واقع الحركة السياسية وآفاقها (1 من 2) هناك تنظيمات تعمل بكل شيء إلاّ بالسياسة مفهوم لينين للحزب: أداة واعية للتحكم بالعمليات الاجتماعية

■ هناك هوة بين الجماهير والحركة السياسية.

■ حزب لايمارس دوره الوظيفي هو وهم حزب.

■ تراجع الحركة الثورية العالمية بدأ منذ أوائل الستينات.

■ تكرس التراجع بانهيار الاتحاد السوفييتي.

■ أزمة الأحزاب سببها التناقض بين الهدف المعلن والواقع الملموس الذي ابتعد عنه.

■ الإنكفاء أنتج قيادات لاتسعى إلاّ وراء مصالحها الضيقة.

■ تراجع الحركة الثورية ومد الرأسمالية العالمية ينتهي اليوم ليحل محله العكس.

■ الامبريالية الأمريكية محكومة بالحرب للخروج من أزمتها المستعصية.

■ المجتمع لايقبل الفراغ، والحزب الذي لايؤدي دوره الوظيفي، سيأتي من يحل محله.

بدعوة من المركز الثقافي في السقيلبية، ألقى الرفيق د. قدري جميل محاضرة تحت عنوان: «واقع الحركة السياسية وآفاقها»، وذلك بتاريخ 28/1/2003.. ونظرا ًلأهمية الموضوع المطروح ننشر مقاطع مطولة من هذه المحاضرة:

هناك مشكلة في الحركة السياسية في البلاد، يمكن تشخيصها بوجود هوة بين الجماهير والشارع من جهة والحركة السياسية من جهة أخرى. وهذه الهوة تزيد أو تنقص عند هذا الحزب أو ذاك، وبحسب هذا الحزب أو ذاك. إذ أن هناك أحزاباً بينها وبين الشارع حالة قطيعة، وهناك أحزاب وضعُها أفضل نسبياً ولكن هناك أيضاً مشكلة بينها وبين الشارع، تحاول أن تعالجها، تنجح أحياناً وتفشل أحياناً أخرى..

 إذاً فالمشكلة قائمة بكل الأحوال. وعند تشخيص القضية بشكل موضوعي من أجل معالجتها، علينا أن نقر ونعترف بأنه خلال السنوات الخمسين الماضية كان هناك ابتعاد تدريجي للجماهير عن العمل السياسي، أو بمعنى أدق، ابتعاد الأحزاب السياسية نفسها عن الشارع... فهناك أحزاب تعمل بكل شيء ما عدا السياسة، هذه المسألة خلقت مشكلة بشكل عام بين قيادات الأحزاب وقواعدها، وبالتالي بين الأحزاب وجمهورها، ولكي نحيط بالموضوع مضطرين للكشف عن هذه الأسباب للوصول إلى معالجتها.

من المعروف أنه يجب النظر إلى أي ظاهرة نظرة شمولية، لذلك عندما نبحث الظاهرة السورية يجب أن نعرف أن سورية ليست خارج هذا العالم، فهي جزء منه، وبالتالي عندما نبحث هذا الموضوع فنحن مضطرون أن نبحث في التاريخ وفي العالم حتى نصل إلى سورية لأنها كما أسلفنا جزء من كل.

إن الحالة التي نتحدث عنها هي حالة عامة، ولكن لها خصوصيتها في كل بلد، وهذه المشكلة بالتالي ليست مشكلة سورية وحدها اليوم، لأن العالم كله اليوم يواجه مشكلة من هذا النوع بشكل عام.

الدور الوظيفي للحزب

الأحزاب السياسية، بالمعنى التقليدي، تعاني من مشكلة لابد من حلها. بعضهم يفكر فيها ويبحث عن الحلول، والبعض الآخر يضع رأسه في الرمل كالنعام ظاناً أنه إذا لم ير الناس فالناس لا يرونه. فعندما نتكلم عن الواقع السياسي يجب أن نتفق على المفاهيم: أولاً: مامعنى سياسة، ما معنى حركة؟ أن أدق تعريف للسياسة هو تعريف لينين «إن السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد». وماذا يعني الاقتصاد، حسب الاقتصاد السياسي يعني علاقات الإنتاج، يعني علاقات الملكية، يعني مصلحة اجتماعية. والمصلحة الاجتماعية تعبر عن هذه الشريحة أو تلك من المجتمع.

