ترامب «يقرر» إحياء الاتحاد السوفيتي!
لسخرية القدر أصبح الأمر واضحاً اليوم فقط وهو: لماذا «تدخل بوتين بنتائج الانتخابات الأمريكية، وأتى بترامب إلى السلطة»!– لأن ترامب «سيجعل روسيا عظيمة من جديد»..
لقد دفعت هيستيريا العداء لروسيا في الولايات المتحدة الأمريكية أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في مجلس الشيوخ الأمريكي لتقديم مشروع قانون يتضمن عقوبات جديدة وصارمة ضد روسيا، وهي العقوبات التي وصفها رئيس الوزراء الروسي، دميتري مدفيديف، بـ»إعلان حرب اقتصادية». وبالفعل فإن تجميد الأصول المالية، وحظر التعاملات بالدولار الأمريكي تشبه تماماً العقوبات الصارمة التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران.
تبديد الأوهام
من الواضح أن أمريكا قد فقدت أية صلة لها بالواقع في خضم الهيستريا المناهضة لروسيا، كما يبدو كذلك أنها لا تفهم أن عزل روسيا، على غرار ما يحدث مع إيران، هو أمر مستحيل، وبالرغم من أن هذه العقوبات مؤلمة، إلا أن الضرر الذي سيطال أوروبا وبقية الشركاء التجاريين لروسيا من عزل موسكو سوف يكون كارثياً بحق.
ما يعني: أن العقوبات لن تعزل روسيا، وإنما ستعيد تنظيم التدفق التجاري بعيداً عن الولايات المتحدة الأمريكية والدولار، أي: ستخفّض من مناطق تداول الدولار في العالم، وبالتالي من سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية، بذلك فإن واشنطن بتلك العقوبات تشبه شخصاً يطلق الرصاص على قدميه من فوهة آر بي جي. فالحديث عن أي حصار لروسيا أمر مثير للضحك، فأية محاولة عسكرية لإعاقة التجارة الروسية ستجد في المقابل رداً عسكرياً مضادّاً، ودعونا نبدأ ساعتها في عدّ أي الأطراف يمتلك عدداً أكبر من الرؤوس النووية. وعلى أية حال فإذا كان المواطنون الروس لم يشعروا في حياتهم اليومية بالعقوبات الأمريكية السابقة ضد روسيا، فسوف يلاحظون هذه العقوبات، لكن أثرها على حياتهم لن يكون كبيراً.
وهذا ليس مربط الفرس.. فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي ظهرت نخب روسية تميل نحو الغرب، بل كان هناك توجه عام، يرغب في التكامل مع أوروبا، وبناء فضاء جغرافي واحد من لشبونة غرباً وحتى فلاديفوستوك في أقصى الشرق، وكانت أغلبية الروس آنذاك، وفي مقدمتهم النخب الروسية، يعتبرون أن الطريق الذي سلكته روسيا لقرون مضت، وانفصلت من خلاله عن أوروبا هو خطأ يجب إصلاحه. وذهبت الآمال بالحالم غورباتشوف إلى أنه من الممكن إيجاد توافق كامل، والعيش بسلام كأسرة واحدة. لكن الحقيقة اتضحت فيما بعد، وهي أن العيش بسلام مع الغرب يعني: الانصياع الكامل ومنح مفتاح البيت للسادة في واشنطن، وربما ترك البيت والذهاب إلى الفناء الخلفي للحياة هناك.
ضرورات التاريخ والسياسة
قاومت النخب الروسية طويلاً وبعناد تلك الحقيقة، لكن الغرب، من جانبه، ترك لها وبقدر العناد نفسه، مساحة أقل للحفاظ على تلك الأوهام، وارتفعت حدة العدوان الغربي، خطوة تلو الأخرى، حتى وصلت إلى لحظة الحرب الاقتصادية التي نواجهها اليوم. وأنه لولا امتلاك روسيا للسلاح النووي، لكانت هناك حرب أخرى حقيقية تدور رحاها الآن، بل أظن أن التصعيد الغربي لم يبلغ ذروته بعد، ولا أستبعد إمكانية اندلاع نزاع مسلح في المستقبل.
لكن الأهم من ذلك كله، هو: أننا نستطيع الآن أن نؤكد أن قوة الطبيعة، والسياسة الطبيعية «الجيوبوليتيكا» تظهر لنا من جديد لتضع النقاط على الحروف، وليعيد الغرب لروسيا مكانتها في أن تصبح حضارة مستقلة بذاتها، ولتصدّ هجوم الأعداء وتزداد بذلك صلابة وقوة.
إن تاريخ روسيا بأسره مليء بهجوم الأعداء، والانتصار عليهم، وضمّ أراضيهم لدرء تهديداتهم في المستقبل، حيث يستند الوجود الروسي على اتساع نفوذ البلاد للمناطق التي توفر لها الأمن ودرء التهديدات الخارجية، وهو ما فرضته ضرورات التاريخ والسياسة الطبيعية، حيث تعيّن على أية دولة تحتل منطقة وسط أوراسيا أن تحلّ تلك المشكلة أو تختفي من الوجود، وعلى من يشغل فراغ الدول المختفية أن يتبع النموذج نفسه بدوره.
فواتير واجبة التسديد
بالطبع كانت مقدمة المقال نكتة واضحة حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، ومن الواضح الآن أن فكرة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لم تكن سوى إحدى الأوراق السياسية التي اخترعتها هيلاري كلينتون في حملتها الانتخابية، والتي تستخدم الآن من المؤسسة القديمة في الولايات المتحدة الأمريكية للحد من سلطة ترامب، وللعدوان على روسيا.
إن علينا أن نشكر السيدة كلينتون وليس ترامب، مهما حملت تلك العبارة في طياتها من التناقض، لأنها وضعت، من خلال اختراعها لـ «رشاغيت» Russiagate، النخب الروسية على طريق الصواب.
لقد تعوّدت الولايات المتحدة على منطق القوة، وتعوّدت ألّا تفكر في التداعيات أو في خطوتين إلى الأمام، وهو ما يجعلها تسدد فواتير قراراتها دائماً، بدءاً من فييتنام. وبينما تقع الولايات المتحدة تحت تأثير التنويم المغناطيسي لـ «رشاغيت»، دون أن تفكّر خطوتين إلى الأمام، فإنها تدفع روسيا إلى طريق استعادة عظمتها.
قد لا يكون ذلك أمراً سهلاً، ولكننا تمكّنا من ذلك خلال الألف سنة الأخيرة، وأعتقد أننا سوف نتمكن من ذلك هذه المرة أيضاً.
محلل سياسي روسي