كيف أصبحت شيوعياً؟

منذ أن بدأت كتابة هذه الزاوية، وصدى قول الجواهري ينبض ملء خيالي ويثير وجداني:

ستبقى _ ويفنى نيزك وشهاب _

عروق أبيات الدماء غضاب

لطاف كأنفاس النسيم لوافح

كريّاه.. صم كالصخور صلاب

هوت عذبات العمر إلا صوامدا

على لفح إعصار فهن رطاب

وجفّ وريق منه إلا ندية

تعاصت على الأيام فهي شباب

أولاء رفاقنا.. سنابل قمح وشقائق نعمان وائتلاق فكر وفيض عطاء عمّ رحاب الوطن من أقصاه إلى أقصاه..

ونفحة اليوم من أريج ساحلنا الرائع.

ضيفنا لهذا العدد الرفيق جرجس عيسى جرجس، وهو قيادي سابق ومناضل معروف وواحد ممن عركوا الأيام وعركتهم.

رفيقنا المحترم أبو جهاد نحييك ونسألك أن تحدثنا كيف أصبحت شيوعيا؟.

سؤال مباشر وعميق في الوقت ذاته، يحتاج إلى استحضار أحداث مسار أكثر من نصف قرن، ومن ثم تلخيصه في سطور معدودة تبقي ما يفيد وينفع، وبخاصة لدى شبابنا المقبلين على الحياة بدافع من حب الشعب والوطن.

أنا من مواليد مشتى الحلو عام 1932 من عائلة معيلها عامل نجار استجاب لأفكار العدالة شأنه شأن الكثيرين من أبناء شعبنا، فانحاز إلى صف المناضلين ضد  الإقطاع والظلم  والفقر، مع بدايات وصول الفكر العلمي إلى مشتى الحلو على يد فلاح من قرى سهل مصياف هو الرفيق بدر مرجان، الذي عمل في شراء وبيع البيض من الفلاحين، وكان يتجول في قرى سورية ولبنان، وعلى ما أعتقد، فقد كان ذلك غطاء لعمله الحزبي، وقد تعرف على مجموعة من شباب قريتنا، وراح يحدثهم عن الحزب الشيوعي وأفكاره الداعية لمكافحة كل صور الجور والاستغلال والقهر، وهكذا نشأت أولى الفرق الحزبية في قريتنا، وكان والدي أحد أعضائها الذين افتتحوا مكتبا للحزب في الساحة الرئيسية لمشتى الحلو.

ومن الحوادث التي مازلت أذكرها بوضوح تلك المظاهرة الكبيرة التي قام بها الرفاق في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 بمناسبة انتصار السوفييت على النازية، والهتافات التي كنا نرددها «بلمعة سيفك ياستالين... ضويت شوارع برلين»، وكذلك الاحتفال الحاشد في مقهى «تحت الدلبة» في المشتى. وكما هو معلوم فقد حدثت تطورات سياسية هامة فيما بعد على كل الأصعدة، ومع استفحال الأخطار على فلسطين وصدور مشروع التقسيم عام 1947 قامت السلطات الرجعية السورية بشن حملة هوجاء على الحزب الشيوعي السوري متهمة إياه بالموافقة على التقسيم، واعتدت على مكاتبه واعتقلت الكثير من الشيوعيين، وأغلق مكتب الحزب في المشتى، وبدأ عهد العمل السري، وترافق ذلك مع فترة الانقلابات العسكرية. في تلك المرحلة انتسبت إلى صفوف الحزب متأثرا إلى حد بعيد بمنبتي الطبقي الفقير وبمعاناة الفلاحين في بيئتي، وصرت أحضر الاجتماعات الحزبية والجماهيرية في صافيتا والمشتى، ومن الرفاق الذين أذكرهم باحترام وتقدير المحامي فايز بشور والأستاذ عبد الله دياب المدرس القادم من دمشق، وطالب الحقوق دانيال نعمة، وغيرهم..

