أوهام «الاستدارة التركية نحو الغرب».. بين الرغبات والوقائع!
منذ انتهت الانتخابات التركية الشهر الماضي بفوز أردوغان، رئاسياً وبرلمانياً، بدأت تنتشر تحليلات تقول: إنّ أردوغان، وبعد أن ضمن 5 سنوات إضافية في السلطة، قد تحرر من أعباءٍ كبرى كانت تثقل كاهله قبل الانتخابات، وأنه بات الآن جاهزاً لانتهاج سياسة جديدة بالكامل، محورها الأساسي هو «الانقلاب» على روسيا، وإصلاح علاقته بالغرب وبالأمريكان خاصة.
وقد وجد أصحاب هذا التحليل في السلوك العملي التركي ما يدعم افتراضهم هذا، وبالدرجة الأولى تتم الإشارة إلى ما يلي:
أولاً: تراجع أردوغان عن السياسة المالية المتعلقة بتثبيت وتخفيض أسعار الفائدة، والتي كانت مرفوضة من منظومة الفيدرالي الأميركي؛ حيث جاء بمسؤولين ماليين جدد ينتمون إلى المدرسة الغربية، ويعلنون صراحة قربهم من النهج المالي الغربي، وجرى تحت إشرافهم تحرير سعر الفائدة نسبياً باتجاه الصعود.
ثانياً: موافقة أردوغان على نقل هاربي «آزوف» في تركيا إلى أوكرانيا، وتسليمهم للرئيس الأوكراني زيلينسكي، وهي المجموعة النازية المعروفة التي تلقت هزيمة كبرى خلال العام الماضي.
ثالثاً: مضي تركيا في موضوع انضمام السويد إلى الناتو، رغم معارضتها السابقة، علماً أنّ عملية الانضمام لم تنته بعد، وما تزال بحاجة إلى مراحل إضافية قد لا تخلو من عراقيل وصعوبات.
رابعاً: عودة الحديث بشكل مكثف عن برامج عسكرية مشتركة مع الأمريكان، بما فيها F16 وF35 والتي كان جرى إيقافها منذ عقدت تركيا صفقة S400 مع روسيا، وجرى في حينه اشتراط استكمال تلك البرامج والصفقات بتراجع تركيا عن الصفقة مع روسيا (وهو ما لم يتم، ورغم ذلك يعود الغرب الآن للحديث عن إمكانية استئناف البرامج المشتركة مع تركيا).
خامساً: عودة الحديث المكثف عن إمكانية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي... الحديث فقط، دون أي بوادر ملموسة لكيفية الوصول إلى ذلك، أو آجال الوصول إليه.
«الاستدارة نحو الغرب»
قبل أي نقاش لمعنى النقاط السالفة الذكر وآفاقها، ربما من المفيد أن نشير إلى مسألة ربما تمر مرور الكرام، ودون الانتباه الذي تستحقه؛ نقصد بالضبط استخدام «المحللين» إياهم، تعبير «الاستدارة التركية نحو الغرب». هؤلاء المحللون، في السياق السوري، هم من الناطقين بأشكال رسمية وغير رسمية وشبه رسمية، باسم المتشددين في الطرفين، والذين أنكروا خلال أكثر من 7 سنوات (منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016) أنّ تركيا شرعت في حينه في الطور المكشوف من استدارتها نحو الشرق، أي بالضد من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، واتجاه روسيا والصين... وها هم الآن، أنفسهم، وفجأة، يتحدثون عن «استدارة تركية نحو الغرب»؛ أي أنهم يقرون ضمناً، أنّ تركيا باتت في الشرق، والآن تستدير نحو الغرب!
الانتباه لهذه المسألة أمر مهم لأنّه يعكس مدى «موضوعية» هؤلاء المحللين في قراءاتهم السياسية، وبالأحرى مدى عدم موضوعيتهم وتغليبهم للخطاب المسيس القائم على الرغبات والأحلام النابعة من مصالحهم، وليس من الواقع... وهذا يساعد أيضاً في تبين سلوكهم الحالي في قراءة السياسة التركية وتوجهاتها.
مرة أخرى، ينبغي التذكير بأنّ هؤلاء المحللين لا يجدون أنفسهم ملزمين بأن يفسروا لقرائهم ومتابعيهم أنهم كانوا مخطئين طوال سنوات في الحديث عن كون تركيا جزءاً لا يتجزأ من السياسة الأمريكية في منطقتنا؛ وهو ما يدل على استهتارهم بعقول الناس واعتمادهم على الذاكرة القصيرة علّها تغطي عورة أخطاء خطابهم السياسي.