والسياسة حتى تكون سياسة يجب أن تعبر عن مصالح اجتماعية ـ اقتصادية محددة. والحركة أو الحزب حتى يكون حركة أو حزباً، يجب أن يعبر عن مصلحة اجتماعية ـ اقتصادية محددة، عندها يحصل على دور وظيفي في المجتمع.

الحزب بالمعنى العلمي هو مجموعة من الناس يعبرون عن مصالح طبقة اجتماعية محددة، ولهم مكان ووظيفة في المجتمع. لذلك لا يوجد حزب دون وظيفة، والأحزاب التي تدّعي أنها أحزاب ولا تمارس دورها الوظيفي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً فهي شبه أحزاب، بل وهم أحزاب..

الحركة السياسية، هي أحزاب وقوى وحركات. أما السياسة فهي تعبير عن مصالح اقتصادية، والأحزاب والقوى والحركات لها وظيفة في المجتمع. بهذا الشكل يمكن تناول الموضوع ومعالجته.

الصعود والهبوط

بريجينيف:"استمرار التراجع" خروتشوف:"و بدء التراجع منذ المؤتمر العشرين" ستالين:"سقط علم التحرر الوطني من يد البرجوازية" لينين:"الحزب أداة واعية"

لو عدنا إلى الوراء قليلاً، إلى القرن العشرين لنلقي نظرة موضوعية على تاريخ الحركات السياسية فيه ككل، للاحظنا المفارقة التالية: وهي  صعود الحركات السياسية في النصف الأول من القرن العشرين ووصولها إلى قمة تأثيرها على المجتمع وعلى مجمل الحياة السياسية حتى آواخر هذا النصف، ونلاحظ من ناحية أخرى، ومنذ أوائل الستينات، بدأ تراجع دور هذه الحركات في حياة المجتمعات وتراجع السياسة ككل وبداية حدوث الهوة التي ارتسمت بوضوح الآن بين الجماهير والشارع من جهة، وبين الأحزاب المدعوة أن تمثلها من جهة أخرى. يجب أن لا نبقى أسرى الخطأ ونقول إن المشكلة بدأت الآن، بينما هي أكثر شمولية وعمقاً. المشكلة هي أن هناك أحزاباً في القرن العشرين نشأت ونهضت وتراجعت، وكان قمة صعودها في آواخر الخمسينات، وهذا ما حدث في العالم كله.

 وانطلاقاً من هذا التوصيف يجب أن نطرح على أنفسنا سؤالاً: لماذا جرى ذلك؟ وللإجابة على هذا السؤال فإن هناك العديد من القضايا يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، وإن كنا لا نعرفها فنحن مضطرون للتعرف عليها، وعلم المجتمع هو مثل كل العلوم الأخرى يتطور ويكتشف ويستخدم أدوات علم تتحسن باستمرار..إلخ

لقد أصبح الحديث في هذا الموضوع قضية هامة وهي جديدة. نسبياً الجميع يخوض الحديث فيها، وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فكما للثورة قوانينها، فإن للردة قوانينها أيضاً. وبمعنى آخر، التقدم التاريخي هو تطور مَوْجي بين مد وجزر، والمحصلة للمد والجزر، المحصلة التاريخية هي التقدم...

دروس تاريخية

وللدليل على هذا الكلام سأعرض مثالين تاريخيين:

المثال الأول: عن انتصار الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، وبانتصارها انتصر الاتجاه اليساري الذي دام سنوات، وبعد ذلك جاءت موجة اليمين وصولاً إلى الردة الكاملة. فالثورة الفرنسية صنعت أول جمهورية وأسست بعد ذلك إمبراطورية وأنتجت إمبراطوراً هو (نابليون بونابرت).

درس لينين هذه الثورة واستند إليها. فكما هو معروف فإن البلاشفة الذين استلموا السلطة في أكتوبر 1917 كان عندهم أمل في أن تتحول وتتطور السلطة السوفييتية إلى ثورة عالمية لدحر الرأسمالية. وهذا ما لم يحصل، بل حدث انكفاء في الحركة الثورية العالمية واستطاع لينين أن يرى هذا الانكفاء وطرح حينها قضية هامة بنى على أساسها سياسة «النيب»، السياسية الاقتصادية الجديدة، وهي سياسة تراجع على طول الجبهة وقال لينين في الثورة الفرنسية: كان هناك اتجاهان: اليعاقبة والجيرونديون، يسار ويمين، وأكد لينين أنه يجب أن نفعل بأنفسنا بدكتاتورية البروليتارية ما فعله الجيروندنيون بفرنسا، وبمعنى أخر عندما تكون الموجة المرتدة لا مفر منها، يجب التحكم فيها حتى تصل إلى حدودها القصوى وتستنفد حالتها لنبدأ بعدها الموجة الصاعدة بأيدينا من جديد، أي التحكم بالعملية التاريخية.

