، هو أنّ نهاية هيمنة الدولار ستعني اعتلاء إمبراطور جديد العرش النقدي- كأن يرث اليوان الصيني المقام، فننحني جميعاً أمام سياسات بكين المالية.

لكن الصين، رغم سعيها الحثيث إلى مكانة عملة الاحتياط، لن تفتح حساباتها الرأسمالية، ولن تلتزم بسيادة القانون. لذا فالسيناريو غير مطروح.

أما اليورو، فقصته معروفة: عشرون دولة تتقاسم عملة واحدة، بينما تختلف على كل شيء آخر، والنتيجة تُشبه مجموعة من الناس تحاول طلب قطعة بيتزا واحدة: لا أحد يخرج راضياً.

ما نشهده هو ولادة فوضى نقدية عالمية. أشبه بعائلات المافيا المتصارعة، لكن بدلاً من النزاع على السيطرة على الأرض، تتصارع على «أي ورق نقدي يملك قيمة». الدولار لا يُستبدل بإمبراطور جديد، بل بـــ «زعماء إقطاعيات» إقليميين يكرهون بعضهم بعضاً.

ونحن نتجه تحديداً إلى ذلك: كتل نقدية إقليمية، واتفاقيات تجارة ثنائية، والجميع يقتني الذهب وكأننا عدنا إلى 1929. فوضى نقدية على غرار عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي: الجنيه الإسترليني يترنّح، والدولار لم يثبت أقدامه بعد، والجميع يرتجلون سياسات فاشلة ويطلقون عليها اسم «إصلاحات».

انهيار الإسترليني أمام صعود الدولار استغرق حربين عالميتين ونصف قرن من الزمن. وخلال هذه المراحل الانتقالية، يتقلّص حجم التجارة، وتتكاثر النزاعات، ويكتشف الجميع أن الأنظمة النقدية المشتركة حالت دون اندلاع حروب أكثر مما فعلت الجيوش.

لماذا يُعتبر هذا الأمر مشكلتك أنت أيضاً؟

كل مدّخراتك التقاعدية مُقوّمة بالدولار، العملة التي يتخلى عنها الجميع. رهنك العقاري، مدّخراتك، راتبك، كلها مقوّمة بالدولار.

قد تقول لنفسك: «أنا لا أتاجر مع روسيا، ولا أملك يواناً. لماذا عليّ أن أهتم إذا كانت البنوك المركزية تكدّس الذهب كما يفعل المهووسون بنهاية العالم؟»

الجواب بسيط: لأنّ مدّخراتك التقاعدية ورهنك وادخارك ودخلك، كلّها مرتبطة بعملة تتعامل معها الاقتصادات الكبرى كما لو كانت هاتف «آيفون» قديماً: ما يزال يعمل، لكن الجميع يبحث بجدية عن بديل أحدث.

عندما تفقد عملة ما وضعها كعملة احتياط دولية، لا يحدث ذلك بهدوء. بريطانيا تعرف هذا الدرس جيداً. فقد كان الجنيه الإسترليني ملكاً حتى لم يعد كذلك، ومرحلة «لم يعد» ترافقت مع حربَين عالميتَين، وانهيار الإمبراطورية، وعقود من التراجع.

من الأمن إلى الإفلاس

بحلول عام 2027، ستنفق الولايات المتحدة على خدمة دينها أكثر مما ستنفق على قواتها المسلحة التي يُفترض أنها تجعل عملتها لا غنى عنها. الأمر أشبه بأن تدفع فواتير بطاقة ائتمان حارس شخصي بدلاً من دفع أجره.

هناك قانون في الجغرافيا السياسية بموثوقية الجاذبية: من يملك أكبر أسطول بحري، يملك حق طباعة العملة التي يستخدمها الجميع. سيطر الجنيه الإسترليني حين كانت البحرية الملكية تسيطر على البحار. وانتقلت القيادة إلى الدولار عندما صار بإمكان أمريكا نشر حاملة طائرات في «مسبحك» إن نظرت إليها نظرة لم تعجبها.

