الحزب كسُلطة للشعب وضامن لوحدة الوطن
عملت الطبقات السائدة المستغلِّة على ترسيخ الانقسامات العمودية في مجتمعاتنا انطلاقاً من واقع «حرصها على تاريخ وتراث المنطقة»، لكن من وجهة نظر مصالحها الضيقة ودوام سيادتها، فإذا كانت الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية منطقيةً ومصانةً في مجتمعاتنا ولها تمثيلاتها السياسية، فما الذي يجعل الانقسام الأفقي بين طبقة غنية مسيطرة وأخرى فقيرة مُسيطَر عليها غريباً وخارج حدود المنطق والتمثيل السياسي؟!
ضرورة فرض المسحوقين أنفسهم سياسياً
بالابتعاد عن الخوض في بدهيات التقسيمات الاجتماعية الأفقية بين طبقة حاكمةـ برجوازية أو غنية، وطبقة محكومة مستَغلَّة وفقيرة، وهي بدهيات يُظهرها واقعنا المعاش يومياً في أزمتنا. وبالتصريح أن الحديث أدناه غير معني بأفراد الطبقات السائدة الذين لا يدخل تغيير واقعهم ضمن آمالهم طبعاً، فإنه:
إذا أراد كل إنسان من الطبقة المستغَلِّة تغييرَ الظلم الاجتماعي الواقع عليه وجَهِدَ فردياً في ذلك. فإن محصلة القوى لمجموع أفراد هذه الطبقة ستكون صفراً، طالما أنها دون تنظيم سياسي– أي: حزب وطني- يصهر مجموع هذه القوى ليعطيها محصلتها الحقيقية ووزنها الفعلي، ولن يتشكل الحزب- أو أن عمله سيظل خاضعاً للتأريض- دون وجود قناعة راسخة لفئات واسعة من المجتمع بضرورة التغيير الجذري لواقعها الحياتي. وتظل المهمة الأساسية للحزب هي في إخراج أوسع دائرة من طبقته من الحياد والسلبية السياسية التي هي شكل من أشكال التشاؤم وعدم الثقة بالمستقبل.
قد يبدو الحديث عن حزب سياسي مسألةً بعيدةً عن الواقع الاجتماعي في يومنا، ضمن مناخ الحريات الحالي وأجواء تفريخ الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني التي تتخذ من عملها المجتمعي إطاراً يزيح بعيداً وجهها السياسي المرتبط بالتمويل مثلاً بشكل أساس، غير أن الأزمات التي يعيشها الشعب تكفي لإيضاح مدى ترابط القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإذا كان ثمَّة رغبة بإيجاد فرق ذي أثر على الصعيد الاجتماعي والثقافي، فإنه ينبغي أن يتلازم بحل قضايا توزيع الثروة الاقتصادية بشكلٍ عادلٍ، كما أن مسألة تزاوج السلطة بالمال هي مسألة سياسية، وهي تدل بوضوح على أن اندماج الاحتكار الاقتصادي بالنفوذ السياسي، وأخيراً، إن لم تكن المسألة الاقتصادية مرتبطة بالسياسية، فلماذا يحدث القمع أو التضليل السياسي عند الاحتجاجات المعيشية ذات المضمون الاقتصادي؟!
إن تغييب المسألة الاقتصادية عن إطار البحث في فترات الأزمات، يؤدي إلى تحيز الأحكام ونظرة أحادية الجانب للأزمة بأكملها. ولابد من الإجابة عن التساؤل الخاص بأي الطبقات التي يقع عليها العبء المالي والإنساني لحل كل مشاكل الدولة وتنميتها، ليظهر لنا أنها ذات المصلحة في كسر شكل التوازن القائم وتجاوز شكل العلاقات الاجتماعية القائمة، العاجزة عن الاستمرار وحل تناقضاته، نحو شكلٍ آخر يرتبط بمكانة الطبقات ذات المصالح الاقتصادية الفعلية.
من هنا، علينا ألّا نغفل أولاً: المبدأ الأساس الذي تقوم عليه الأحزاب البرجوازية، وهو مبدأ تقسيم العمل، أو بمعنى صريح وجود حكام ومحكومين، وهذا التقسيم قائم في هذه الأحزاب نفسها، وفي الكتل من الطبقة البرجوازية التي تمثلها. وهو المبدأ الذي يفترض الطّاعة كأمرٍ بدهي في الحياة يقوم على ردم رغبات المحكومين بِخلْقِ ظروف تغيّر واقعهم، على أن الأمر الأهم فيه هو افتراضه للعِصْمَة، وإلقاء اللوم في الخطايا على من (هم تحت) أي: على المحكومين.
