«عودة» داعش والسياسة الأمريكية في سورية
منذ أكثر من عامين، أعلنت الولايات المتحدة هزيمة داعش في سورية، ثم في تشرين الأول 2019، قيل: إنّ زعيم داعش أبي بكر البغدادي قد قتل خلال عملية أمريكية خاصة في إدلب. منذ ذلك الحين، ومن وقت لآخر، تتناقل وسائل الإعلام بعض أنشطة تنظيم داعش التي تظهر ضمن وتيرة تتكرر بما يكفي لمنع نسيان داعش تماماً، وبما يكفي لإبقائها «على الخريطة».
مع ذلك، فمنذ أواخر العام الماضي، ارتفع عدد التقارير التي تتحدث عن عمليات إرهابية تقوم بها داعش، وبات تكرار تلك العمليات أكثر وضوحاً مجدداً، بعد فترة من «السُّبات» بين بدايات 2019 ونهايات 2020. وبغض النظر عن مدى صحة حجم هذا النشاط أو من يقف وراءه حقاً، فهناك العديد من الأشياء التي يمكن أن يحققها بمجرد دورانه كخبر في الأقنية الإعلامية، وكلها تقريباً تخدم مصالح أولئك الذين يعملون بلا كلل لتعميق الأزمة وجعل الخروج منها أشد صعوبة...
مراجعة سريعة
تم تشكيل «التحالف الدولي لهزيمة داعش» في أيلول 2014، ووصل عدد أعضائه إلى 83 عضواً، بقيادة الولايات المتحدة. في تشرين الأول 2014، أنشأت وزارة الدفاع الأمريكية قوة المهام المشتركة المسماة- عملية العزم الصلب (CJTF-OIR) لإضفاء الطابع الرسمي على العمليات العسكرية ضد داعش، وشنت أول غارة جوية لها على داعش في سورية في 23 أيلول 2014.
خلال عامٍ بعد الغارة الأمريكية الأولى وما تلاها من غارات للتحالف، كان الاتجاه الوحيد الثابت، هو أنّ سيطرة داعش كانت تتوسع بشكل هائل وسريع وبكل الاتجاهات في كل من سورية والعراق.
لم يتوقف اتساع داعش إلّا بعد عدة أشهر من انخراط القوات الروسية المباشر في القتال ضدها، والذي بدأ في نهاية أيلول 2015. واستمر الخط البياني لداعش هابطاً منذ أواسط 2016 حتى انتهت أية سيطرة جغرافية له مطلع 2019.
منذ نهاية 2018 وحتى أواخر آذار 2019، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أكثر من 15 مناسبة، أنه قد تمت هزيمة داعش، بل وزعم في بعض الأحيان أن جميع المناطق الخاضعة لسيطرة داعش قد تم تحريرها بنسبة 100٪. وفي كل مرة، كان على البنتاغون التخفيف من حدة الموقف، من خلال إصدار بيان تصحيحي مفاده أن الحملة ضد داعش لم تنته بعد، وأن داعش لا يزال يمثل تهديداً. ومع ذلك، كان من الواضح أن العمليات العسكرية ضد داعش في سورية قد انخفضت بشكل كبير. ولكن أيّاً من هذه الأمور، وخاصة انتهاء السيطرة الجغرافية لداعش، لم تُغير من السياسات المعلنة للولايات المتحدة اتجاه سورية، حيث وجد الساسة الأمريكيون «فتوى» تسمح ببقائهم عسكرياً عبر اختراع مصطلح «الهزيمة الدائمة» لداعش Enduring Defeat، والذي يمكن أن نعرّفه بالشكل التالي: (نحن، الأمريكيين، نعمل من أجل الهزيمة الدائمة لداعش. والهزيمة الدائمة لداعش تتحقق حين نقرر أنها تحققت!)
أواخر عام 2020 حتى الآن
في منتصف كانون الأول 2020 وردت أنباء عن انخفاض معدل هجمات داعش في سورية. ومع ذلك، بعد أقل من أسبوعين وقبل نهاية العام، كانت هناك بضع هجمات لتنظيم الدولة الإسلامية، أسفرت عن سقوط عشرات الضحايا. وقد تم تداول أخبار عن تحركات أخرى في الأيام القليلة الأولى من شهر كانون الثاني 2021. وشهدت الأسابيع الأخيرة ارتفاعاً في نشاط التنظيم في سورية مرة أخرى، ومرة أخرى شهدت عملياته تغطية إعلامية مكثفة.
