إنقاذ الوطن مهمة الوطنيين
كلف عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بمهمة أسموها مهمة أممية عربية، وجاء دمشق وذهب إلى عدة عواصم وفي ذهنه أن يرتبط اسمه بحل عجيبة القرن الواحد والعشرين، وملأ ذهنه بموضوعة إعادة اسمه إلى السياسة الدولية بوصفه سياسياً بارعاً وذا حنكة عقلية.
لقد حدد العنصر الأول في وضعه ووجد أن إيقاف إطلاق النار هو الدرب الذي يعبد المسالك كافة، وسعى إلى حشد القوى الدولية والعربية كي يتم إيقاف إطلاق النار واطمأن الرجل إلى مواقف السلطات السورية وقادة المعارضة، وربما غاب عن ذهنه أن الكثير مما سمعه في المحافل الدولية ومعها قرار مجلس الأمن، غاب عن ذهنه طبيعة السياسة في ظروف الإمبريالية وعودتها وخاصة في ظروف أزمتها، وغاب عن فطنته طبيعة السياسة في البلدان الراسمالية «النامية» وما يلوذ في طيات حياتها السياسية من خصائص وميزات وانحطاط، ويبدو أنه أراد أن يغطس لكنه خاف أن لا يستطيع العودة إلى السطح، ولم يستوعب بصورة جادة أن الرأسمالية في عصرنا أضافت الكثير من الوقائع السياسية اليومية التي لم ترد في قاموس ميكيافليي.
وإذ تحرينا الحقيقة، فإن الأمر البدهي يدعونا إلى القول بأن الولايات المتحدة والصهيونية وساركوزي وغيرهم لم تتكون عندهم القناعة بأن ما جرى من تدمير في سورية وصل إلى ما يلبي خططهم، رغم أن التدمير الفادح جرت وقائعه في ميدان العلاقات الاجتماعية، وفي هذا الصدد لا ينسى أي وطني مغزى ما قاله باراك وزير الحرب الإسرائيلي عندما نوه إلى أنهم يستعدون لاستقبال آلاف اللاجئيين السوريين، ثم إن إدارة أوباما وغيرها رافقت مهمة عنان بالتصريحات الاستفزازية التي تضمنت بصورة غير مباشرة (؟) توجيهاً تمركز على أنه لا يجوز التخلي عن تنحية الرئيس السوري ـ
أنضيف أن فصول الأزمة السورية لم تصهر المعارضة السورية في البوتقة التي تريدها الدول الإمبريالية لكل المعارضة؟ إن ذلك تعلنه إدارة أوباما وساركوزي عندما يطالبان بتوحيد المعارضة ويكمن في تلك النصيحة أمور عديدة من أهمها تعميق العداء الشعبي لروسيا والصين وإنهاء ارتباط مفهوم الوطنية بالعداء للمصالح الاستعمارية وضرب المفهوم الوطني الخاص بالجولان المحتل. ورغم أن البديهات الوطنية تتضمن إدراك الأهداف الإمبريالية والصهيونية إلا أن الوقائع تشير إلى أن النظام والمعارضة لم يستطيعا تأمين وقف حقيقي وشامل لإطلاق النار.
ويخال للبعض أن وجود /300/ مراقب على الأراضي السورية سيؤمن متطلبات إيقاف إطلاق النار لأن إنقاذ الوطن إذا ارتقى إلى المهام والواجبات الإستراتيجية، فإنه وحده يحول دون ردود الفعل ويحول دون الانجرار إلى معارك بمختلف الأسلحة عند إطلاق رصاصة من هذا الجانب أو ذاك، أليس تساؤلاً مشروعاً القول بأن إنقاذ الوطن يتطلب إيقاف الاعتقالات والمداهمات وإطلاق سراح المعتقلين، أليس ارتباط مفهوم الوطن «بالقضاء» على النظام وعدم التمييز بين «الحسم والنصر» من جهة وإنقاذ الوطن من جهة أخرى كلها دلالات على عدم الجدية في مسالك استراتيجية جديدة.