الحزب أداة واعية

وهنا أضاف لينين قضية جديدة، نحن مضطرون أن نتوقف عندها وهي أن مفهوم الحزب عند لينين لم يكن قضية شباب متحمسين وشجعان يناضلون ضد الظلم والاضطهاد وغيره من أشكال القهر، بل تحول مفهوم الحزب عنده إلى شيء جديد، إذ أصبح مفهوم الحزب عنده أداة واعية للتحكم بالعمليات الاجتماعية، وأصبح الحزب أداة واعية للتحكم بالقوانين الموضوعية وفهم هذه القوانين واكتشافها والتحكم بمسارها، وقد قدم لينين بهذا الاكتشاف إنجازاً كبيراً لقضية الأحزاب ودورها، لذلك فعندما نقول إن هناك صعوداً وهبوطاً فنحن مضطرون لأن نتوقف عند هذه القضية ونفكر فيها. فمنذ أوائل الستينات بدأت الحركة الثورية العالمية بمختلف مكوناتها حركات تحرر وطني أو حركات عمالية، العد التراجعي لهذه القوى الذي تكرس بانهيار الاتحاد السوفييتي.. وبالتالي يجب أن نقلب زاوية الرؤية، إذ أنه ليس بانهيار الاتحاد السوفييتي تغيرت موازين القوى، وإنما بتغير موازين القوى العالمية التدريجي انتهى الاتحاد السوفييتي. فكيف جرى هذا التغيير؟ التغيير كان بطيئاً تراكمياً غير معلن. فالحركة الثورية العالمية في النصف الأول من القرن الماضي حققت انتصارين كبيرين، اختراقين كبيرين للجبهة الرأسمالية، هما: ثورة عام 1917 أولاً، وثانياً انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية وتشكيل منظومة الدول الاشتراكية وخروج الاشتراكية من الاتحاد السوفييتي إلى بلدان أخرى (بلدان المنظومة الاشتراكية).

في النصف الثاني من القرن العشرين، وبخاصة بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عندما انتصرت سياسة «بلا مشاكل»  التي قادها خروتشوف، كان جوهر هذه السياسة «بلا مشاكل يا شباب مع الرأسمالية، لماذا نوجع  رأسنا» حينها انتقلت الحركة الثورية من الهجوم إلى مواقع الدفاع وفي الوقت  نفسه انتقلت الرأسمالية العالمية إلى موقع الهجوم، وأخذت تعيد تنظيم قواها ومراكمتها لتحقيق انتصاراتها البطيئة التي لم نكن نراها، وهنا لا نستطيع أن نضع المسؤولية على مجموعة أو حزب، لأن القضية قضية مستوى معرفي ورؤية معرفية تحتاج إلى وقت لفهمها. لقد راكمت الرأسمالية تلك الانتصارات الصغيرة هنا وهناك من خلال العمل الحثيث والبطيء لتغيير ميزان القوى لصالحها مما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي تحت وطأة تغير ميزان القوى العالمي لصالح الرأسمالية وكنا نحن الشيوعيين نقول في تلك الفترة التي يجري فيها التغيير في ميزان القوى لصالح الرأسمالية، كنا نقول إن ميزان القوى يتغير لصالح قوى التقدم الاشتراكية والحرية، وأن الرأسمالية تتراجع تحت ضربات قوى الحرية والتقدم…