يمكن للصين وروسيا أن تلعبا لعبتهما بتسوية المعاملات باليوان والروبل كما تشاءان. لكن إلى أن يتمكن أحدهما من إبقاء مضيق هرمز مفتوحاً عندما تُثير إيران المشاكل، فهما لا يزالان مجرد «فرقة غنائية في كراج» شقيقك الأصغر: يُحدثان ضجيجاً بالتدريب، لكن لا أحد يشتري التذاكر.

لكن القوة العسكرية لا تستطيع إنقاذ عملة من الانتحار المالي. روما كانت تملك جحافل في كل مكان، لكنها أفرغت الديناريوس من قيمته حتى أصبح بلا وزن. إسبانيا سيطرت على نصف الكوكب، ثم أعلنت إفلاسها أربع مرات.

وهنا نصل إلى مشكلة الدين الأمريكي البالغة 37 تريليون دولار. الولايات المتحدة تُسجّل عجزاً قدره تريليونَي دولار سنوياً، والدولار نفسه تراجع بنسبة 10% هذا العام، الأرقام كفيلة بجعل مُرابٍ يذرف الدموع.

بحلول 2027، ستدفع أمريكا على الفوائد أكثر مما تدفع على جيشها. تخيّل ذلك: ستنفق للحفاظ على ديونها أكثر مما تنفق على القوات المسلحة التي يُفترض أنها مصدر قوة الدولار. الأمر أشبه بأن تدفع فواتير بطاقة ائتمان حارسك بدلاً من دفع راتبه. وعندما تطبع أموالك بمعدل 7% سنوياً بينما عملتك تهوي كالحديد في البحر، فإنّ تخلّي الدول الأخرى عن الدولار ليس موقفاً «معادياً لأمريكا»، بل مجرّد خطوة صحية.

ما الذي يجب أن تفعله واشنطن الآن؟

عندما تستدين تريليونَي دولار سنوياً، فإنّ إلقاء محاضرات على الآخرين حول «الانضباط المالي» يُشبه سكيراً ينصح الناس بالاعتدال في الشرب.

الولايات المتحدة بحاجة إلى ضبط مالي «منذ البارحة». خفّضوا الإنفاق أو شاهدوا ثقة العالم تتبخّر أسرع من الوعود الانتخابية.

كما أنّ أمريكا بحاجة إلى تطوير أنظمة دفع أفضل من نظيراتها الصينية، لا مجرد أنظمة «مختلفة». الولايات المتحدة اخترعت الإنترنت، لكنها تركت لبكين الهيمنة على وسائل التواصل الاجتماعي. تكرار الخطأ نفسه في ميدان المال سيكون أشبه بخسارة مباراة شطرنج أمام لاعب يستخدم أحجار لعبة «الداما».

وعلى واشنطن أن تقبل بحقيقة التعددية القطبية القادمة، سواء أحب السياسيون ذلك أم لا. القضية ليست هل ستتنافس عملات أخرى مع الدولار، بل كيف سنتنافس نحن بدورنا. على الولايات المتحدة أن تصبح عملة يريد الآخرون الاحتفاظ بها، لا مجرد عملة يُجبرون على استخدامها. إمّا أن تقود المرحلة الانتقالية، أو أن تُسحق تحت أقدامها.

تشارلي غارسيا هو مؤسس R360، وهي شبكة عالمية تضم أفراداً وعائلات تفوق ثرواتهم الصافية 100 مليون دولار. يشغل منصب رئيس التحرير في مجلة Night Owl، وهي النشرة الحصرية لـR360 التي تقدم رؤى مغايرة حول الأسواق العالمية.

4 أيلول 2025

معلومات إضافية

العدد رقم:
1242
آخر تعديل على الأحد, 07 أيلول/سبتمبر 2025 23:56