إن الحقيقة المرة هي أن الأطراف السورية غير قانعة بالحوار إلا باعتباره حكماً بالإعدام على الآخر، هذا هو ما في الجعب السورية، فالحوار عندهم ليس حلاً وطنياً لكنه سلاح آخر «للحسم والنصر» وذلك هو الذي يفسر حقيقة ما يجري على الأرض. وهو الوجه الآخر لما يعتمد لتبرير استمرار العنف والقتال في المدن، وهو البعد العميق الذي لا يعبر عن هشاشة وقف العنف كما يقال، لكنه يفسر الأبعاد الفعلية لكل رصاصة وقذيفة كما أن الشعارات لا تشكل عاملاً لتأمين إيقاف إطلاق النار.
لا ينبغي استغراب الكثير من الظواهر، والجهة الوحيدة القادرة على تهيئة المناخ لحوار حقيقي هي روسيا، ولكن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي بالأمس، وتناقضاتها مع الولايات المتحدة وغيرها ليست من نوع تناقضات الاتحاد السوفيتي والإمبريالية العالمية، ولا يخفي لافروف وغيره أن همومهم تتمركز على مصالحهم في سورية وفي الإقليم بأكمله، ومن غير المستغرب أن ذلك الحوار هو في وضع الميت سريرياً، وليس خارج الحقيقة القول بأن دول جوار سورية وفي المنطقة لا تؤدي سياساتها إلى الحوار الحقيقي، إنها بهذا الشكل أو ذاك تصرخ متحدثة عن خطر الطائفية وشرورها وآثامها ولكن سياساتها في حقيقة الأمر تؤسس للطائفية.
تعبر روسيا الخاسر الأكبر من الطائفية في المنطقة وخصزصاً مع إمكانية امتدادها للداخل الروسي، وهي إذ تدرك ذلك تسعى إلى أن يردم الحوار الكثير من مطبات الطائفية وما يساعدها على ذلك هو أن للشعب السوري في تاريخه صفحات ناصعة من نماذج الوحدة الوطنية العابرة للانتماءات التقليدية من طائفية ودينية وغيرها. لكن ما يجب التنبه إليه بأن الطائفية وإن لم تقطع خيوط النسيج الوطني السوري بعد، لكنها ذهبت أفقياً وعامودياً في الوعي الاجتماعي.
ويظل عنان الطرف الآخر الذي لهث وراء الحوار رغم أنه لم يحل الكثير من العقد التي تسبق الحوار والتي لا تتوقف عند وقف إطلاق النار. فهناك قضية المعتقلين ومشكلة التظاهر السلمي ناهيك عن سحب الجيش إلى ثكناته والاكتفاء بالشرطة كما هو حالها في الوضع العادي.
إن المخاطر واردة على سورية واستمرار القتال وإن بوتائر متعرجة إلا أنه سيفتح الأبواب الواسعة أمام المشروع الأمريكي كي يأتي التدمير شاملاً ولا سيما وأن ما سمي بـ «مؤتمر أصدقاء سورية» خلال اجتماعهم الثالث في باريس حرض على استمرار القتال والاستعداد أكثر فأكثر لتأمين متطلباته. إن كل ذلك يدفع في اللحظات الراهنة إلى أقصى درجات اليقظة الوطنية التي يحكمها اليوم إنقاذ الوطن والتفكير به وليس بأي شيء آخر وإن السلطات السورية هي أول ما تضعه الأيام الراهنة على المحك كي يكون إنقاذ الوطن استراتيجية ثابتة ومتطورة وبعيدة عن الاقتتال، وأصبح التناقض صارخاً بين إنقاذ الوطن واستمرار العنف والقصف والقتال، لأن إنقاذ الوطن بإيدي السوريين، أما الأطراف الأخرى، فلا تريد لسورية المستقبل إلا أن تكون أداة في الاستراتيجيات الاستعمارية.
إن الوطنية العميقة لهذا وذاك تتجلى في الأزمات، وعندما المهمة إنقاذ الوطن، فإن كل شيء يصبح واجباً وطنياً واليوم ليس نهاية التاريخ، وغداً سيكون عظيماً للوطنيين الذين يعرفون جيداً بأن الإمبريالية لا تطمئن إلى الشعب السوري.