نهاية الردة

ما الذي تبين عام 1991؟ لقد تبين واقعياً العكس تماماً، بدليل ما جرى، وهو سقوط الاتحاد السوفييتي، لأن استراتيجية المواجهة التي بنيت من قبل فصيل هام بالحركة الثورية العالمية، الذي هو الحزب الشيوعي السوفييتي، والذي لا يجوز إنكار وزنه النوعي كقوة مادية (لأننا جميعاً رأينا ماحدث بالعالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي). القضية هي أن هذا الحزب، عندما لم يأخذ على عاتقه تغيير ميزان القوى العالمي لصالح حركة التحرر بالعالم، لصالح الحركة الثورية العالمية، حدث ما حدث. وللحق وللتاريخ أريد أن ألفت الانتباه إلى مسألة هامة وهي أن الحزب الشيوعي السوفييتي بين عام 1952 عام انعقاد المؤتمر الـ19 وعام 1956 العام الذي انعقد فيه المؤتمر العشرون كان هناك صراع بين مفهومين في الحزب:

المفهوم الأول ( وهذا ما حصل في المؤتمر الـ19 عام 1952) كان يقول حرفياً «لقد سقط علم الديمقراطية والتحرر من يد البرجوازية. وأن القوى الثورية هي القادرة على حمل هذا العلم» ـ وهذا الحديث كان عن بلدان العالم الثالث ـ.

والمفهوم الثاني: طرح المؤتمر العشرون عام 1956 مسألة التعايش السلمي (حتى لا نخيف الإمبريالية) ولا حاجة لحركة ثورية في العالم الثالث، وتجلى هذا الشيء بالتعامل مع القوى البرجوازية في تلك البلدان على أنها الأمل للمستقبل ودعم مواقفها السياسية ونسيان دور القوى الثورية الحقيقية.. ومن ثم تطور هذا المفهوم إلى طرح مفاهيم مثل «التطور اللارأسمالي» «بلدان التوجه الاشتراكي»… وغيرها من المقولات وكانت كلها تطمينات للإمبريالية، وهذا لعب دوراً هاماً بتغيير ميزان القوى العالمي بما يتنافى مع مصالح الشعوب.

موضوعياً كان يجري تراجع، والأحزاب التي كانت موجودة في تلك الفترة لم تكن ترى هذا التراجع، وبالتالي حدث تناقض بين الهدف المعلن وبين الواقع الملموس، كيف حدث ذلك؟ كان الهدف المعلن هو الانتصار على الإمبريالية وعلى الظلم، وانتصار الاشتراكية.     أما في الواقع الملموس فقد كان يجري الابتعاد عن هذا الأفق أكثر فأكثر منذ أوائل الستينات.. وكان لذلك انعكاسات على الأحزاب نفسها وعلى قياداتها وعلى الشارع أيضاً…

جذر الانقسام

كل مانراه اليوم من تشرذم وانقسام وتفتت على الساحة السياسية يكمن جوهره الموضوعي في التراجع غير الواضح وغير الواعي من قبل تلك القوى التي كانت مخلصة وتناضل من أجل التقدم والاشتراكية. ومعروف في تاريخ كل الحركات الثورية، أن الحركة عند التقدم تقوى وتتوحد وعند التراجع والهزائم تنقسم وتتشرذم وتبتعد  عن جماهيرها. أما عند التقدم والانتصار تزداد جماهيريتها. هذه الهوة، هذا التشرذم، هذا التفتت  يطرح علينا المشكلة الأساسية، وهذه نقطة انطلاق لنفهم ما يجري.

إذاً هناك تراجع موضوعياً، أنتج حالة انكفاء في الحركات السياسية الوطنية والتقدمية والثورية بغض النظر عن لونها. هذا الانكفاء، ونتيجة عدم فهم كنهه وسببه الحقيقي، أدى إلى حدوث انقسامات في تلك الأحزاب. لماذا؟ لأنه بدأت تظهر اجتهادات للإجابة عن تساؤلات مشروعة أهمها: لماذا نتراجع؟ لماذا تنفَضُّ الجماهير عنا؟ وكانت الإجابات كيفية ومزاجية. فالقضية ليست واضحة والحياة لم تحسمها بعد.

أدت الانقسامات إلى تقوقع عند هذه الأحزاب، والتقوقع أدى إلى تزايد الهوة بينها وبين الجماهير، وبالتالي الابتعاد عن الواقع وعدم فهم هذا الواقع وعدم التفاعل معه لدى هذه الأحزاب.

إن هذه الحالة أدت إلى إنتاج خطاب سياسي متخلف عند هذه الأحزاب وقياداتها، الأحزاب تتحدث عن شيء والجماهير تسمع شيئاً آخر، هذا هو جوهر المشكلة حتى هذه اللحظة.