هل هنالك استدارة فعلاً؟
بعيداً عن التحليلات الرغبوية، فإنّ المؤشرات التي ذكرناها أعلاه تحتاج إلى قراءة لتبين ما تعنيه من توجهات تركية، وهل تعكس فعلاً توجهاً جذرياً جديداً؟
لا شك في أنّ السياسة التركية خلال العقدين الماضيين، أي فترة حكم أردوغان، قد تميزت بقدر هائل من البراغماتية، وقل حتى الانتهازية؛ فخلال العقدين الماضيين دخلت تركيا في ثلاث نوبات على الأقل من طبيعة علاقاتها مع الجوار ومع العالم: في العقد الأول من هذا القرن: كان السائد هو «سياسة صفر مشاكل»، وكانت علاقات تركيا تسير في تحسن متسارع مع كل محيطها تقريباً، بل وحتى مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، ومع الصين وروسيا من الجهة المقابلة، مستفيدة من موقعها الحساس جيوسياسياً واقتصادياً.
في العقد الثاني، أو حتى 2016 على أقل تقدير: السائد كان العكس تماماً، حيث تدهورت علاقة تركيا مع كل جوارها، القريب والبعيد... والنقطة العلام التي كشفت انتقال تركيا نحو سياسة جديدة بالكامل، وتموضع جديد بالكامل دولياً، هي محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.
منذ تلك اللحظة اتخذ تطور السياسات التركية اتجاهاً ثابتاً تقريباً، وهو التحسن المضطرد للعلاقات التركية الروسية خصوصاً، والتركية الصينية بالدرجة الثانية. وكان انطلاق مسار أستانا عام 2017 نقطة علام في الافتراق التدريجي عن الغرب، ليس اتجاه سورية فحسب، بل اتجاه كل ملفات المنطقة... وصولاً إلى سلسلة التسويات الإقليمية التي انخرطت فيها تركيا خلال العامين الأخيرين مع السعودية ومصر وغيرهما.
السنوات العشر الماضية، أي منذ 2014 تقريباً، حملت انتقالات جيوسياسية، وإنْ تدريجية، في تموضع تركيا الدولي. ليس أقلها بطبيعة الحال الانضمام القريب لتركيا إلى بريكس. ولكن أبرزها: هو التعاون مع روسيا في مشاريع كبرى ذات طابع جيوسياسي: محطات الطاقة النووية، مشاريع البنية التحتية الضخمة، تحويل تركيا إلى نقطة توزيع عالمية للغاز بديلاً عن خطوط الغاز عبر ألمانيا وقربها، التعاون العسكري الذي لم تعد منظومة S400 إلا واحدة من عناوينه الكثيرة، إضافة إلى التعاون المتعاظم في المجال التجاري والسياحي وغيرهما، وكذا في جوانب سياسية عديدة بما فيها ما يتعلق بالشأن السوري.
هل يعني ذلك أنّه لا خلافات ولا تناقضات بين تركيا من جانب وبين روسيا والصين وإيران والدول العربية من جانب آخر؟ قطعاً لا، الخلافات والتناقضات هي من طبيعة الأمور، ولكنّ نوعية هذه التناقضات مختلفة اختلافاً جذرياً عن نوعية التناقضات بين تركيا والغرب...
جوهر المسألة يكمن في التالي: ليس لدى الغرب أي شيء إيجابي ليقدمه لأحد؛ ما لدى الغرب هو الابتزاز بالعقوبات والتخريب والحصار الاقتصادي، بالمقابل، فإنّ روسيا والصين وبريكس عموماً، تبني علاقاتها كلها على مبدأي السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية من جهة، وعلى المنفعة المتبادلة من جهة أخرى، والتي تعد نظرياً وعملياً بآفاق كبرى للتطور والتنمية.
ما يقوم به أردوغان هذه الأيام، ليس أكثر من مناورة إضافية معتادة، نابعة بالأساس من المخاطر الاقتصادية والسياسية الداخلية التي يساهم الغرب في تعميقها. ويمكن أن نسمي ذلك انتهازية أو براغماتية أو أياً يكن، ولكن ينبغي تمييزها عن الاتجاه الموضوعي الأساسي الحاكم لسير تركيا المستقبلي، بأردوغان ودونه.
التسوية السورية- التركية
كلمة السر في الاتفاق بين المتشددين من الطرفين السوريين في تشخيص ما يجري في تركيا بأنه «استدارة نحو الغرب»، رغبتهما في عرقلة ومنع سير التسوية السورية التركية، وحشد الذرائع والحجج في ذلك السبيل... وهذا ما لن يتمكنوا من القيام به، فالتسوية ماضية على قدم وساق، وباتت في مراحلها النهائية، وغياب الزخم الإعلامي حولها مؤشر إيجابي بعكس ما قد يظن البعض...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1131