ثانياً: في الدول البرجوزاية، الأحزاب البرجوازية تعبر عن السلطة السياسية لجماعة اجتماعية تملك ولا تبدو أنها تحكم، وهنا بالذات تكمن وظيفة هذه الأحزاب في عدم الكشف عن هذه الجماعة. والأحزاب هذه ليست معذولة عن المجتمع، فلها إضافةً إلى الأعضاء وجملة مثقفيها، الأصدقاءُ، والمعارضون الذين تعجز عن تقديم تنازلات لهم تمس بقواعد هيمنة طبقتها، والأعداء الذين تستخدم العنف المباشر معهم، غير أن الأهمية الأساسية تظل في الحصول على موافقة شرائح غالبية من المجتمع، ليست بالخصوم لها في المضمار السياسي المباشر، وغالباً ما يتم الحصول على موافقة هذه الشرائح بمواقفها الحيادية أو بسلبيتها السياسية. وعلى ذلك، فمسألة دوام الحال هي مسألة خروج قطاعات واسعة من الشعب من العملية السياسية وتحييدهم عنها.
إذاً، وطالما أن للطبقات المستغِلة أحزابها، ينبغي أن يفرض المستغَلون أنفسهم سياسياً بأحزابهم لإحقاق حقوقهم المشروعة هنا على الأرض.
الأحزاب التقليدية
(لا يوجد الحزب بقواه الذاتية- غرامشي)، بل إن ظروفاً ماديةً وتاريخيةً تحدد نشأته وأسبابها، وعند تشكله تكون أسباب انتصاره وتسيّده قيد التشكيل. وتاريخ الحزب هو تاريخ الحياة الاجتماعية بكاملها، وتاريخ الدولة ذاتها في جانب من جوانبها متضمناً علاقاتها الدولية، في فترة تاريخية محددة، بما يُظهر مكان ويُحدد وزن وأهمية الحزب في هذا الجزء من تاريخ الدولة.
وعند القيام بأية تحركات أو تشكل تحزبات في المجتمع، ينبغي النظر إلى المحتوى الاجتماعي للفئات الشعبية الممثَّلة، ولوظيفة الفئات التابعة، والهدف من التحزّب، وأخيراً: الوسائل المتبعة لبلوغ الهدف، وهو ما يحدد طبيعة ووظيفة الحزب بأكمله.
وللحزب إحدى وظيفتان: تقدّمية أو رجعية. بمعنى إما أنه تقدمي يتجه إلى ضبط القوى الرجعية ذات المصالح الضيقة، ويمارس سياسةً تصل بالشعب إلى المستوى الذي يستحقه ضمن أطرٍ حقوقية وثقافية وفلسفية جامعة على أساس برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي يحقق أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية، بهدف التغيير الجذري لشكل العلاقات القائمة في المجتمع- وعلى هذا الأساس تَشكَّل منطقياً- ، وهو ديمقراطي. أو أن يكون الحزب رجعياً يعيق نمو وحركة القوى الحيّة في المجتمع محافظاً على أطر تجاوزها الزمن، وهو عند ذلك بيروقراطي (منفِّذ وليس مقرِّراً).
وفي الدول البرجوازية، يعبر الحزب عن كتلة اجتماعية ضمن طبقته كما بيَّنا أعلاه، وهو إذاً يمثل مصالح هذه الطبقة، ومن ضمنها الأحزاب الممثِّلة لكتل اجتماعية تنتمي إلى تلك الطبقة. وهو يعمل على تطوير جماعته بموافقة الأحزاب المتحالفة معه، بل بموافقة حتى الأحزاب المعادية له في شروط وظروف تاريخية محددة.
وعلى اعتبار وجود حزب أو حزبين أساسين كما هو شائع في الأنظمة البرجوازية، فإنه من الجدير الإشارة فيما يخص التنظيمات الحزبية الأخرى في هذه الأنظمة:
بافتراض الخطأ في الرؤيا بحسن نية، لقد كان الفصل بين الاقتصاد والسياسية والمجتمع سبباً مباشراً لسقوط تنظيمات سياسية في (البيروقراطية وانتهازية الاستنكاف عن التفكير في السلطة والمغامرات اليسارية والانتهازية اليمينية)، إضافةً إلى الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني المؤرِّضَة لقوى المجمتع الحية، وهو ما أسبغ على السلطة وأحزابها مظهرها الديمقراطي المزيف.
بافتراض القصد، تكون الأحزاب شكليةً، وتتركز مهمتها في استمرار شكل العلاقات القائمة عن طريق محاولات حصر المشاكل، أو عراقيل تطور المجتمعات بنزعات ثقافية وأخلاقية واقتصادية صوريّة تبتعد عن السياسة. وهكذا يظل (المركز القيادي أو من يملك) خفياً.
أضف إلى أنه في المنعطفات التاريخية الحاسمة، لا بد لزعامات هذه الأحزاب أن تكشف عن اصطفافاتها الحقيقية وراء الحزب أو الأحزاب المركزية، وهو ما يؤدي إلى تجميد حركة عناصرها المنضوية فيها للحد من قوة تغيير الشروط، التي باختفائها سيتهدد النمط السائد من العلاقات الاجتماعية والتقسيم الطبقي برمته.