إن السؤال المطروح: ماذا جرى للأحزاب في الحركة الثورية وحركة التحرر؟ الحزب الذي هو أداة للتغيير الاجتماعي. ومادام التغيير غير ممكن تحقيقه نتيجة صعوبة ذلك، ومادامت الآفاق غير واضحة، فقد تحول الحزب إلى هدف بحد ذاته وبقي الحزب معزولاً عن الجماهير وعن الشارع وعن الواقع، مما خلق عقلية معينة عند قيادات هذه الأحزاب جعلتها تنكفئ، ولكن إلى أين؟ إلى البحث عن المصالح والمكاسب الشخصية لا عن المصالح الحزبية، ولو كانت كذلك لبقيت جزئياً مكاسب عامة. لقد أصبحت قيادات هذه الأحزاب المهزومة موضوعياً، والتي مازالت لاتعي أنها مهزومة، أصبحت تبحث عن المكاسب والمصالح مادام الوصول إلى الهدف صعباً والآفاق غير واضحة بالنسبة لها مما جعلها تعمل في سياسة «دبر راسك» لأن هؤلاء القياديين الحزبيين  الذين يفترض بهم أن يسيروا باتجاه هدف معلن تصبح المكاسب الخاصة هامة جداً بالنسبة لهم من أجل استمراريتهم كقيادات في كثير من الأحيان.

ماهو الجديد اليوم؟

فما الجديد اليوم الذي يسمح لنا بأن نتحدث عن الوضع وكيفية معالجته، في سياق هذا التوصيف حول عملية التراجع التي بدأت منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، هذا التراجع الذي تكرس بانهيار الاتحاد السوفييتي وبتغير ميزان القوى ضد مصالح قوى التحرر والاشتراكية والديمقراطية. بعد هذا الانهيار أخذ المعسكر الرأسمالي وقتاً مستقطعاً مدته عشر سنوات يجرب خلالها حظه في استخدام كل الوسائل لحل المشكلات العالمية منفرداً. ولكنه لم يستطع حلها، ووصل بعد أحداث 11 أيلول 2001 إلى خيار وحيد هو الخيار العسكري وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق أزمة الرأسمالية، وإن هذه الأزمة مستعصية الحل لدرجة أن الحل العسكري هو خيارها الوحيد، وهذا يوصلنا إلى استنتاج وهو أن مرحلة المد للرأسمالية خلال الحقبة الماضية والذي استفادت منه وغيرت ميزان القوى العالمي ليصل إلى نهايته القصوى مقابل تراجع القوى الثورية منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، والذي فهمناه بشكل واضح في التسعينات من القرن الماضي. هذا التراجع قد توقف وانقلب اليوم بصورة عكسية حيث بدأت الظروف الموضوعية تحول الجَزْر إلى مد. فاليوم هناك ظرف جديد، هو ظرف تغير ميزان القوى لصالح الحركة الثورية العالمية وحركات التحرر التي هزمت في السنوات الخمسين الأخيرة وهذا ليس تفاؤلاً رومانسياً، بل تفاؤل مبني واقعياً على دراسة أرقام ومعطيات تنبئ بأن الرأسمالية العالمية اليوم ممثلة بطليعتها الإمبريالية الأمريكية ليس لديها مخرج من أزمتها الاقتصادية الاجتماعية إلا الحرب، والحرب ضد الدنيا كلها، ومعروف أن الحرب بالنسبة للرأسمالية هي تفريغ الشحنة.

الأزمة عندهم

إن حرب اليوم بالنسبة لمن يخططون لها هي حرب عالمية شاملة بلا حدود ولا زمان، وهي تتناسب مع حجم الأزمة التي يعيشونها، لذلك فإن السؤال: هل هم بأحسن حالاتهم أم بأسوئها ؟