بينما يواصل المسؤولون الأمريكيون الإعلان من حين لآخر أن الولايات المتحدة ستعيد قواتها من سورية، وستخرج من «الحروب اللا منتهية»، فإن الإجراءات الفعلية تتحدث بشكل مختلف. قبل يومين فقط، تلقت وحدة من الحرس الوطني في فيرجينيا أمراً بالتعبئة ضمن عملية «العزم الصلب» (أي: من المفترض أن يتم نقلها إلى سورية أو العراق)، مع إطارٍ زمني لنشرها في وقتٍ ما في الخريف. هذا الخبر بالكاد تجاوز وسائل الإعلام المحلية في فرجينيا، ولكن يبدو أنه تحرك للقوات في الاتجاه المعاكس لذلك الذي أعلنته الولايات المتحدة أو وعد به قادتها...
أشار المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، غِير بيدرسن، إلى النشاط المتصاعد الأخير خلال إحاطته الأسبوع الماضي إلى مجلس الأمن في 28 نيسان، حيث ذكر أن تنظيم داعش «استمر في تصعيد نطاق ومدى الهجمات في المناطق الوسطى، وفي شمال شرق سورية- في إحدى الحالات، ورد أن خلايا اختطفت عشرات المدنيين من ريف حماة». تناولت عدة وسائل إعلام غربية هذا الهجوم، وقبل يومين، أفادت إحدى وسائل الإعلام أنه وفقاً لـ «محللين أمنيين» في الاتحاد الأوروبي، من المتوقع أن يرتكب داعش المزيد من الهجمات في الأسابيع المقبلة وطوال الصيف.
بعض الأهداف والأسباب الممكنة
بناءً على ما سبق، وعلى قراءة المشهد على مدار السنوات القليلة الماضية، فإن وجود داعش و«تجدده الدوري» هو أمر يمكن لبعض الأطراف استخدامه لتحقيق عدة أهداف، سواء كانت تلك الأطراف مسؤولة عن «الانبعاثات الجديدة» لداعش أم لا...
إن نشاط داعش المتزايد والمستمر إلى حدٍّ ما.. هو ذريعة «مشروعة» و«مقنعة» في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة لمواصلة «محاربة داعش» لفترة ما، طالما أن مستوى النشاط عند أو أعلى من عتبة معينة. هذا الوجود الظاهر المستمر لداعش ونشاطه ربما يحقق على الأقل الأهداف الرئيسية التالية:
أولاً: استمرار الضغط الأمريكي على عدة جهات في الشمال الشرقي السوري، بما في ذلك جهات متناقضة فيما بينها، وهو ما سيحقق في حدّ ذاته بعض الأشياء، بما في ذلك إعاقة وتخفيض قدرة هذه الأطراف على الابتعاد عن الولايات المتحدة، خاصة مع الارتفاع التدريجي للوزن الروسي في تلك المنطقة.
ثانياً: وهو ما يُمكن أن نرى ملامحه إلى حد ما في النقطة السابقة، وهو أن نشاط داعش سيوفر ذريعة للولايات المتحدة للبقاء في سورية والمنطقة بشكل عام؛ وليس خافياً أنّ هنالك تيارين على الأقل، مختلفي المواقف، ضمن النخبة الحاكمة الأمريكية، من مسألة بقاء القوات في سورية أو انسحابها... وبالحدّ الأدنى هنالك اختلاف حول جدولة الانسحاب وتوقيتاته... إعادة إظهار نشاط داعش، يقوي «حجة» الطرف الذي يدعم استمرار بقاء القوات فترة أطول، والذي يرى في استمرار تلك القوات (وضمناً في استمرار ظهور داعش من وقت لآخر) أداة أساسية في تصنيع «المستنقع» السوري... وعدا عن الانقسام ضمن النخبة الأمريكية نفسها، فربما يكون هنالك انقسام من نوع آخر يلعب دوراً في النشاط الجديد لداعش؛ نقصد بذلك التباين الذي بدأ يتسع بين الأمريكيين و«الإسرائيليين» حول عدد من ملفات المنطقة وبينها النووي الإيراني... ما يفتح الباب أمام افتراض، أنّ «الإسرائيلي» يقوم بتحريك بعض خلايا داعش النائمة في أحضانه لتحقيق بعض الغايات قصيرة المدى...