نحو نظرة واقعية وإلى المستقبل
من المهم الإشارة إلى أن الخلل الذي يجري في فترات الصعود الثوري، ولدى حدوث تحركات واحتجاجات وانتفاضات، هو في طابعها العفوي وغياب الخطة. وبمعنى أوضح، غياب حزب الطبقات الشعبية. ففي هذه الفترات تتشكل رؤى وأفكاراً ووجهات نظر متعددة تتعلق بحل التناقضات الاجتماعية، وغياب الخطة هذا يعرِّض– وقد عرَّض– هذه التحركات لخطر الشرذمة والتشظي والتبعية إلى أجندات خارجية تهدد الوجود الوطني كله. فمسألة تخريب القائم، يجب أن يقابلها البناء، وهو ما يحققه برنامج سياسي لحزب سياسي ممثِّلاً لإرادة جزئية أولاً، ومهيئاً لتلاحم الإرادة الجماعية معه تالياً. وهو ما تعيه الطبقات الحاكمة، ما يفسر سياستها في منع تشكل مثل هذا الحزب في ومن طبقته.
وضمن واقع التدويل الحاصل في أزمنة الأزمات، ولأن للدول مصالحها، ومن حيث إن للحزب وظيفة، فإن الأزمة ستشكل امتدادات لمصالح هذه الدول عبر (أحزابها) في الداخل. لكن الشك في جميع الأحزاب هو شك الضعيف، أضف إلى أن ضعف وتشرذم القوى الحيّة في المجتمع يقوّي العامل الخارجي وتأثيره على العلاقات الداخلية.
فإذا كانت جميع الأطراف والطبقات السائدة محلياً ودولياً تسعى إلى مصالحها بجعل الشعب أداتها وحطبها، وفق خطط ممنهجة تضمن أعلى ربحٍ في الوقيعة السياسية المحلية والدولية، فلماذا لا يسعى الشعب نحو خلاصه الجماعي وفق خطة ممنهجة لانتصاره؟
تكمن أهمية حزب الطبقات الشعبية اليوم في العبور بالمسألة الوحدوية للوطن إلى المسألة الأكثر عمقاً، وهي الحفاظ على هذه الوحدة بحل المسائل الاجتماعية والقضايا الاقتصادية والسياسية التي باتت تهدد وجود الإنسان ذاته على أرض وطنه.
إن الإرادة هي الوعي الفاعل للضرورة التاريخية جماعياً. ودور الحزب الوطني يأتي في تقديم رؤيته وفي إعادة الاعتبار لإرادة الإنسان في التغيير المنظم غير الاعتباطي، لتصبح فعالةً فعلاً. فما (يجب أن يكون) هو الاستناد على هذه الإرادات التي تعتبر تقدمية لخلق توازن جديد في المصلحة العامة، وهو ما يسميه غرامشي (التفسير الوحيد الواقعي والتاريخي للواقع أو السياسة الوحيدة). ولدى الحديث عن المصلحة العامة ينبغي توسيع زاوية الرؤيا لتشمل التراث بما هو حركة مستمرة حتى الحاضر لتشمل المستقبل، والمصلحة العامة في اللحظة الراهنة هي المسؤولية عن الاستمرارية وعدم الانقطاع في حركة التطور التاريخية.
ومن هنا، تأتي أهمية أن يقوم الحزب الوطني بتعيين وفهم المستويات المختلفة لعلاقات القوى المختلفة سواءٌ على الصعيد الدولي أو الداخلي، واعتبار مسألة العلاقات على المستوى الدولي تابعة، وليست سابقة على المستوى الداخلي والتقسيم الطبقي. إذ أن أي تغيّر في البنية الاجتماعية الطبقية في الداخل، ينعكس على (العلاقات المطلقة والنسبية في المجال الدولي عبر تعبيراتها التقنية والعسكرية- غرامشي). بل إن موقع الدولة جغرافياً يتأثر بتلك التغييرات في البنية الاجتماعية الداخلية. ويمكن ملاحظة أن أشدّ الأحزاب تمثيلاً لوضع التبعية الاقتصادية للعلاقات الدولية، والمعارِضة لأية مكاسب إضافية ولأية أحزاب أخرى، هي أكثر الأحزاب التي تحوز الدعم على مستوى العلاقات الدولية، عكس الأحزاب الوطنية الممثلة للاستقلالية الاقتصادية.
أخيراً، وبعيداً عن التنظير السياسي، إن المسألة المنهجية التاريخية للحزب تنطلق من مبدأين أساسين:
الأول: أن أي مجتمع، لا يمكن أن يطرح على نفسه مهاماً لا تكمن في داخله شروط حلها، أو على الأقل هي قيد التطور.
الثاني: إن أي نظام اجتماعي لا يموت دون تطور علاقات إنتاجه إلى الحد الذي يستحيل عليه أن يسَعَها، ما ينتج عنه نظام اجتماعي آخر له علاقات اجتماعية جديدة تطورت أسباب نشوئها ووجودها في النظام القديم.
ويبدو أن مجتمعنا ليس خارج إطار هذين المبدأين، كما أن حزبنا الموجود على أرضه ينطلق من حقيقة وواقعية هذين المبدأين.