لقد عملت في تلك الفترة بكل جد ونشاط مع رفاق منظمتي التي أذكر أن تعدادها بلغ قرابة مئة رفيق، كانوا موزعين على أكثر من عشرين فرقة حزبية، وفي تلك الفترة كلفت بمسؤوليات تنظيمية، حيث كنا نجتمع في بيوت سرية وفي مواقع آمنة في مغاور وأحراش مشتى الحلو، بعيدا عن عيون الدرك والجواسيس، ورغم ذلك العمل التنظيمي السري فقد كان نشاطنا السياسي فعالاً، وكنا نوزع البيانات والمنشورات، ونشرح للجماهير سياسة حزبنا في كل المجالات. ومن الأنشطة الهامة التي أذكرها باعتزاز تلك المظاهرة الكبيرة التي نظمها الحزب في العاصمة ضد حكومة رئيس الوزراء حسن الحكيم التي عقدت صفقة بترول مع شركة التابلاين الأمريكية، وقد أكدت قيادة الحزب على ضرورة مشاركة الرفاق من كل المحافظات بالمظاهرة وعلى الرغم من الظروف الصعبة آنذاك فقد شارك أكثر من خمسين رفيقا من تنظيمنا في تلك المظاهرة، حيث سرنا من المشتى على الأقدام ليلاً إلى حمص (حوالي خمسين كيلو مترا)، ومن هناك ركبنا في شاحنات إلى دمشق حيث انضممنا للمظاهرة، ورفعنا يافطاتنا المنددة بالتعامل مع المستعمرين الأمريكيين والإنكليز، وسارت المظاهرة باتجاه محطة الحجاز، وقريباً منها اشتبكنا مع قوى الشرطة التي قدمت بأعداد كبيرة، وتصدينا لهراواتهم بعصي قصيرة من السنديان كنا نحملها معنا دائما في المظاهرات ونخبئها داخل أكمام القمصان، وكانت معركة سقط فيها جرحى من الطرفين، وتم اعتقال عدد من الرفاق منهم: ظهير عبد الصمد ودانيال نعمة، وسقطت حكومة حسن الحكيم، وفي اليوم التالي نقلت الصحف أخبار ذلك، ومن هذه الصحف جريدة «الرأي العام» التي نشرت كاريكاتير  يوضح ما حدث من خلال نافذة مفتوحة يسقط منها رئيس الوزراء حسن الحكيم وحكومته واتفاقية التابلاين الأمريكية..

ويستمر النضال وتتكاثر الأحداث والمواقف الهامة لتخلف في البال شريط ذكريات حافلاً بالعمل والكفاح، ومنه على سبيل المثال ذكرى المظاهرة الضخمة التي قام بها طلاب دار المعلمين بقيادة رفاقنا، تلك المظاهرة التي جابت شوارع مدينة حلب، وانتهت باشتباك مع الشرطة اعتقلتُ خلاله ودخلتُ الزنزانة أول مرة.

وفي غمار النضال السياسي والطبقي، لم يتردد الرفاق في بذل التضحيات، وعانوا أهوال السجون والتعذيب، وقدموا الشهداء الذين سطروا بدمائهم تاريخ الحزب، وما نتحدث عنه الآن هو جزء بسيط من هذا التاريخ الحافل الذي ينتظر من يكتبه ليكون  شاهدا وحافزاً لمزيد من البذل والعطاء لخير جماهير الشعب وعزة وازدهار الوطن الغالي.

هكذا أيها الرفاق أصبحت شيوعياً، لقد كان النضال رغم صعوبته آنذاك يبث العزيمة والثقة بالنفس والاعتزاز بمجابهة المخاطر في سبيل الشعب والوطن. لقد كان حزبنا الشيوعي السوري حزباً ثورياً وشعبياً محاطاً بالجماهير، وكان حزبا قويا موحداً، أما اليوم، فأنا أتحدث والألم يعتصر قلبي من واقع الضعف والانقسام الذي ألم به، وأرى اليوم من واجبي مع جميع الشيوعيين المخلصين أن نعمل بكل ما نملك من جهد وإخلاص لإعادة الوحدة إليه، ليأخذ مكانه النضالي المطلوب، خاصة في هذه الظروف الصعبة التي يتعرض فيها وطننا الحبيب لمؤامرات وهجوم مستمر من الداخل والخارج.

إلى الأمام أيها الرفاق أينما كنتم للدفاع عن الوطن وملاقاة مطالب الكادحين بينهم ومعهم، إلى الأمام بنضال يستنبط ويعتمد أساليب جديدة ومعاصرة ضد الرأسمالية المتوحشة والسائرين بركبها..

آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 22:08