ثالثاً، بما أنّ تنظيم داعش هو الجماعة الإرهابية الأولى عالمياً من حيث كثافة الأضواء الإعلامية التي ألقيت عليها (وذلك عبر التاريخ، وأكثر بكثير من القاعدة وفروعها)، فإنّ أية عملية للتنظيم تسمح بإعادة تدوير أسطوانة الرعب إعلامياً، وتخلق بذلك تشتيتاً مهماً عن تنظيمات إرهابية أخرى، خاصة النصرة في الحالة السورية، والتي تسمح عمليات جديدة لداعش بالتوازي مع عمليات التبييض التي يجريها الأمريكيون لها، بخلق درجة من «التباين» المصطنع بين التنظيمين، يسهل ويسرع عملية التبييض؛ ويجري تقديم النصرة بوصفها «شريكاً مقبولاً مقارنة بداعش»!، خاصةً عندما يركز جزءٌ من حملة التبييض على اختراع دور للنصرة الإرهابية في محاربة الإرهاب! كذلك يحاول معهد واشنطن وموقع مركز الأزمات الدولية وغيرهما تقديم النصرة وزعيمها للعالم...
رابعاً: عودة نشاط داعش وسيلة مهمة لإطالة أمد «الأمر الواقع». الفكرة باختصار هي التالية: مع إنهاء الوجود الجغرافي لداعش، والذي تلاه بعد فترة إنهاء كل أشكال المعارك الحامية في كل أنحاء سورية (تقريباً في أواسط 2019)، فإنّ جزءاً هاماً جداً من الأساس المادي لبدء الحل السياسي كان قد تمّ إرساؤه... ولكن عدم الذهاب باتجاه الحل، وتكريس تقسيم الأمر الواقع، كان يحتاج بالضبط إلى الاستفادة من «هدوء» مرحلة ما بعد المعارك، عبر استخدام الأدوات السياسية والاقتصادية بما في ذلك العقوبات لتحويل تقسيم الأمر الواقع من حالة مؤقتة إلى دائمة...
ولكن احتمال الانتقال نحو الحل السياسي في أية لحظة يبقى قائماً ما دامت المعارك متوقفة... ولذا ينبغي منع ذلك من وجهة نظر أعداء الحل، وعلى رأسهم الأمريكان، بإعادة إحياء مرحلة المعارك، أو الإيحاء بأنها عادت إلى الحياة... وطالما أن «المعركة مستمرة»، فتلك أداة مهمة بيد الفاسدين الكبار والمتشددين الذين لا يريدون أي تغيير، ولطالما استخدموا مسألة محاربة الإرهاب ذريعة لاستمرار نهب وقمع السوريين وتعطيل العملية السياسية.
خلاصة
إذا كان الجانب الاستخباري هو الأعلى مسؤولية ونشاطاً في مسائل تحريك تنظيمات من نمط داعش والنصرة، فإنّ ما لا يمكن تجاوزه هو حقيقة أنّ التردي الهائل والكارثي في الأوضاع المعيشية لعموم السوريين خلال السنوات الماضية، والسنة الأخيرة بشكل خاص، قد وفّر أرضية أوسع لعمل التنظيمات الإرهابية، خاصة أنّ هذا التردي مترافق بحالة من العجز وانغلاق الأفق من وجهة نظر عدد كبير من السوريين، ومن فئة الشباب خاصة...
بالمحصلة، ورغم أنّ عودة داعش المفترضة، ليست خبراً مفرحاً لأحد، ولكن الأكيد أنّها تعبّر عن معرفة مشغليها بأنه لم يعد ممكناً الاستمرار عبر الأدوات الحالية في منع تطبيق 2254، ولذا يجري فتح الدفاتر القديمة بحثاً عن حلول... هذا بحد ذاته قد يشكل مؤشراً مهماً أننا على عتبة الانتقال نحو مرحلة جديدة نوعياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1016