إن النظرة السطحية للأمور من خلال أجهزة الإعلام الغربية والموالية لها تجعلنا نقول لن يستطيع أحد أن يقف بوجههم ففي حوزتهم قوى عسكرية هائلة وهم قادرون على حشدها بسرعة كبيرة، ولكن نظرة عميقة للأمور تعطي استنتاجات أخرى، ولعل أهم استنتاج، ولعله الوحيد، أنهم في أزمة مستعصية لامخرج منها وأنهم مضطرون إلى  خوض معركة عسكرية كبيرة من كوريا إلى جنوب شرق آسيا إلى أفغانستان، إلى الشرق الأوسط… كحل للمشكلة الاقتصادية، كحل للأزمة، وإذا لم يخوضوا معركة عسكرية كبيرة فهناك مشكلة اقتصادية يجب حلها في النهاية، وجوهر هذه المشكلة الاقتصادية سأحاول إيجازها بالتالي:  اليوم هناك كم من الدولارات في العالم، كتلة من النقد أكثر من حاجة العالم أو أكثر من حاجة الأسواق العالمية بخمسين مرة، وهذا الكم من النقد يمكن في أي لحظة أن ينهي الاقتصاد الأمريكي، وهذا يفهمه الأمريكان، لذلك فإن  الحرب الكبيرة هي المخرج بالنسبة لهم، ولكن ما معنى ذلك سياسياً؟ هذا معناه أن تلك المرحلة، مرحلة صعود ذلك النظام انتهت وبدأت مرحلة الانكفاء، وبالمقابل هذا يعني أن مرحلة انكفاء القوى الثورية قد غدت في طور الانتهاء وبدأ الانتقال إلى الصعود. ولكن أين المشكلة؟ المشكلة تماماً هي أنه خلال مرحلة تراجع هذه القوى في النصف الأخير من القرن الماضي والتي كانت غير مدركة له، وكانت عقليتها التي تتعامل فيها مع الواقع عقلية منتصرين لدرجة أنهم كانوا يظنون أنهم سيقضون على الرأسمالية غداً أو بعد غد. والمشكلة اليوم هي أنه تتوفر ظروف موضوعية لتغيير ميزان القوى شيئاً فشيئاً لصالح القوى الثورية والتحررية في العالم، ونرى أن عقلية الكثير من قيادات هذه الحركة هي عقلية مهزومين بعد الهزائم التي أصابتهم والتي كان أخرها انهيار الاتحاد السوفييتي، فهم حتى الآن لم يخرجوا من حالة الصدمة. هذه مشكلة يمكن معالجتها ويجب معالجتها وهي قابلة للحلِ.

نقل مركز الثقل الى الشارع

إن فهم الحالة ومواجهتها يمكن أن يسمح بمعالجتها. ولكن هناك مشكلة في البنى التقليدية لأحزاب الخمسينات ومازالت مستمرة حتى الآن، ولنأخذ تجربة أوروبا  على سبيل المثال ، ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أنه في العقدين الأخيرين حلت بنى جديدة محل الأحزاب التقليدية هذه القوى الجديدة تتميز بأمرين حسب وجهة نظر اليسار الأوروبي: الميزة الأولى وهي أن حدود هذه القوى غير محلية مثل المنظمات المعادية للعولمة، فهي ليست فرنسية أو إيطالية بل هي منظمات عالمية. والميزة الثانية هي أن هذه المنظمات، خلافاً للأحزاب، شعاراتها محددة غير عامة وأهدافها ملموسة، وعلى هذا الأساس تتشكل مئات المنظمات مثل المنظمة التي تقف ضد تشغيل الأحداث في العالم الثالث، ومنظمة للحفاظ على البيئة، ومنظمة لإلغاء ديون العالم الثالث.. هؤلاء بمجموعهم يحشدون مئات الألوف بل الملايين في الشوارع.

ولكن هذا لايعني أن دور الأحزاب السياسية، بالمعنى التقليدي قد انتهى وإنما أقصد أن الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة حتى الآن غير مدركة لوظيفتها الجديدة. وبما أن المجتمع لايقبل الفراغ، فإنه يعيد تكوين تلك المنظمات والبنى لتملأ ذلك الفراغ. لذلك فإن الحركة السياسية لم تتوقف مع تراجع الأحزاب السياسية التقليدية (فرنسا ـ إيطاليا وغيرها) بل هناك تقدم هائل للمنظمات غير التقليدية، المنظمات الجديدة التي عمرها بالسنوات فهي تكتسح الشارع وتسيطر عليه وشعارها الرئيسي هو العودة إلى الشارع. وبالتالي نقل مركز ثقل العمل كله إلى الشارع لمواجهة الرأسمالية ومواجهة العولمة المتوحشة، هذه المسألة تستحق الوقوف عندها و إمعان التفكير فيها.

إذاً هناك آفاق جديدة تنبئ بتقدم جديد من الناحية النظرية.

 

■ يتبع ■