الافتتاحية «الإضراب حقّ مشروع.. ضدّ الفقر.. ضدّ الجّوع»
هكذا هتف عمال مصر دفاعاً عن حقوقهم وبتصديهم لقوى القمع، وهم بتحركهم قد أثبتوا جملة من الحقائق يمكن تلخيصها بالتالي:
1 ـ تحرك شعبي بهذا العمق والاتساع هو تعبير جلي عن انفتاح الأفق التاريخي أمام القوى الثورية الصاعدة في العالم كله، أول ملامحه اليوم عودة الجماهير إلى الشارع لكي تأخذ حقها بيدها.. وهكذا تتكاثر بؤر المقاومة للعولمة المتوحشة، وهي إن كانت مبعثرة في بادئ الأمر إلا أنها بتطورها اللاحق ستشكل بقعة واحدة متصلة من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأقصى، حاسمة الصراع العالمي ضدها.. وإذا كانت حركة عمال مصر هي إضافة إلى بؤر المقاومة المختلفة التي تتشكل في منطقتنا من العراق إلى فلسطين إلا أنها إضافة نوعية جديدة، تبرهن أن كل شعب قادر على أن يبدع أشكاله النضالية الخاصة التي ترفع مستوى النضال العام إلى مرحلة جديدة.
2 ـ صدق من قال إن النظام الرسمي العربي الحالي (الذي يعيش حالة موت سريرية، والذي تمثل مصر الرسمية أحد واجهاته الرئيسية) لن يسقط إلا تحت ضربات العمال والإضراب.. وهذه الضربات هي التي تفتح الطريق نحو النظام الرسمي العربي الجديد الذي سيقوم على أنقاض القديم متحرراً من الإملاءات الخارجية والسياسات التدميرية الداخلية، الأمر الذي سيسمح للعالم العربي أن يعود ليحتل المكان الذي يستحقه على خارطة حركة التحرر العالمية...
3 ـ السقوط المدوي للسياسات الليبرالية الاقتصادية، فمصر التي كانت سباقة على غيرها في هذا الطريق قد وصلت إلى آخره، وجاء ما يحدث رداً على دعوات ليبراليينا المحليين الذين كانوا يدعوننا إلى الاقتداء بالتجربة المصرية، بل إنهم في كثير من الأحيان كانوا مقلدين مستنسخين لبعض ما جاء فيها، فكل ما قيل عن الازدهار والنمو المصري أسقطه عمال المحلة الذين يصيغون اليوم ملامح مستقبل مصر الأكيد...
لقد نزل عمال مصر إلى الشارع وهم يهتفون: «الإضراب حق مشروع ضد الفقر. ضد الجوع»، متجاوزين الحركة السياسية التقليدية بيمينها ويسارها والمعلبة بالأطر الرسمية، وصنعوا قياداتهم الميدانية ودفعوا إلى الأمام بتنظيمات سياسية جديدة كانت حتى الأمس القريب وليدة وضعيفة، ولكنها بالتقاطها للّحظة التاريخية تقدمت بأيام قليلة، وتجاوزت تنظيمات عمرها العشرات من السنين، مكونة بذلك فضاءً سياسياً جديداً، لم يكن ليتوقع أكثر المتفائلين منها حدوث هذه الاختراقات المذهلة.. إن عمال مصر الذين هبوا ليقتحموا السماء يرسمون اليوم ليس فقط الخارطة السياسية الجديدة في مصر بل أيضاً الخارطة السياسية الجديدة في العالم العربي كله...
إن ما يجري في مصر اليوم هو مقاومة أيضاً.. مقاومة تنضم لأخواتها في العراق وفلسطين ولبنان ضمن سمفونية واحدة، وإن اختلفت أدواتها إلا أن لحنها واحد وهو اللعنة ضد العولمة المتوحشة بكل إفرازاتها من حروب وقتل وجوع وفقر...
فيما يخص بلادنا نقول: ها قد تبين بجلاء الخط الأبيض من الأسود.. والحمدلله إن الوقائع والتطورات الإقليمية بأبعادها المختلفة باتت تشير إلى أن الوقت لم يعد كافياً وملائماً لفريقنا الاقتصادي الليبرالي كي ينفذ كامل برنامجه الذي سيوصلنا إذا ما نفذ إلى ما وصلت إليه مصر، مع فارق الزمان والمكان. فمصر اجتازت طريقاً من الركوع السياسي في كامب ديفيد إلى الركوع الاقتصادي أمام الإملاءات الخارجية وصولاً إلى ما يجري اليوم والذي سيعيد الأمور حتماً عاجلاً أو آجلاً إلى نصابها..
لقد أراد البعض عندنا، في البدء، إركاعنا اقتصادياً بسياساته الليبرالية، كي يمهد الطريق لركوعنا السياسي منهياً ممانعة سورية للمخططات الأمريكية- الصهيونية، ومتخلصاً من دعمها للمقاومات المشروعة في المنطقة.. ولكن حظه العاثر أمام مقاومة القوى الحية في المجتمع وجهاز الدولة، أخّره في تنفيذ ما يريد، وجاءت التجربة المصرية لتقول كلمتها الفاصلة.. فشكراً لعمال مصر الذين نقول لهم: لقد قدمتم لنا مساعدة لا تقدر بثمن في معركة إنزال الهزيمة بفريقنا الاقتصادي وسياساته الليبرالية.. وفتحتم لنا طريق النضال أوسع للانتقال إلى سياسات جديدة تنموية مستقلة تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الأكثرية الساحقة من الناس فقط لا غير، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..